أنماط المعاصرة في اجتهاد الفقهاء المغاربة
خلال القرن الرابع عشر الهجري
أطروحة دكتوراه من إنجاز الباحث: الحسن بقشيش بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش، موسم 2021-2022م، وقد تكونت لجنة المناقشة من الأستاذ الدكتور: محمد خروبات رئيسا، والأستاذ الدكتور: رضا ابراهيم عضوا، والأستاذ الدكتور: هشام فتح عضوا، والأستاذ الدكتور عمر الدريسي عضوا، والأستاذ الدكتور: عبد الرزاق مرزوك مشرفا. ونال الباحث شهادة الدكتوراه بميزة مشرف جدا مع التنويه.
ملخص الأطروحة
الحمد لله الذي لا ينبغي الحمد إلا له، سبحانه من رب حكيم، جواد كريم، أعلى شأن المتفقهين في الدين، إذ جعلهم من خلصاء عباده المقربين، والصلاة والسلام على سيدنا أحمد بن عبد الله، النبي الأمي الشفيع، صاحب الوسيلة والمقام الرفيع، أفضل من نطق فأبان، وأجل من اجتهد واستنبط فأصاب، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وصحابته الغر الميامين، وكل من سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فهذه خلاصة مشروع بحث لنيل شهادة الدكتوراه، تناول بالدراسة موضوعا بعنوان «أنماط المعاصرة في اجتهاد الفقهاء المغاربة خلال القرن الرابع عشر الهجري» بهدف إبراز جهود الفقهاء المغاربة التي بذلوها في سبيل التوفيق بين أصالة التشريع الإسلامي ومعاصرة القضايا المستجدة في المجتمع المغربي خلال القرن الرابع عشر الهجري.
وقد استمد هذا الموضوع أهميته من تناوله قضية من قضايا الاجتهاد الشائكة، وهي طرق مواكبة اجتهادات الفقهاء المغارية لما جدّ من القضايا في مغرب القرن الرابع عشر الهجري، الموافق لأواخر القرن التاسع عشر وقسط كبير من القرن العشرين الميلاديين، وهي فترة زمنية شاهدة على اضطرابات سياسية واجتماعية واقتصادية أثّرت في الحياة العلمية والدينية على حد سواء، كما أثّرت في نمط العيش ومناشط حياة الناس كلها، نتج عن ذلك ظهور قضايا مستجدة تتوقف معرفة حكم الله فيها على مدى استعداد العلماء المجتهدين للبثِّ فيها بما حباهم الله به من سداد الرأي ورجاحة التفكير.
وبهذا يظهر أن الدراسة محاطة بثلاثة حدود رئيسة:
الحد الموضوعي: ويتجلى في محاولة إماطة اللثام عن أنماط معاصرة للاجتهاد المغربي المعاصر، فيما اعتمده رواده ومنظروه من وسائل الاجتهاد ومسائله لمواكبة قضايا العصر ومستجداته؛
الحد المكاني: ويتجلى في البحث فيما أنتجه ثلة من فقهاء المغرب الأقصى مما له علاقة بالاجتهاد الفقهي في القضايا المعاصرة؛
الحد الزماني: ويتمثل في دراسة قضايا اجتهادية، موضَّحةً بنماذج للمسائل التي أثارت انتباه المجتهدين المغاربة، خلال القرن الرابع عشر الهجري، محاولا انتقاء ما صلح منها لتغطية هذه المدة كلها، دون ادعاء الإحاطة والاستقصاء، سواء من حيث الموضوع، أو المكان، أو الزمان؛ إذ ذاك مما تؤلَّف في إنجازه الأسفار، وتفنى دون إدراكه الأعمار.
وأما المشكلة التي انطلق منها الباحث فهي الحاجة الدائمة والملحة إلى الاجتهاد الفقهي، لا سيما في العصر الحديث؛ لكثرة الوقائع المستحدَثة فيه وتشعُّبها؛ نتيجةَ التطور الملموس الذي طرق كلَّ باب من أبواب مصالح الناس على مستوى الأفراد والجماعات، وقد كان لزاما على المجتهدين مواكبةُ هذا التطورِ الهائل في اجتهاداتهم، إحقاقا لعالمية الإسلام وشموليته، وتحقيقا لوعد الله تعالى بتجديد الدين الإسلامي بما يضمن له الاستمرار والخلود.
