الفضاء الثالث في الرواية العربية المعاصرة دراسة في ضوء نظرية ما بعد الكولونيالية عنوان أطروحة دكتوراه من إعداد الباحث: حسن الناجي بكلية اللغات والآداب والفنون جامعة ابن طفيل القنيطرة خلال السنة الجامعية: 2023-2024.
وتكونت لجنة المناقشة من السادة الأساتذة : محمد هموش مشرفا، ثرية وقاص عضوة ومقررة، محمد صبري عضوا ورئيسا، إسماعيل الموساوي عضوا ومقررا، ومعاذ أوزال عضوا ومقررا.
تقرير المناقشة
إشكالية البحث:
لقد استمد هذا العمل راهنيته من كونه يندرج في سياق الدراسات الثقافية ونظرية ما بعد الكولونيالية، التي انتشرت وذاع صيتها في العقود الأخيرة. والتي تتخذ شعار إعادة الاعتبار للسياق العام المنتج للنص والعمل الإبداعي، وللمضمون الثقافي والسياسي باعتبارهما ظروفا مسهمة في ولادة العمل الإبداعي. وذلك ردا على الدراسات النصية التي فصلت العمل الإبداعي عن شروطه وسياقاته المختلفة المتحكمة فيه.
كما تستمد الأطروحة هذه الراهنية أيضا؛ من خلال خوضها تجربة جديدة في النقد والتحليل الأدبيين. تجربة تعمد إلى التعامل مع بعض المفاهيم المؤسسة للنظرية ما بعد الكولونيالية عند روادها؛ على أنها آليات إجرائية في دراسة وتحليل الأعمال الأدبية؛ بغية استكشاف مضمونها الثقافي الرافض للفكر الكولونيالي، والمنتقد له.
بناء عليه فإن الأطروحة والموسومة ب”الفضاء الثالث في الرواية العربية المعاصرة: دراسة في ضوء نظرية ما بعد الكولونيالية“؛ توزعت على بابين وستة فصول وأربعة عشرا مبحثا. وتعالج إشكالية تقريب مفهوم الفضاء الثالث من النقد العربي المعاصر، والتأكد من كونه مفهوما نقديا له شروطه وخصائصه ومعاييره النقدية التي تخول لنا تجريبه كما جاء به هومي بابا في كتابه “موقع الثقافة”، في دراسة وقراءة نماذج روائية عربية معاصرة دراسة وقراءة ثقافية ما بعد كولونيالية. مما يعني أن الغاية التي وجهت هذه الأطروحة تمثلت في تفسير تلك العلاقة المفترضة بين نظرية ما بعد الكولونيالية والرواية العربية من جهة، وفي تقريب مفهوم الفضاء الثالث من النقد العربي المعاصر من جهة ثانية، وفي دراسة نماذج روائية عربية ما بعد استعمارية من جهة ثالثة من خلال التوسل بهذا المفهوم بوصفه مفهوما نقديا له شروطه وخصائصه ومعاييره النقدية، وذلك كما جاء به هومي بابا.
تستحضر هذه الأطروحة السياق الثقافي والسياسي والاجتماعي والإطار الزمني الذي أنتجت فيه نظرية ما بعد الاستعمار، استحضارا يروم كشف التجربة الاستعمارية، وإعادة قراءتها من منظور المستعـــمَـــر والمضطــــــــهَــد والمهمش والمهاجر واللاجئ، ومن ثم فضح البنيات الثقافية والمقولات الفكرية والمفاهيم السياسية والغايات الاستعمارية الخفية…التي كانت خلف الإمبريالية.
وبعبارة أخرى فقد ترواحت أهدافنا في الأطروحة؛ بين جلاء تلك العلاقة المفترضة بين الثقافة والإمبريالية من جهة، وبين الثقافة والخطاب الاستعماري من جهة ثانية، وبين استثمار مفهوم الفضاء الثالث عند هومي بابا، والمفاهيم التي تتقاطع معه في إطار نظرية ما بعد الكولونيالية بحيث عملنا على تجريبه واختباره على نصوص روائية عربية معاصرة، انخرط كتابها في نقد التجربة الاستعمارية من جهة، وانخرطوا من جهة ثانية في كشف وفضح المرحلة السياسية والاجتماعية والفكرية التي أعـقبتها مباشرة، أو ما اصطلح عليها بمرحلة “الاستقلال”؛ وفي دراسة وتحليل بنياتها الثقافية من ناحيتي المستعـمِـــر والمستعمَــــر على حد سواء من جهة ثالثة.
لقد مكنتنا هذه الإشكالية من مخاطبة تلك الأفكار ما بعد الكولونيالية، وشرح التجربة الامبريالية، وفضح رغبة الغرب في الهيمنة، والسيطرة، وترسيخ التفوق. وذلك توسلا بمفهوم الفضاء الثالث بوصفه مفهوما نقديا، تحققنا من قابليته للتطبيق والأجرأة، ومن ثم أقررنا بكونه يصلح أن يكون-كما أراد هومي بابا نفسه- بديلا متجاوزا لتلك الثنائيات الضدية التي صاغها أستاذه إدوارد سعيد، واشتغل في إطارها، عندما أكد بواسطتها على استمرار الصدام والاختلاف الجذري بين الغرب والشرق من جهة، أو التماهي معه من جهة ثانية.
هنا يأتي الفضاء الثالث عند هومي بابا بوصفه مكانا أو فضاء قائما بين العالم الأول، الذي يمثله الغرب والدول الأوروبية، والإمبراطوريات الغربية التي مارست الاستعمار وكانت فاعلة فيه، والعالم الثالث الذي يمثله الشرق، والدول المستعمَــرة عموما في كل الكرة الأرضية؛ وكانت مجسدة للمفعولية فيه.
فرضية البحث
بناء على هذه الإشكالية افترضنا أن نظرية ما بعد الكولونيالية؛ نظرية نقدية وفكرية قامت على فكرة الهدم والتفكيك وإعادة البناء: هدم التواريخ الكولونيالية، وتفكيك بنياتها الفكرية التي كانت وراء الامبريالية الجغرافية، والهيمنة الثقافية من جهة، وبناء وكتابة تواريخ جديدة؛ تصنف على أنها تواريخ ما بعد كولونيالية تصدى لتدوينها كتاب، ومثقفون، ومفكرون ما بعد كولونياليون من جهة ثانية.
