الباحث الدكتور أحمد الرزاقي أعد هذه الأطروحة، ونوقشت سنة 2019 بكلية الآداب سايس فاس تحت إشراف الدكتور عمر جدية.
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على المبعث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.![](http://alamanaweb.ma/wp-content/uploads/2021/02/nbnbnb-150x150.png)
وبعد: لقد عرفت المقاصد نضجاً كبيراً، وذلك لما لها من الأثر البليغ في التدافع الحضاري بين الناس منذ القرن الأولى إلى يومنا هذا، مما جعل الأمر يقتضي بذل جهود كبيرة في الترشيد المقاصدي من لدن علماء الأمة منذ القديم، تلمسا لمقاصد الشارع وتقعيدا للمراد من الشريعة، وسعياً للوصول إلى ما يسعد الإنسان ويميزه تميزا إيجابيا عن غيره، فبذل العلماء الجهد واستفرغوا الوسع في ضبط المقاصد وتقعيد أصول المعرفة الشرعية فهما وتنزيلا، عملا وتطبيقاً.
وعليه فلا ينبغي فصل المقاصد عن ضوابطها وأصولها ومنطلقاتها وأسسها التي تبنى عليها، ولم يكن طلبُ استقلالها طلبَ انفصال عن أصولها، بل دعوة إلى إعادة النظر في أصولها حتى تكون أصولا قطعية ثابتة قوية متينة، مُحْكَمَةً في اعتبارها وتصنيفها والقول بها.
وهذه هي الدعوة الصريحة للإمام الجليل ابن عاشور حيث قال: «فنحن إذا أردنا أن ندون أصولاً قطعية للتفقه في الدين، حق علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة، وأن نعيد ذوبها في بوتقة التدوين، ونعيرها بمعيار النظر، فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غلثت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر ثم نعيد صوغ ذلك العلم ونسميه علم مقاصد الشريعة»[1].
وأعتقد أن كلام الإمام ابن عاشور هذا؛ إنما هو دعوة لتأسيس أصول للمقاصد تكون قطعية، وليس دعوى لكون المقاصد علما مستقلاً بغير أصول؛ أبداً، ولا يمكن أن يفهم من قوله هذا الصريح أن المقاصد علم قائم بذاته بغير أصول له.
ومن هنا جاء هذا البحث موسوماً بـ”أصول مقاصد الشريعة الإسلامية” وأعتقد أن من خاض عباب هذا العمل قراءة وتفحصاً بإمعانٍ؛ يظهر له بشكل جلي أن عنوان هذا البحث معبر عما تضمنه تعبيراً مناسباً، حيث نهجت فيه منهجية واضحة في التعبير عن مضامينه، وأشفعت ذلك بأمثلة تطبيقية مناسبة.
فالبحث محاولة لحل إشكال علمي له آثاره في الواقع العلمي والعملي؛ بإبراز الأصول التي تُؤسس عليها المقاصد؛ وتُستنبط منها؛ وتُبنى على اعتبارها، من حيث إبراز هذه الأصول وحصرها وتصنيفها، وتنقيح مناطها، وضبط مسالكها، وتقنين العمل بها، لتكون المقاصد الشرعية مضبوطة؛ واضحة المنطلقات، سليمة المآلات، محكمة التطبيقات؛ بالحجة البينة، والبرهان الواضح، فلا يتقول أحد على الشارع ما لم يقصد، ولا يستخدم الكليات لهدم الجزئيات، ولا يستعمل الجزئيات لتعطيل الكليات.
فحصرت أصول المقاصد في أصول نظرية: وهي التي تتأسس عليها المقاصد وتستند إليها وتبنى على اعتبارها، -وهي على نوعين: مصدرية واستقرائية-، ثم في أصول تطبيقية، تكون أصولا جامعة للمقاصد بشكل كلي في نسق متجانس، ومتكامل، ومتوسلاً بها بالضرورة للمقصد الأعلى للشريعة الإسلامية، بطريقة محكمة، وتحقيق متقن؛ غاية في الدقة والترتيب، والاستدلال والتنقيب، مع الجدة في التنظير والتطبيق.
أهمية البحث ودوافعه وأهدافه
أعتقد أن هذا البحث له أهمية خاصة تميزه، وهي أن الحاجة ملحة اليوم أكثر إلى إبراز الأصول التي تتأسس عليها المقاصد، وتعتبر بها، والأصول التطبيقية الضابطة لاعتبار المقاصد والحاكمة لإعمالها والعمل بها، والجامعة لمقتضياتها.