وتأسيسا على ما سبق، فقد ظهرت في المغرب الأقصى خلالَ القرن الرابع عشر الهجري جهودٌ مباركة في العمل الاجتهادي كان لها الأثر الفعال، والإسهامُ المتميّز في إنشاء صلة وصل بين حاضر الفقه الإسلامي وماضيه التليد، كما كان لها الفضلُ المشكور في استمرار بناء صرحه بما يُلائِم قضايا المجتمع ومشكلاته، وينظِّم تصرفاتِ الإنسان وعلاقاتِه وفق منهج ربانيٍّ يراعي غايتَه الوجوديةَ في المعاش والمعاد، وقد كان كثير من تلك الجهود محل النسيان والإهمال ردحا من الزمن؛ إما لأسباب ذاتية كإقصاء ممنهج لها لقناعات سياسية أو انتماءات حزبية أو طائفية، أو لأسباب موضوعية كوجود عوائق حالت بين الدارسين وذاك التراث الفقهي المتراكمة عليه أكنّة النسيان في خزانات خاصة يستعصي على الباحثين الوصول إليه، بلْهَ الحصول عليه.
وقد جاءت هذه الدراسة في سياق محاولة التعريف بجانب من تلك الجهود ووصفِها، واستنطاقِ مناهجها في الاجتهاد؛ للكشف عن أنماط المعاصرة فيما اعتمده رُوادُها في هذه الفترة من وسائل الاجتهاد لربط واقع الناس المتغير بشريعة الإسلام الثابتة، باعتبارها ملاذَ الإنسان الآمنَ وطريقَه الحق لممارسة عبوديته الشاملة الكاملة لله تعالى، عبر الإجابة عن التساؤلات الآتية:
1ـ إلى أي مدى قام الفقهاء المغاربة خلال القرن الرابع عشر الهجري بالدور المنوط بهم في سد الفجوة بين التطور المجتمعي والتشريع الإسلامي؟
2ـ وما هي المؤثرات الداخلية والخارجية في فكرهم الاجتهادي تنشيطا للإنتاج وتوجيها للمنتوج؟
3ـ وما هي أنماط معاصرتهم للقضايا المستجدة في مغرب القرن الرابع عشر الهجري من حيث وسائلُ الاجتهاد ونتائجُه؟
4ـ وإلى أي مدى وُفّق الفقهاء المغاربة في هذه الفترة في إنتاج نظر فقهي جامع بين أصالة الشرع ومعاصرة الواقع؟
5ـ وما دور الاجتهاد الفقهي المعاصر في انتظام المجتمع المغربي في سلك الرقي الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، والفكري؟
وأما الأهداف المتوخاة من هذه الدراسة فهي:
ـ تأصيل حركة الاجتهاد في المغرب الأقصى خلال القرن الرابع عشر الهجري؛
ـ وضع الاجتهاد الفقهي في المغرب المعاصر في سياقه الزماني، مع رصد جانب من الجهود الكبيرة التي بُذلت فيه، وما نتج عنها من ثراء المادة الفقهية وتنوعها.
ـ تحليل أهم الأسباب والعوامل التي أثّرت في اجتهادات المغاربة إيجابا وسلبا خلال هذه الفترة؛
ـ الكشف عن أبرز الاتجاهات الاجتهادية وخصائصها في المغرب خلال هذه الفترة، من خلال تحليل بعض نماذجها؛
ـ رصد أنماط المعاصرة فيما اعتمده العلماء المغاربة في هذه الفترة من وسائل الاجتهاد لمواكبة قضايا العصر ومشكلاته.
وأما خطة البحث فقد استقرت – بعد فحص مصادر البحث وإجالة النظر في مادته العلمية – في مقدمة منهجية، وفصل تمهيدي، وثلاثة أبواب منطوية على فصول ومباحث، وخاتمة وفق الآتي:
أما المقدمة فقد خُصصت للتأطير المنهجي للبحث، حيث اشتملت على مشكلة البحث وأسئلته، وأهدافه، وأهمية الدراسة ودواعي اختيار الموضوع، ومنهج البحث فيه ومنهجيته، وحدود الدراسة، والدراسات السابقة، وخطة البحث، وصعوباته.