وهي فرضية ارتبطت بفرضية ثانية مفادها؛ أن مفهوم الفضاء الثالث الذي جاء به هومي بابا؛ يشكل مفهوما نقديا له شروطه وسياقاته ومعاييره التي يشتغل بناء عليها، والأدوات القرائية التي يمكنها أن تضطلع بمهمة إعادة قراءة التاريخ من منظور ثقافي مخالف للمنظور الرسمي والكولونيالي، وبعيدا عن العلاقات الثنائية المتضادة، والثنائيات الضدية التي تضع المستعمِر مقابل المستعمَر، والذات/الأنا مقابل الآخر.
كما افترضنا في هذا الإطار أن الرواية العربية بصفة عامة، والمغاربية بشكل خاص؛ شكلت الفضاء الإبداعي، والكتابي الذي استطاع عبره بعض الرواد بلورة مسألة الرد بالكتابة على كل المغالطات والأفكار الاستعمارية والامبريالية التي تنطوي عليها المنظومة الفكرية والثقافية الغربية والمركزية. على أننا اختزلنا هذه الفرضيات وغيرها في فرضية واحدة جامعة، عملنا على التحقق منها والاشتغال بها على مدار هذه الأطروحة، تلكم هي الفرضية التي تنطلق من افتراض مؤداه:
أن مفهوم الفضاء الثالث -بوصفه مفهوما ثقافيا مابعد كولونياليا- يشكل مفهوما نقديا، ونشاطا فعالا في القراءة: قراءة النصوص الروائية، ووسيلة نقدية في تفكيك البنيات الفكرية والثقافية والسياسية الكولونيالية، والأداة التي يمكنها أن تنقل الحديث عن مفهوم الهوية من العالم الواقعي القائم على الثنائيات الضدية، إلى عالم تخييلي يبني عالما تخييليا موازيا على المستوى التنظيري، تكون فيه جميع الهويات والثقافات على مسافة متكافئة بعضها مع بعض.
ميزة الأطروحة:
تتمثل ميزة هذه الأطروحة أولا في جدة موضوع اشتغالها؛ فنظرية ما بعد الكولونيالية تعد مبحثا معرفيا وأدبيا ونقديا جديدا، إذ لا يتجاوز تاريخ ظهوره أربعة عقود ونيف، ويؤرخ له بصدور كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد سنة 1978م والذي أعلن به ودشن بموجبه حقل الدراسات ما بعد الكولونيالية بوصفها حقلا معرفيا يتخذ من الحقبة الكولونيالية والدراسات الكولونيالية موضوعا له، ويوجه انتقاداته لعمايات الاستعمار بشتى أشكاله خاصة الثقافي منه. كما يبحث في البنيات الثقافية والفكرية التي كانت وراء العملية الامبريالية التي بدأت منذ أوائل القرن التاسع عشر ولم تنته إلى الآن.
وتتمثل تلك الميزة ثانيا في جدة و”أسبقية” الاشتغال على أحد أقطاب نظرية ما بعد الكولونيالية متمثلا في الناقد الأمريكي ذي الأوصول الهندية هومي بابا Homi Bha Bha، وتتجلى ثالثا في التوسل بأهم مفهوم جاء به لدراسة وتحليل نصوص روائية عربية تنتمي إلى الدراسات ما بعد الكولونيالية، دراسة تركز على الجانب الثقافي بشكل أكبر. وهو مفهوم أصل له صاحبه في كتابه المشهور” موقع الثقافة” “The Location of cultuer” بشكل مفصل ودقيق من تجريبه على أعمال غربية مشهور من قبيل رواية “محبوبة” لتوني موريسون، ورواية “السرير” “La Cama” لأوزوريو وغيرهما من الأعمال الروائية التي اختارها لتجريب مفهوم الفضاء الثالث بوصفه مفهوما نقديا.
أما الإضافة التي سجلتها هذه الأطروحة، زيادة على ما أشرنا إليه أعلاه؛ فيمكن حصرها في الرغبة في تقريب مفهوم الفضاء الثالث من النقد العربي المعاصر، بالنظر إلى ما يتسم به هذا المفهوم من قدرة على التحليل والتفكيك وإعادة التحديد. خاصة تفكيك التواريخ الكولونيالية، وتواريخ الانتهاكات والظلم والاضطهاد . ولعل أهم إضافة وقعنا عليها في هذه الأطروحة؛ هي وقوفنا من خلال الدراسة والتجريب على نقدية هذا المفهوم ، وهو الأمر الذي وصلنا إليه بالتجريب والممارسة والتطبيق، حيث استطعنا أن نبرهن على هذه النقدية بتوفرها-كما أسار إلى ذلك صاحبه هومي بابا في كتابه “موقع الثقافة”- على معايير نقدية جعلت منه مفهوم نقديا ونشاطا في القراءة والتحليل. ولعل هذا يشكل أهم النتائج التي توصلنا إليها في الأطروحة ككل بالإضافة إلى نتائج أخرى سنشير إليها في الاستناجات.
الدراسات السابقة:
وبالعودة إلى السياق العربي، وما راكمه من دراسات سابقة، ومراجعات نقدية ضمن خطاب ما بعد الكولونيالية، فإن الملاحظة الأولى التي يمكن تسجيلها بهذا الخصوص؛ هي تعبير إدوارد سعيد عن “شكوكه في وجود مدرسة نقدية ما بعد كولونيالية في الثقافة العربية كما توجد في الهند”بعد صدور كتابه “الاستشراق”، وأن النقد العربي تلقى “الاستشراق” “باختزالية بين مرحب ورافض” من جهة، وبين العاطفة والانفعالية والانطباعية من جهة ثانية، ناهيك عن رفض الماركسيين وضع ماركس ضمن ساحة الامبريالية. على أن هناك من اعتبر “منجز إدوارد سعيد النقدي؛ من أهم المنجزات التي ميزت ثورة النقد في القرن العشرين”إلى جانب إنجاز “بير بورديو”، كما عبر عن ذلك الناقد “صبري حافظ” في مقاله المشهور “قرن النقد والنظرية الأدبية” المنشور في مجلة الكلمة الإلكترونية.