وبذلك ينكشف الخيط الرابط بين المقاصد وغيرها من العلوم الشرعية؛ -خاصة علم الأصول الذي يعتبر المورد الكلي والأكبر لأصول المقاصد الشرعية- بإبراز هذه الروابط ونظمها في نسق وفق خصائص محكمة؛ حتى يتسنى لنا الإحكام الكلي للمقاصد الشرعية.
وتزداد أهمية هذا البحث بالتركيز على إظهار واقعية المقاصد في التنزيل العملي لها، بمسالك تُحْكِمُ مواكبةَ المقاصد لمستجدات العصر، وفق أصولها المعلومة والواضحة.
ثم إن اختياري للبحث في هذا الموضوع له مجموعة من الدوافع العلمية والموضوعية التي يطول بها المقال لكن أجمل أهمها في الآتي:
أولاً: الحاجة الملحة إلى ضبط إعمال المقاصد أكثر، وإحكام اعتبارها وتقنين القول بها، خاصة مع تزايد الاستغلال العشوائي لها، والتَّسَيُّب في اعتبارها.
ثانياً: إتمام الجهود الكبيرة التي بذلت في ضبط المقاصد كجهود التعريف بها وبأهميتها وتقعيد قواعدها وإبراز جهود السابقين فيها، فكان هذا البحث لبنة من لبنات الإسهام في ذلك.
ثالثاً: إن البحث في “أصول المقاصد” بهذا العنوان غير مسبوق – في حدود علمي واطلاعي- فجاء هذا البحث يسد فجوة من أَجْلِ التحقق من حقيقة المقاصد الشرعية، وربطها بضوابطها وقواعدها وأصولها، فهماً وتنزيلاً، لإعمالها على الوجه الأحسن الممكن في الواقع العملي.
رابعاً: تلبية لواجب البحث العلمي في إتمام مشروع علمي بدأت البحث فيه والاهتمام به منذ السنوات الجامعية الأولى[2].
ومما لا شك فيه أن لهذا البحث أهدافا سعى إلى تحقيقها وهي كالتالي:
أولاً: ضبط حقيقة المقاصد من حيث مفهومها وعلاقتها بعلم الأصول بإظهار وظيفتها المنهجية بتأسيسها على أصول قطعية لضابطها أكثر؛ فهماً واستنباطاً وتطبيقاً، وبذلك تنقح أصول الفقه مما غلث بها مما ليس منها تنقيحاً، حتى لا يُتَقَوَّلَ على الشارع ما لم يقصد.
ثانياً: الخلوص إلى مقصد أعلى للشريعة الإسلامية يمكن الاتفاق عليه، وتتضافر الجهود في خدمته وتحقيقه، ويبرز الوجه الإنساني للشريعة بتكريمها لكل الناس.
ثالثاً: ضبط منهج إلحاق ما استجد من القضايا والنوازل المعاصرة بأصول كلية ثابتة عن طريق منهج محكم ومنضبط، وبه تتحقق الصلاحية المستمرة للشريعة الإسلامية.
رابعاً: السعي إلى تفادي الغلو في إعمال المقاصد بتجنب الإفراط والتفريط في اعتبارها والقول بها، ثم النظر إلى الجزئيات الشرعية في إطار كلياتها المحكمة، دون إهمال للجزئيات أو الكليات.
إشكال البحث:
يعتبر تحديد الإشكال العلمي جوهراً أساساً للبحث؛ ومنطلقاً ضرورياً له، إذ لا يستقيم البحث بغير إشكال واضح، فالإشكال هو البحث؛ وهو الموجه والمسدد للباحث في إيجاد حل له وفك لغزه. ويدل على أهمية تحديده أن: “من عرف ما قصد هان عليه ما وجد” وإنه لحق؛ فتحديد الإشكال بدقة؛ يهوّن مشاق البحث ويبدد متاعبه.
ولهذا فالإشكال الكلي الجامع الذي عليه مدار هذا البحث هو: إبراز الأصول القطعية التي تتأسس عليها المقاصد الشرعية، لإحكام المقاصد وضبطها تأصيلاً وتطبيقاً وإعمالاً لمنهج تنزيلها في الواقع، فجاء هذا البحث يُبَيِّنُ هذه الأصول ويضبط إعمالها، ويحقق مناط كونها أصولا للمقاصد، ويبين حقيقة اعتبارها في الحال والمآل.
فرضيات البحث:
تعتبر فرضية البحث بمثابة بوصلة موجهة للباحث، ومعياراً لتقدم أعمال بحثه، إلا أنها ليست نتيجة نهائية للبحث أو جواباً حتمياً عن إشكاله، وإنما هي افتراض عام، واحتمال مجمل، يدققه المنهج المعتمد في البحث، والنتائج المتوصل إليها، وعليه انطلقت من الفرضيات التالية:
الفرضية الأولى: مفادها أن للمقاصد الشرعية أصولا -بالضرورة- يجب البحث عنها وضبطها وتصنيف اعتبارها، واحصاء عددها وإحكام مقتضاها.