وأما الفصل التمهيدي، فقد مهدت فيه للبحث بنظرات دلالية في مفاهيم البحث الرئيسة، وهي الأنماط، والمعاصرة، والاجتهاد، وما يتعلق بها من المصطلحات في الفكر الفقهي المعاصر كالحداثة والتجديد والإصلاح.
وفي الباب الأول دراسة للاجتهاد الفقهي في المغرب من حيث تاريخه، وأطواره، والعوامل المؤثرة في نهضته المعاصرة، في فصلين اثنين:
أولهما لنظرة عجلى في تاريخ الاجتهاد الفقهي في المغرب، وأبرز بواعث نهضته المعاصرة.
وثانيهما للبحث في أسباب ثراء مادة الاجتهاد المغربي المعاصر وتنوع موضوعاته، وهي العوامل الداخلية المتمثلة في الحالة الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وعلاقتها بالنظر الفقهي في مغرب القرن الرابع عشر الهجري إيجابا أو سلبا، وكذا العوامل الخارجية المتمثلة في الاحتكاك بالأجنبي شرقا وغربا.
وأما الباب الثاني فقد انعقد ليكون تتويجا لما سبقه كاشفا النقاب عن أنماطِ مواكبة الاجتهاد المغربي المعاصر للقضايا المستجدة في المجتمع المغربي سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وفكريا، وأسبابِ بروزها، في فصول ثلاثة:
الأول: في أسباب ظهور الأنماط الاجتهادية في المغرب المعاصر، وهي الأسباب الموضوعية العامة، والأسباب الذاتية الخاصة بكل مجتهد.
والثاني: في الاجتهاد في المغرب المعاصر: بين الإفراط في دفع كل جديد مستحدث ورفضه، والتفريط في تسويغ كل وافد والشفع له مسايرة لمتغيرات الواقع.
والثالث في الكشف عن معالم النمط الاجتهادي المعتدل في المغرب المعاصر ومرتكزاته.
ثم ينعطف على البابين بابٌ ثالث ليكون تتميما وتتويجا لهما بذكر طائفة من مُثُل تطبيقية لاجتهاد الفقهاء المغاربة خلال القرن الرابع عشر الهجري للكشف عن أصالة مرجعيتها ومعاصرة تنزيلها، وقد انتظمت مادته في فصول ثلاثة:
أولها للقضايا الاجتهادية في المجال الصحي.
وثانيها لميدان التربية والتعليم.
وثالثها للمجال الاقتصادي والمالي.
وفي الختام، انتهت الدراسة إلى نتائج مهمة توصل إليها الباحث أثناء اشتغاله بإنجاز البحث، بالإضافة إلى إيراد جملة من التوصيات، علّها تفتح آفاقا أخرى للبحث في موضوع التراث الفقهي المغربي المعاصر، وهذا ملخصها:
أولا: النتائج:
(1) ملاحظة وجود طفرة فقهية نوعية في الفترة موضوع هذه الدراسة بسبب ما جرى من التفاعل الإيجابي بين الفقه والعوامل الداخلية على مستويات مختلفة: فكريا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وهو ما يفسر ثراء موضوعاته وتعدد القضايا التي استأثرت بعناية الفقهاء المغاربة في هذه الفترة.
(2) كما لم تكن تلك الطفرة الفقهية النوعية بمنأىً عن التأثيرات الخارجية كذلك؛ بفضل تفاعلها مع ما شهده المشرق الإسلامي من التنادي بالتجديد الفقهي واعتماد الشريعة الإسلامية منطلقا للإصلاح المجتمعي الشامل، دون سلب ما للحركات الإصلاحية المغربية من الخصائص والمميزات.
(3) كما كان لعوامل الاحتكاك بالغرب دور لا ينكر في بروز قضايا ونوازل جديدة في المجتمع المغربي، فتحت أعين الفقهاء وفتقت أذهانهم فشمروا عن سواعد الجد في سبيل مواجهة مدها والبحث عن موقف الشرع مما حملته من الأقضية الجديدة، وهو ما أسفر عن تعدد أنماط الاجتهاد في مواكبتها.