أما الملاحظة الثانية التي سجلناها في إطار علاقة النقد العربي المعاصر بخطاب ما بعد الكولونيالية؛ فهي كون هذا الخطاب ما بعد الكولونيالي، خطابا غير منجز نهائيا. أي أنه لا يزال منفتحا على”الأخذ والرد، بدليل كثرة الإصدارات حوله”، كما أكد ذلك الباحث إدوارد سعيد.
هذا؛ ناهيك عن إشارة رامي أبو شهاب؛ إلى أن استقبال كتاب “الاستشراق” في النقد العربي المعاصر؛ انصب أولا حول شخصية إدوارد سعيد، لا حول فكره، بالنظر إلى أصوله العربية. ثم انصب ثانيا-وبشكل محتشم- حول “الاستشراق”، قبل أن يدور حول خطاب ما بعد الكولونيالية، مما أبقى النقد العربي بعيدا عن طروحات إدوارد سعيد الفكرية والمعرفية والنقدية الحقيقية؛ كما أراد لها إدوارد سعيد أن تصل من جهة، وجعل احتكاك النقد بكتابه المذكور بسيطا، لم يتعد ترجمة واحدة في البداية(كمال أبو ديب: سنة 1980م عن منشورات مؤسسة الأبحاث العربية في بيروت).
ثم ترجمة ثانية فيما بعد(محمد العناني: سنة 2006م عن دار رؤية المصرية)، وهي ترجمة سطحية لم تتجاوز الاهتمام بالأمور الهامشية في الخطاب: كالتعريف بموضوعه، ومفاهيمه، وقضاياه، ناهيك عن التأخر في ترجمة المراجع المؤسسة له كما هو الشأن مع إدوارد سعيد وكتبه. وهذا ما دفع بعض النقاد إلى التفكير في ترجمة ثالثة ورابعة لكتاب الاستشراق؛ على غرار ما فعله السوري “نذير جزاماتي” سنة 2016م، والأردني “محمد عصفور” عندما ترجمه عن دار الآداب اللبنانية سنة 2021م.
غير أن هذا كله، لا ينفي وجود بوادر نظرية ما بعد الكولونيالية في النقد العربي، كما لا ينفي حضور مظاهر لهذا الخطاب باعتباره اتجاها معرفيا، وتيارا نقديا جديدا جاء لتجاوز فكرة اختزال العمل الأدبي في لغته مع البنيوية؛ التي ركزت اهتمامها على البنى، والأنظمة والأنماط، والأنساق اللغوية الثابتة والواحدة في فهم وتحديد المعنى داخل النص، وربطت رؤيتها للأدب/النص بتلك العلاقات الثنائية بين الدال والمدلول وغيرها من الطروحات التي أغفلت السياقات المنتجة، وتجاهلت المؤلف للعمل الأدبي، وتعويضها (فكرة البنيوية) بفكرة إعادة الاعتبار للسياقات المنتجة للنص من جهة، وبفكرة عدم الثبات في صياغة المعنى الذي يبقى متغيرا ومفتوحا على تأويلات عدة داخل النص من جهة ثانية.
بناء الموضوع:
لقد تطلب منا تحليل وتفسير هذه الإشكالية، والإجابة عن هذه الأسئلة المتولدة عنها، التوفر على عُدَّة نقدية أكاديمية ، تعتمد في المقام الأول على مجموعة من المراجع النقدية المعتمدة في هذا الإطار، لكبار النقاد الغربيين والعرب، الذين اشتغلوا ويشتغلون بنظرية ما بعد الكولونيالية، سواء في النقد الغربي أو النقد العربي. وتعتمد في المقام الثاني على المقاربة البينتخصصية التي تعتقد أنها تصلح لمثل هذه المواضيع والأبحاث والأطاريح، تروم تجريب مفاهيم نقدية غربية ما بعد كولونيالية في النقد العربي المعاصر.
وتعتمد في المقام الثالث على خطة وتصميم يمكناننا من عرض الأطروحة، ومناقشة إشكاليتها، والإجابة عن الأسئلة المطروحة بدقة، ومن التحقق من الفرضية، أو الفرضيات التي سنقترحها للإشكالية. وتقوم في المقام الرابع على ترسانة من المفاهيم ذات الصلة الوطيدة بنظرية ما بعد الكولونيالية والدراسات الثقافية من جهة، وعلى صلة -لا تقل عن الأولى- بمفهوم الفضاء الثالث عند هومي بابا من جهة ثانية.
في هذا الإطار اتخذنا للباب الأول عنوان: “الفضاء الثالث في نظرية ما بعد الكولونيالية”؛ وقفنا في الفصل الأول منه على مفهوم ودلالات وتعريفات نظرية ما بعد الكولونيالية من وجهة نظر المشتغلين بها، بحيث اتخذنا له عنوانا اختزلناه في: “نشأة نظرية ما بعد الكولونيالية وتكونها”؛ تعرضنا في المبحث الأول منه للإرهاصات السابقة على إسهامات أهم رواد ما بعد الكولونيالية، الذين توجد بينهم وبين هومي بابا؛ بعض التعالقات في الآراء والأفكار وطرائق التناول. ولعلنا نقصد هنا عمودَي الثالوث المقدس في الدراسات الثقافية، وما بعد الكولونيالية: إدوارد سعيد باعتباره رائدا، وكياتري سبيفاك، إلى جانب هومي بابا. دون أن نغفل أثر فرانز فانون، وميشيل فوكو، وجاك لاكان عليه وعلى أفكاره. ثم عرضنا لأهم المفاهيم الأساسية التي قاربها هومي بابا في كتابه السالف الذكر؛ كالكولونيالية على سبيل المثال والخطاب الكولونيالي، والحداثة وما بعد الحداثة، وما بعد الكولونيالية، ونظرية ما بعد الكولونيالية، والخطاب ما بعد الكولونيالي، والدراسات الثقافية.
ثم بعد ذلك عرضنا لمرجعيات ومنطلقات هومي بابا الفلسفية، والأدبية والنقدية؛ التي استند إليها في سبيل بناء وتكوين مشروعه الثقافي، وصرحه الفكري والنقدي. وأخص هنا بالذكر أهم ما أفاده من كل من أنطوني غرامشي وجاك لاكان وميشيل فوكو وجاك ديريدا وإدوارد سعيد وغياتري سبيفاك وفرانز فانون. على اعتبار أن هومي بابا تأثر بتجارب هؤلاء الكبار في بناء مشروعه النقدي. كما وقفنا فيه على دوافع وموجهات ما بعد الكولونيالية في النقدين الغربي والعربي في إطار العلاقة بين الأنا والآخر.