(4) لم يكن تفاعل الفقهاء المغاربة مع القضايا المتسربة من الحضارة الغربية رغبة منهم في استمداد عوامل التطور والرقي من تجاربهم فحسب، بل كان رهبة من تسلطهم على هوية الأمة والاستيلاء على خيراتها باسم التحديث، خاصة وأن التدخل الغربي في شؤون المغرب وقتذاك كثيرا ما يظهر بمظهر الفكر والعلم والقوة، تمهيدا للوصول إلى منابع ثروة المغرب واستغلالها شر استغلال.
(5) كان للتفاعل بين الفقه والسلطة أثر إيجابي كذلك في إثراء الحقل الفقهي في مغرب هذه الفترة، من خلال دأب السلاطين والقادة على استشارة الفقهاء في المسائل الشائكة، التي تلم بالأمة قصد استجلاء الرأي الشرعي فيها، رغم ما يشوب هذه العملية من شوائب ذات التعلق بالمساحة الحرة، التي تتاح للفقيه لإبداء رأيه بموضوعية تامة.
(6) نتج عن التفاعل بين الفقه والسلطة في هذه الفترة ظهور منحيين رئيسين للفتوى الفقهية: أما الأول فيغلب عليه مسايرة الدولة في توجهها ورؤيتها للإصلاح المجتمعي، وأما الآخر فقد اختار المجابهة والمعارضة، لما يرى فيما تأتيه السلطة الحاكمة من مجرد تنفيذٍ لأوامر القوى الاستعمارية، مع ملاحظة تفاوت مراتب المسايرة والمجابهة لدى الطرفين.
(7) بناء على هذه التأثيرات المختلفة في العمل الفقهي في مغرب هذه الفترة، فإنه من الإجحاف في حق الفقهاء، تحميل المسؤولية الكاملة لهم في فشل كثير من المحاولات الإصلاحية في المغرب المعاصر، دون استحضار تلك العوامل وما يحيط بها، ودون الأخذ بالاعتبار المكايدَ التي كانت القوى الاستعمارية تَكيدها لهم، محاوِلةً إبعادهم عن مراكز القرار المؤثر.
(8) لذا، ينبغي الحذر من اتهام الفقهاء – جزافا – بالوقوف في وجه كل جديد متوسَّم فيه الرقي والتحديث عنوة، واتخاذ بعض من يجري وراء الواقع السياسي ويسايره قصد الاستفادة من غنائمه الآنية قاعدة عامة للحكم على الجميع.
(9) رغم اصطباغ بعض المحاولات الاجتهادية بصبغة الجمود والانطواء على الذات في وجه بعض المستحدثات الوقتية، إلا أن كثيرا منها لم يخرج عن دائرة الاجتهاد المشروع المنطلق من قواعد وأصول يراها المجتهد مناسبة لتنزيل الحكم في واقعة ما، مراعاة للواقع والمآل، بغض النظر عن الصواب والخطأ، وهم مأجورون على كل حال ما دام الإخلاص في الاجتهاد حاصلا، وشروطُ ممارسته مستوفاةً.
(10) يلاحظ أن كثيرا من الاجتهادات الشاذة والفتاوي الناشزة، لا تعدو أن تكون اختيارات فردية، يرى أصحابها وجاهتها في الزمان والمكان الصادرة فيهما، وليست منهجا سائدا يسير عليه الفقيه المجتهد في كل ما يصدر عنه من آراء اجتهادية؛ لذلك ارتأى الباحث تصنيف أنماط المعاصرة في تلك الاجتهادات، تصنيفا مؤسسا على النماذج الاجتهادية وليس على الأشخاص، وإن كان طابع الجمود على الظاهر يغلب تارة، ونظيره المبالغ في التسويغ والمسايرة تارة أخرى.
(11) كان القصد من تناول أنماط المعاصرة في اجتهاد الفقهاء المغاربة، خلال القرن الرابع عشر الهجري في هذا البحث، افتحاصها وتبيُّن مكامن الخلل والقصور فيها؛ رجاء الاستفادة من صالحها، وتجنب الوقوع في مزالّ الشاذ منها، بما يخدم الفقه الإسلامي ويعيد ريادته والمكانة السامقة التي يستحقها في المجتمع.