ووقفنا في المبحث الثاني من الفصل الأول، والذي اخترنا له عنوان:” الثالوث المقدس والتأسيس لنظرية ما بعد الكولونيالية”، على طروحات الرواد في هذا الإطار، مع الإشارة إلى أهم المفاهيم المفاتيح التي تحيل عليهم: إدوارد سعيد والاستشراق، كاياتري سبيفاك والتابع، وهومي بابا والفضاء الثالث. على أن نفصّل بعد ذلك في طروحات هومي بابا بشكل أكثر عمقا؛ بالنظر إلى كونه محور هذه الدراسة من خلال بنية مفاهيميه خاصة بالفضاء الثالث والهجنة والاختلاف والتهجين والتعدد والاختلاف الثقافي.
وخصصنا المبحث الثالث للتعرف عن قرب على أهم القضايا الثقافية والنقدية ما بعد الكولونيالية التي جاء بها هومي بابا، وروجه لها في مشروعه النقدي كالهجنة والتهجين الثقافيين، والتعدد والاختلاف الثقافيين وغيرها من القضايا الجوهرية عند هومي بابا. لذلك عنونا هذا المبحث ب:” قضايا جوهرية عند هومي بابا”.
أما الفصل الثاني المعنون ب: “نظرية ما بعد الكولونيالية: المفاهيم والمقومات”، فقد وقفنا فيه بأهم المصطلحات التي اشتهرت بها هذه النظرية وعرفت معها كالكولونيالية، وما بعد الكولونيالية اللتين أفردناهما بمبحث كامل تحت عنوان: “تحديدات مصطلحية”. قبل أن نخصص المبحث الثاني من هذا الفصل للاشتغال بمفهوم الهوية، والأنا والآخر، والذات، وتعيين الهوية، وإمكانيتها أو استحالتها، واستراتيجيات كولونيالية، وأخرى لترميم الهوية. ثم أخيرا -وليس آخرا- أنهينا هذا الفصل بالمبحث الثالث والأخير تعرضنا فيه للعلاقة بين الفضاء الثالث، والسرد والسرد المضاد، والسرديات البديلة، والتاريخ، والرواية..
في الفصل الثالث من الباب الأول، عرضنا أهم المعايير النقدية التي يجسدها الفضاء الثالث، بحيث اتخذنا له عنوان:” الفضاء الثالث مفهوما نقديا”؛ حاولنا أن نشير إلى تلك المعايير النقدية النظرية التي تجعل من مفهوم “الفضاء الثالث” مفهوما نقديا قابلا للتجريب والدراسة في المبحث الأول المعنون ب:” هومي بابا والدعوة إلى قراءة ثقافية مختلفة. وفي الوقت نفسه نمثل للفضاء الثالث، ولتلك المعايير من الرواية العربية، من خلال تجارب سردية وثقافية لأبطال وشخصيات من روايتي “نوميديا” للكاتب المغربي طارق بكاري، و”من خشب وطين” للكاتب محمد الأشعري في المبحث الثاني الذي عنوناه ب:” الفضاء الثالث في الرواية العربية”. تأتي هذه المغامرة المنهجية رغبة في إثراء الجانب النظري بمعطيات روائية تطبيقية، وأمثلة سردية إجرائية، والتي من شأنها أن تقربنا من تلك المفاهيم النظرية من جهة، وتعيننا من جهة ثانية على توضيح تلك المعايير؛ على اعتبار أن المعايير النقدية لمفهوم “الفضاء الثالث” تصبح أكثر وضوحا عندما يتم التمثيل والاستشهاد لها من النصوص الروائية. ومن جهة ثالثة لكي لا نسقط في الإسهاب والإطناب النظريين اللذين قد يخرمان الجودة والدقة في البحوث الأكاديمية.
كما عملنا من خلال هذا الفصل الثالث؛ على التحقق من رهاناتنا وفرضياتنا، والإجابة عن الإشكالية التي انطلقنا منها إذ عملنا على التحقق من نقدية الفضاء الثالث: هل هو مفهوم نقدي قائم بذاته؟. وذلك بتطبيقه أو التوسل به في دراسة روايتي “من خشب وطين” و”نوميديا” دراسة ثقافية ما بعد كولونيالية اعتمادا على الفضاء الثالث بوصفه مفهوما نقديا” والإسهام الجوهري البارز الذي جاء به هومي بابا في النظرية ما بعد الكولونيالية، بحيث ألقينا في إطاره الضوء على مفهوم الفضاء الثالث في علاقته بمفاهيم أخرى داخل الكتاب، مثل التهجين والمركزية الثقافية، والاختلاف الثقافي والتنوع الثقافي، والهيمنة الغربية والحدية والتشظي والاستيهام الاجتماعي، والتكرار والهدم السياسي والدالول وتعيين التمثيل، والخصوصية الثقافية والبينية والفضاءات الخلالية… قبل أن نوضح المعايير التي بموجبها يمكن أن تجعل مفهوم الفضاء الثالث مفهوما نقديا، يصلح مقاربة في قراءة النصوص الروائية العربية، ويتيح إمكانات جديدة في تحليلها وقراءتها، من خلال زوايا أخرى جديدة. على أننا تطرقنا في آخر الفصل الأول؛ إلى التصور الذي اختزل فيه هومي بابا الفضاء الثالث، وإلى بعض اهتمامات نظرية ما بعد الاستعمار، وبعض الإشكالات التي تطرحها. وفي الخاتمة حاولنا أن نرصد دلالات وأبعاد الفضاء الثالث، وخلاصات تحليل بابا للخطاب الاستعماري: الأدوات والمنهج، واستنتاجات بخصوص مفهوم الفضاء الثالث.