(12) لم يكن عمل المجتهدين المغاربة في هذه الفترة، ليخرج عن القواعد المؤطرة للاجتهاد الفقهي الإسلامي بشكل عام، إلا أن بعضهم نالت آراؤه الاجتهادية حظا من التميز، من خلال حسن توظيف تلك القواعد، في إثارة قضايا جديدة من زوايا أخرى غير مألوفة، وهذا مرده إلى تضلع كثير من فقهاء هذا الوقت في فقه الواقع والمآلات، بفضل اقتحامهم للمجال السياسي والاقتصادي، وقربهم من واقع الناس ومعايِشهم، دون إغفال ما كان لكثير منهم من المعرفة المعتبَرة، بما أنتجه العقل الغربي وأبدعه في مجال الحداثة والتمدن.
ثانيا: التوصيات:
(1) على الرغم من الجهود المبذولة في دراسة الفكر الفقهي لهذه المرحلة، فإن هذا الحقلَ لا يزال مرتعا خصبا، وبابه مفتوح على مصراعيه يمكن للدارسين ولوجُه من أي أبوابه أرادوا، ونظرا لمكانة هؤلاء الفقهاء العلمية والوطنية، فإن الباحث يوصي بمزيد دراسة لتراثهم الفقهي، لاكتشاف ما انطوى عليه من مباحث وقضايا، التي قد تميط اللثام عن كمين أسرار هذه الفترة المهمة من تاريخ المغرب، وقد تسهم في التخلي عن كثير من الحلول الخارجية المستوردة، لحل مشكلاتنا في التعليم والصحة والاقتصاد والاجتماع وغير ذلك.
(2) ولا بد – في البداية – من أن تنحوَ جهود الباحثين – في هذا المضمار – نحو التحقيق العلمي الرصين، القادر على إخراج تراث هذه الفترة المخطوط، من أسر المكتبات الخاصة والعامة، وإتاحته للبحث والدراسة.
(3) يحتاج هذا الحقل إلى دراسات علمية موضوعية بعيدا عن التجاذبات الفكرية، والتقاطبات الإيديولوجية والسياسية؛ إذ هي الكفيلة بإعطاء صورة كاملة واضحة، قادرة على إجلاء مواطن التأسي والاعتزاز فيه، والكشف عن مواطن النقص في هذا الموروث، لاستدراك ما فيه من خلل في التنظير وقصور في الممارسة، للإسهام في الإصلاح المنشود في شتى المجالات، بانخراط فعال للفقه الإسلامي، وإعادة نشاطه وتفاعله مع سيرورة حياة الناس وواقعهم كما كان، باعتباره الموجه المخلص والناصح الأمين.
(4) لا تتأتى الاستفادة من ذلك التراث والانتفاع به، إلا بالوصل بين الماضي والحاضر، وإكمال اللاحق ما بدأه السابق، في سلسلة متصلة الحلقات؛ فالعمل البشري دائم الحاجة إلى من يسدده ويوجهه مهما كان، كيما يتجنب العثرات ويأمن إعادة إنتاج التجارب المجانبة للصواب؛ إذ لا عصمة إلا للأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام.
(5) وجوب تبني مراكز للبحث والدراسات العلمية، تعنى بالموروث الفقهي المغربي عامة ونماذج الإبداع منه على الخصوص، ودعمها من الجهات الرسمية لتقوم بمهامها على الوجه المطلوب.
(6) من الواجب – كذلك – التفكير في كيفية انتشال هذا التراث وطرق إسعافه، بدءا بترميمه وفهرسته، وتثنيةً باستغلال الثورة الرقمية التي يعرفها التطور المجتمعي بإحداث مواقع إلكترونية، وربطها بقواعد بيانات تسهل الاستفادة من هذا التراث، أسوة بما عليه الحال الآن لدى الأمم الأخرى.
(7) الوعي بأن إخراج تراث من سلف ودراسته ليس مقصودا لذاته، بل لإكمال مواطن النقص في مناهجه غير المنضبطة، واستثمار ما صلح منه ليكون منطلقا لبناء منهجيات اجتهادية مثمرة، تلبي الحاجة الآنية والملحة لاجتهاد معاصر حي يتفاعل مع الواقع، ويعالج مشكلاته الراهنة، ويستشرف المستقبل بما يتلاءم مع مرونة التشريع الإسلامي وحيويته المنافية للتقليد والجمود.
هذا ما رمت بسطه في هذا العمل القاصر، والحمد لله على نعمة التمام، ولا حول ولا قوة إلا به، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.