وفي البابا الثاني الذي عنوناه ب: “الفضاء الثالث: التاريخ والهوية والهجنة الثقافية في نماذج من الرواية العربية المعاصرة”؛ فقد افتتحنا به العمل التطبيقي الذي كان هدفنا فيه دراسة نصوص روائية عربية نرى أنها أعمال ما بعد كولونيالية، من خلال ثلاثة فصول؛ توسلنا فيها بمفهوم الفضاء الثالث لقراءة تلك النصوص قراءة ثقافية ما بعد كولونيالية، وذلك بوصفه مفهوما نقديا. حيث عملنا في الفصل الأول على دراسة نصي “الديوان الاسبرطي” و”كتاب الأمير” تجت عنوان:” الفضاء الثالث وترميم التاريخ: إعادة كتابة التاريخ من منظور ما بعد كولونيالي” عبر مبحثين خصصنا الأول للديوان الاسبرطي؛ نفكك فيه الخطاب الكولونيالي، ووقفنا على بناء تاريخ ما بعد كولونيالي. بينما خصصنا المبحث الثاني لكتاب الأمير؛ قاربنا فيه البحث عن هوية سردية وإعادة كتابة التاريخ توسلا بالفضاء الثالث في الدراسة والتحليل.
وكان الفصل الثاني المعنون ب:”الفضاء الثالث: الهجنة والهوية الثقافية في السياق ما بعد الكولونيالي”؛ مخصصا لدراسة الهجنة والهوية الثقافية في رواية “ساق البامبو” من خلال مبحثين اثنين. حيث قاربنا في الأول منهما قضية ووضعية العمالة في الخليج العربي من منظور الأنا الآسيوي، عندما يجد معاناة في تعيين هويته داخل المجتمع العربي؛ الذي يتحول في هذه الحالة إلى ذلك السلطوي والمركزي الذي تصبح ممارسته مع الآخر (الآسيوي في الغالب) كولونيالية بالنظر إلى أثرها في تشتيت البناء الهوياتي عند البطل في رواية “ساق البامبو”. وهو الأمر الذي يوضحه عنوان هذا المبحث: “الأنا الآسيوي والآخر العربي في رواية ساق البامبو”. الذي اتخذناه تعلة لدراسة التبادل الذي حصل بين الأنا والآخر في المواقع، عندما يقتحم الكاتب الكويتي طابوهات المجتمعات الخليجية الثقافية، كالعلاقة بين الأنا الآسيوي والآخر الكويتي. وقفنا في هذا السياق على قصة البطل الفلبيني “هوزيه” الذي وجد نفسه فجأة ينتمي لبلدين وثقافتين ودينين…عانى بسبب ذلك من التشتت الهوياتي والاختلاف الثقافي. إنهما روايتان تقاربان مفهوم الهوية من مجتمعين مختلفين وقضايا مختلفة.
أما في المبحث الثاني، فقد خصصناه لمعالجة صفة “البدون” التي يتم إلصاقها بالعمالة في الخليج العربي، ومدى أثرها على هوية هذه الشخصيات، وذلك في ضوء مفهوم “التابع” عند سبيفاك. لذلك عنوناه ب:” البدون بين محرقة التابع وأتون الهامش”.
هكذا، ارتأينا أن نختم الباب الثاني من هذه الأطروحة، بفصل ثالث سميناه ب:” تحرير الذاكرة المغربية وتشييد التواريخ الجديدة في رواية المغاربة”، حيث خصصناه لدراسة ومقاربة الهوية المغربية وذلك من خلال مبحثين متقابلين. حيث خصصنا المبحث الأول؛ لدراسة أزمة وإشكالات الهوية المغربية في رواية “المغاربة”، كما عرضنا فيه لمسألة ومفهوم الذاكرة السياسية المغربية، وعبرها سنقف على طبيعة العلاقة بين السلطة وضحاياها؛ في سياق تواريخ كولونيالية، عمل الكاتب على هدمها، أو على الأقل التصالح؛ معها في أفق تشييد تواريخ جديدة تعيد الاعتبار للهوية.
بينما خصصنا المبحث الثاني لدراسة “السيرة الكولونيالية والسرد ما بعد الكولونيالي” من خلال قصة الباشا بوزكري، حيث وضحنا كيف تتحول الشخصية من السيرة الكولونيالية في الحقيقة، إلى الهوية السردية على مستوى السرد عبر التخييل والكتابة في عملية يمكن نصطلح عليها بالانتقال من “التقليد إلى المحاكاة”، بوصفها عملية ما بعد كولونيالية.
على أننا خصصنا الخاتمة: خاتمة الأطروحة؛ لعرض أهم الخلاصات التي أسفرت عنها الأطروحة في بابيها النظري والتطبيقي، وإجمال أبرز الاستنتاجات التي انتهى إليها البحث والتحليل من جهة. ومن جهة اخرى للوقوف بنتائج الاشتغال بمفهوم الفضاء الثالث في قراءة ودراسة وتحليل النماذج المختارة من الرواية العربية المعاصرة. كما خصصناها للتحقق من الفرضيات التي انطلقنا منها في بداية الأطروحة، ولتوضيح كيف تمت الإجابة عن الأسئلة التي تختزل إشكالية الأطروحة؛ والتي صغناها في تقريب مفهوم الفضاء الثالث من النقد العربي المعاصر، وفي إبراز العلاقة بين الرواية العربية ونظرية ما بعد الكولونيالية.
المتن النظري والتطبيقي
لقد شكلت مرحلة اختيار المتن الروائي المشتغل به في تنزيل، وأجرأة المفاهيم النظرية على المستوى التطبيقي من الأطروحة، مرحلة مهمة في مسار البحث. لأننا نؤمن أن الاختيار الموفق سيتيح لنا التحقق من الفرضيات التي انطلقنا منها في بداية العمل، ويسعفنا في تطبيق الجهاز المفاهيمي الذي اشتغلنا به في الجانب النظري. لذلك فقد وقع اختيارنا على متون روائية عربية معاصرة، نقدر أنها تنتمي إلى فكرة ما بعد الحداثة؛ وما بعد الكولونيالية القائمة على نقد المركزيات، والمقولات والمعتمدات الأدبية والثقافية. والمنبنية على تجاوز المناهج النصية القديمة، وتقويض وهدم السرديات الكبرى على حد تعبير “فرونسوا ليوطار”. ومن تلك المتون التي عقدنا العزم على تجريب الفضاء الثالث من خلالها نذكر:
ـ رواية “الديوان الاسبرطي” لعبد الوهاب عيساوي.
ـ رواية “المغاربة” لعبد الكريم جويطي.
ـ رواية “ساق البامبو” لسعود السنعوسي
ـ رواية “نوميديا” لطارق بكاري.
ـ رواية “كتاب الأمير” لواسيني الأعرج.
ـ رواية “من خشب وطين” لمحمد الأشعري
وفي هذا الإطار، نشير إلى أن دوافع اختيارنا لهذا المتن الروائي، ترجع بالأساس إلى انتمائه لخطاب ما بعد الكولونيالية. أولا بالنظر إلى القضايا التاريخية، والاستعمارية، والهوياتية، والسردية التي تعالجها. إذ إنها قضايا ترتبط بحقبة الاستعمار، وما بعده من جهة، وبفكرة ما بعد الكولونيالية من جهة ثانية. وترجع ثانيا إلى استجابة هذا المتن الروائي لمفهوم الفضاء الثالث، ولما يدور في فلكه من مفاهيم أخرى ذات صلة بنظرية ما بعد الكولونيالية. وثالثا لأنه متن روائي ينتمي زمنيا للعقدين الأخيرين، وبالأخص العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. وهي فترة زمنية عرفت ظهور روايات، ودراسات تنتمي لفكر ما بعد الكولونيالية،
خلاصات واستنتاجات
لقد توصلنا في نهاية هذه الأطروحة إلى مجموعة من النتائج التي يمكن أن نميز فيها بين ما يتصل بالشق النظري وبين ما يتصل بالشق التطبيقي.
فمن النتائج التي وقفنا عليها في الباب النظري، وشكلت إجابة ومعالجة لجانب من الإشكالية التي انطلقنا منها؛ أن الفضاء الثالث ينهض عند هومي بابا، في إسهامه داخل النظرية ما بعد الكولونيالية، بوصفه مفهوما نقديا يضطلع بخصائص نقدية، ويتصف بشروطه السياقية، ويتميز بمعاييره النقدية والثقافية. ومن تلك الخصائص النقدية للفضاء الثالث نذكر؛ الخاصية الثقافية التي تتيح للباحث والقارئ على السواء، مقاربة النص ودراسته دراسة ثقافية، تخول لهما تتبع المعطيات الثقافية(اللغة- العادات- التقاليد- اللباس- الأنماط السلوكية- العرف..) داخل النص الروائي، وفرز العناصر الثقافية للشخصيات(الوضعية الاجتماعية- القيم- والأفكار- التحديات- المشاكل- المعاناة..)، وتحليل البنيات الفكرية(التصورات- العلاقة مع الذات- مع الآخر- السرديات والمقولات المتحكمة فيها..) لها.
ويمكن أن نمثل لهذا الحالة أو الخاصية الثقافية للفضاء الثالث، بإشارة هومي بابا إلى مفهوم الاختلافات الاجتماعية التي تعيشها شخصيات الأعمال التي اشتغل عليها؛ على غرار تعامل رينيه غرين مع استعارة بئر السلم، الذي يحضر في هذا السياق بوصفه فضاء وسطا. بحيث وجدت الشخصيات صعوبة ودخلت في معاناة ذاتية وهوياتية بعد تغيير منزلها؛ حيث أصبحت تعاني من خلخلة في العناصر المكونة لهويتها إما بالنقص أو بالزيادة، مما جعلها تدخل في مرحلة هجنة ثقافية على مستوى الهوية تقوم بالأساس على الاختلاف الثقافي الناتج عن التحول من فضاء إلى فضاء آخر.
كما يمكننا أن نمثل لهذه الخاصية الثقافية ذاتها من المتون التي اشتغلنا بها في هذه الأطروحة، بشخصيات رواية “ساق البامبو” خاصة البطل هوزيه/عيسى/خوسيه؛ الذي حضرت المعطيات الثقافية في سيرته بوصفها المشكل والحل في الوقت ذاته؛ حيث جعلت منه الظروف الاجتماعية والاقتصادية من جهة، والثقافية من جهة ثانية شخصية تعيش تجاذبا ثقافيا وهوياتيا توزعت هويتها بين وطنين(الفلبين والكويت) وديانتين (الإسلامية والمسيحية) ولغتين(العربية والفلبينية) وثقافتين(العربية الخليجية والفلبينية). ولعل هذا ما فسره هومي بابا، ودرسه من خلال تبنيه مفهوم التجاذب؛ الذي يأخذ أبعادا مختلفة ومتنوعة هوياتيا تتراوح بين ما هو اجتماعي، وثقافي، وهوياتي. مما يعني أنه(التجاذب) مفهوم يدور في فلك المفهوم الأكثر أهمية، وشمولية عند هومي بابا، ألا وهو مفهوم الفضاء الثالث.
هكذا إذن، خلصنا إلى القول بقدرة النقد العربي المعاصر، على استضافة مفاهيم ما بعد كولونيالية مثل الفضاء الثالث الذي جاء به هومي بابا، لتوفره على شروط ومعايير نقدية يمكن من خلالهما القيام بهمة الاستقبال هاته. والدليل على ذلك أن أغلب الإنتاج النقدي العربي المعاصر مرتبط في جزء كبير منه بالرواية العربية المعاصرة. وأن جزءا مهما من الرواية العربية المعاصرة ينخرط في إشكالات نظرية ما بعد الكولونيالية. وأنه يمكن من خلال الإنتاج الروائي العربي المعاصر، قراءة الحقبة الكولونيالية. وهذا أمر واقع ومشهود؛ على اعتبار أن جزءا مهما من الإنتاج الروائي العربي المعاصر يستحضر التجربة الاستعمارية، أو يستدعي ثنائية الشرق والغرب، أو يناقش سبب تقدم الآخر وتخلف الأنا العربية، وقس على ذلك من مثل هذه القضايا التي تندرج إما في الخطاب الكولونيالي، أو ما بعده.
كما وقفنا أيضا بدلالات مفهوم الفضاء الثالث النظرية والنقدية والثقافية. فوجدناه-بعد بحث مستفيض- يتسم بخصائص تحليلية، وصفات ثقافية، رقت به إلى درجة النقدية، حيث قدرنا أن تلك الخصائص والصفات تتبلور في مفهوم الفضاء الثالث بوصفها معايير وشروطا نقدية، جعلناها في عناوين كبرى داخل المبحث الذي عنوناه ب:” هومي بابا والدعوة إلى قراء ثقافية مختلفة”.
تبعا لذلك، بينا في عنوان جزئي ثان(في الفصل الثالث): الفضاء الثالث والتجريب النقدي” أن مفهوم الفضاء الثالث يتسم بخاصية التجريب النقدي، ونقصد به توفره على سابقة في التطبيق والتجريب في تحليل ودراسة أعمال روائية. وقد أعطينا مثالا على ذلك بهومي بابا؛ الذي اتخذ نشاطا إجرائيا في قراءة ودراسة وتحليل أعمال روائية غربية نذكر منها رواية “محبوبة” ل”توني موريسون”، و”نادين كورديمر” في روايتها “قصة ابني”، و”أزوريو” في روايته “السرير”، و”ألان سيكولا” في روايه “قصة سمكة”. وهي أعمال روائية أعطت لمفهوم الفضاء الثالث خاصية التجريب المرجعي، على اعتبار أن اشتغال باحث وناقد من حجم هومي بابا بمفهوم الفضاء الثلث وتوسله به في الدراسة والتحليل؛ يعد بمثابة مرجعية لهذا المفهوم من جهة، ومعيارا للمفهوم ذاته من جهة ثانية.
وباستحضار السؤال الأول ضمن الإشكالية التي انطلقنا منها؛ والذي يستفسر عن مدى امتلاك الساحة النقدية العربية المعاصر، والنقد العربي المعاصر تلك الشروط والمعايير النقدية تمكنهما من استقبال واستضافة مفهوم الفضاء الثالث؛ فإنه يمكننا للتأكيد على ذلك أو نفيه، أن نستدعي ما أنجزناه من مباحث في الفصل الثالث من الباب الأول؛ حيث خصصنا المبحث الثاني منه لتلك العلاقة التي افترضناها بين الفضاء الثالث والرواية العربية المعاصرة، وأشرنا فيه إلى السياقات والاهتمامات التي تؤطر هذه العلاقة المفترضة. فجاء عنوان هذا المبحث كما يلي: “الفضاء الثالث في الرواية العربية المعاصرة: السياقات والاهتمامات”، وقفنا فيه على أهمية الرواية في قراءة الحقبة الكولونيالية، وتبين لنا في هذا الإطار أن للرواية القدرة على الإصغاء للمستضعفين والمظلومين والمحتقرين والمهمشين، وبالتالي فهي قادرة على إظهار وفضح أحوال المعذبين ومعاناتهم في هذه الأرض.
بناء عليه، يمكن أن نخرج من العمل في الشق التطبيقي، بمجموعة من الخلاصات نجملها كما يلي:
أن كتاب هذه الروايات(عبد الكريم الجويطي، عبد الوهاب عيساوي، سعود السنعوسي، واسيني الأعرج، محمد الأشعري، طارق بكاري) حاولوا من خلال هذه النصوص(المغاربة، الديوان الاسبرطي، ساق البامبو، كتاب الأمير، من خشب وطين، نوميديا) التعبير عن المسكوت عنه في العلاقة بين الشرق والغرب، المستعمِر والمستعمَر، الأنا والآخر…بعد أن اقتحموا طابوهات(التواريخ المنتهكة، الظلم، الاستعمار الثقافي، التاريخ الكولونيالي، الامبريالية البيئية، الهوية الكولونيالية…) في صيغة جديدة من تلك العلاقات التي تطرح إشكال التأرجح في الهوية بين الهوية الكولونيالية؛ التي تعرضت للظلم والاحتقار والنفي والإنكار، والهوية ما بعد الكولونيالية التي رفضت هذا الوضع الهامشي والإقصائي، وانتفضت ضد التاريخ الكولونيالي بمخازيه. وهو التأرجح ذاته الذي عايناه في هذه الروايات بين الهوية الأصلانية بلغة إدوارد سعيد، التي يقصد بها تلك الهوية التي كانت تتمتع بها الدول المستعمَرة قبل الاستعمار، والهوية الكولونيالية (التابعة)، التي ترضى بالانسلاخ الكلي من الهوية الأولى، وترتمي في أحضان الهوية الغربية، وبالتالي تكون هوية تابعة للآخر الذي لا يقبل بها مهما أبدت من تبعية.
لقد راهن عبد الوهاب عيساوي، وواسيني الأعرج في روايتي “الديون الاسبرطي”، و”كتاب الأمير: مسالك أبواب الحديد”؛ على إعادة كتابة التاريخ الجزائري من وجهة نظر المستعمَر الجزائري. وهو الرهان الذي انشغل به الكاتبان(الأعرج وعيساوي) بغاية ترميم التاريخ الكولونيالي الذي دونه الاستعمار الفرنسي حول الجزائر، وبالتالي اتخاذ منهج الرد بالكتابة، باعتباره أسلوبا يميز أدب ما بعد الكولونيالية ينتقد طريقة احتقار الخطاب الكولونيالي للهوية الجزائرية.
على أن روايتي “الديوان الاسبرطي” و”كتاب الأمير” والتي كانت تحت عنوان:” الفضاء الثالث وترميم التاريخ: إعادة كتابة التاريخ من منظور ما بعد كولونيالي”، جعلتنا نقف على الكيفية التي تم بها تفكيك الخطاب الكولونيالي من الداخل من جهة، والوقوف على الطريقة التي استطاع من خلالها واسني الأعرج وعبد الوهاب عيساوي بناء تاريخ ما بعد كولونيالي للجزائر، على أنقاض التواريخ الكولونيالية المزورة، أو الموجهة على الأقل. حيث تمكنا من مقاربة الهوية الجزائرية من منظور ما بعد كولونيالي، من خلال توسل “واسيني الأعرج” في رواية “كتاب الأمير” بالهوية السردية من أجل إعادة كتابة التاريخ، وذلك بعد اعتمادنا على الفضاء الثالث في دراستها وتحليلها؛ إلى جانب مفاهيم أخرى تنطوي تحته وتدور في فلكه، وتكمل عمله ووظيفته النقدية القائمة على الكشف والفضح والهدم، من أجل إعادة البناء، بالشكل المعروف في السياق ما بعد الكولونيالي.
وتبعا لذلك جعلتنا دراسة روايتي “المغاربة” لعبد الكريم الجويطي، و”ساق البامبو” لسعود السنعوسي في الفصلين الثاني والثالث من الباب الثاني؛ نقف على أن السرد في إطار نظرية ما بعد الكولونيالية؛ّ أصبح يضطلع بمهمة ودور المقاومة الفكرية التي تروم تصحيح المعتقدات وتصويبها، وتقويم الأفكار والتصورات حول الحقبة الكولونيالية؛ لا من حيث المؤشر الزماني، ولا من حيث المؤشر الفعلي والسلوكي والفكري والقيمي والثقافي الذي يمتد إلى ما بعد مرحلة الاستعمار، ويكون لا من المستعمِر أو الغربي فحسب، بل قد يكون من أبناء الأوطان والدول المسضعفة، الذين تشبعوا بالفكر الكولونيالي، وأصبحوا يتبنونه منهجا في حياتهم مع أبناء جيلهم الذين تنكروا للمشتركات معهم من جهة، وحول السياسة الكولونيالية الثقافية والفكرية والاجتماعية الموازية؛ التي كان المستعمِر يدك بها حصون الشرق/الجغرافيا غير الأوروبية ثقافيا، وعقديا، واجتماعيا، وفكريا من جهة ثانية.
وفي المقابل من ذلك مكننا الفصل الأول من الباب الثاني، من الوقوف بالكيفية التي يحضر بها الفضاء الثالث باعتباره مفهوما نقديا في عملين روائيين راهن فيهما أصحابهما على مسألة التاريخ في البحث عن الذات، وبناء هوية وطنية جزائرية عبر إعادة كتابة التاريخ من منظور الذات المستعمَرة من جهة. كما أسعفنا الفصل ذاته في التعرف على الطريقة التي يشتغل بها الفضاء الثالث في كشف الاسترتيجيات الكولونيالية التي تبناها واستعملها المستعمِر في خطابه، والتي كانت حاسمة في توجيه الآخر المستعمَر وإخضاعه من جهة ثانية.
على أنه تأكد لنا أن الصورة النمطية والتمثيل يحضران على أنهما استراتيجيتان كولونياليتان، ويشتغلان في الرواية العربية المعاصرة-بناء على روايتي “الديوان الاسبرطي” و”كتاب الأمير”- باعتبارهما من أهم الاستراتيجيات التي اعتمدت عليها السردية الغربية، أو الامبريالية الغربية، والخطاب الكولونيالي عموما في تشكيل وبناء تاريخ وهوية وتراث المستعمِر والمستعمَر على السواء. المستعمِر من خلال تأبيد صورة إيجابية عنه، والمستعمَر عبر ترسيخ صورة سلبية حوله وحول تاريخه وهويته وتراثه المستهدف. وقد تحقق هذا المعطى أو بالأحرى تحققت هذه الصورة النمطية عبر السرد الكولونيالي، والتخييل السردي الذي انتهجته المدونة الغربية على يد مجموعة من الكتاب والمفكرين والروائيين وغيرهم. وقد أشرنا في هذا الإطار إلى أهمية الرواية في بناء تلك الصورة النمطية، وذلك التمثيل السردي اللذين يقومان على الاختلاق والتزييف والسرقة واللصوصية.
كما اتضح لنا أن المعطيات المتعلقة بالصورة النمطية والتمثيل السردي في رواية “الديوان الاسبرطي” لعبد الوهاب عيساوي، تتجسد وترتبط بشخصية “كافيار” الذي تبنى هذا الخطاب الكولونيالي القائم على الصورة النمطية والتمثيل السردي، حيث لم يكن من المؤمنين به فحسب، بل كان من المشرفين على إنشاء تلك المعرفة المغلوطة والمختلقة والمزيفة والمزورة بخصوص الشرق والغرب على السواء. وقد كانت شخصية “ديبون” الصحفي ضحية هذا الخطاب الكولونيالي المختلق، عندما صدق تلك الشعارات التي كانت موجهة للحملة الفرنسية على الجزائر سنة 1830م، والتي كان من جملتها تحرير الإنسان الشرقي، وتحضيره، وحمايته من الاضطهاد والظلم العثماني..وقس على هذا من هذه المصطلحات التي تدور في فلك شعار “المهمات الحضارية” الذي تبنته الحملة الفرنسية، والخطاب الكولونيالي المرافق لها.
ومن تلك الخلاصات التي وقفنا بها في الجانب التطبيقي أيضا؛ أننا وجدنا لمفهومي الصورة النمطية والتمثيل السردي أثرا في رواية “كتاب الأمير: مسالك أبواب الحديد” لواسيني الأعرج في أحداث الرواية وشخصياتها الكولونيالية الثانوية، وفي مقدمتها الحكام الفرنسيون الذين حكموا الجزائر. ولم نجد لها أثرا في شخصيتيها الرئيستين (الأمير وديبوش) على اعتبار أنهما معا يبحثان عن هوية ثقافية وسردية وتاريخية موحدة. وهو الأمر الذي أسعفنا فيه الفضاء الثالث في دراسته وتحليله.
وهو نفسه الفضاء الثالث الذي جعلنا نقف على حضور مفهوم الاستشراق في رواية “الديوان الاسبرطي” مرتبطا كذلك-مثل الصورة النمطية والتمثيل- بشخصية “كافيار” بشكل خاص. ويتمثل ذلك في تقديمه مساعدات معرفية وجغرافية وثقافية وإثنية وعرقية لقواد الحملة الفرنسية على الجزائر. وهي مساعدات لم يكن “كافيار” ليقدمها لقواد الحملة لولا كونه كان مقيما في الجزائر قبل الحملة الفرنسية على الجزائر. وهو الأمر الذي اكتشفه صديقه “ديبون” متأخرا، لكنه وجد فيه تبريرا للانحياز والكره والحقد الذي كان يكنه تجاه الشرق في شموليته(إنسانه وجغرافيته وثقافته).
إن إسعافات الفضاء الثالث لنا في الأطروحة لم تتوقف عند هذا الحد، بل استمرت على طول الأطروحة حيث مكننا من الوقوف بمفاهيم أخرى تحضر في هذه الرواية، وفي غيرها من الروايات العربية المعاصرة بوصفها استراتيجات كولونيالية تستهدف تأبيد النموذج الغربي وتفوقه على غيره من سكان الكرة الأرضية. وقد تجسد هذا بشكل واضح في رواية “الديوان الاسبرطي”، في حين كان خفيا وغير ظاهر في “كتاب الأمير: مسالك أبواب الحديد”.
زر الذهاب إلى الأعلى