الفرضية الثانية: أن للشريعة مقصداً أعلى جامعاً لكل المقاصد، من أجل تحقيقه أرسلت الرسل وأنزلت الكتب، فوجب البحث عنه، وتحديده وإبراز معالمه وخصائصه، ووسائل تحقيقه.
الفرضية الثالثة: افتراض أن دعوة الإمام الجليل ابن عاشور لا يمكن أن تكون من فراغ، بل لها ما يستوجب تحقيقها، وفي المقابل لا يمكن أبدا أن تكون دعوى لتأسيس علم مستقل بلا أصول تحكمه وقواعد تضبطه.
المنهج المعتمد في البحث:
مما لا شك فيه أن طبيعة إشكال البحث هي التي تفرض على الباحث المنهج المناسب لمعالجة موضوع بحثه، والإجابة عن تساؤلاته، ومعلوم أنه من الصعب أن يعالج الموضوع بمنهج علمي واحد صِرْف، فالمعالجة الموضوعية والعلمية الدقيقة لإشكال البحث إنما تكون بأكثر من منهج، لعدة اعتبارات منها:
أولاً: التداخل الوظيفي بين مناهج البحث، فالمنهج التاريخي يحتاج إلى المنهج النقدي والاستقرائي ويتكامل معهما.. والمنهج التحليلي يتكون من ثلاثة عناصر، قد يُعَدُّ كل عنصر منها منهجاً، وهذه العناصر هي: التفكيك والتقويم والتركيب، وهذا يتقاطع مع المنهج النقدي ومع غيره بوجه من الوجوه.
ثانياً: التزام منهج واحد قد يوقع في التعسف والقصور في المعالجة الدقيقة لإشكال البحث؛ بدل الموضوعية العلمية في الحل الشامل للإشكال المحدد، في حين أن المرونة في الوسائل تساعد على الجدة والإبداع في النتائج.
ثالثاً: العبرة بالمنهج الغالب، فيمكن الحديث عن المنهج الرئيس الذي عولج به الموضوع، بقصد أصلي؛ وغيره يأتي بالتبع.
لذا أقتصر على ذكر المنهج الأصلي الذي اعتمدت عليه بشكل أساس في هذا البحث مع التعليل العلمي لوجه استعماله.
إذن المنهج الذي عالجت به إشكال بحثي هو: “المنهج التحليلي” لعدة اعتبارات علمية أذكر منها:
أولاً: إن من المواضيع التي تحتاج إلى المنهج التحليلي تلك «القضايا والمسائل الجوهرية في العلوم الشرعية عامة (..) وهي بحاجة إلى دراسة معمقة ترمي إلى تعليل الظواهر العلمية وربط أسبابها بمسبباتها (..) ابتغاء مستوى أعمق من التحليل والتفسير (..) لأنها في أغلب الأحيان تكون قضايا جديدة؛ عبر عنها المؤلفون القدامى بصورة مجملة أحيانا، وعامة أحيانا أخرى، مما يتطلب استفراغ الجهد والوسع قصد تفكيك تلك القضايا التي تحتاج إلى تفسير وتحليل»[3].
ومن تلك القضايا: المقاصد وهي في حاجة ماسة إلى دراسة أعمق لربطها بمسبباتها من الأصول التي تنطلق منها، وهي مما عبر عنها الأقدمون بطريقة عامة تارة وتفصيلية أحيانا، فوجب بيان مجملها وتفسير عامها وتوضيح مقتضاها.
ثانياً: إن المنهج التحليلي هو «منهج يقوم على دراسة الإشكالات العلمية المختلفة تفكيكاً أو تركيبا أو تقويما»[4]، والبحث في “أصول المقاصد الشرعية” يحتاج إلى التفكيك والتقويم والتركيب.
أي أن الأصل النظري والتطبيقي للمقاصد يحتاج إلى إعادة النظر فيه، بنقد علمي موضوعي، لتثمين جهود السابقين والدارسين للمقاصد؛ والعمل على تفسيرها وبيان مقتضاها العلمي؛ وهي عملية جوهرية في بحثي هذا.
فانطلقت من هذه الجهود في إعادة بناء المقاصد على أصول قطعية ضابطة لها، بتفكيك النظر المقاصدي السائد، وترميم ما يجب ترميمه، وتجديد ما يحتاج إلى الجدة، بتقويم تركيبي علمي.
ثالثاً: إن المنهج التحليلي يعتمد على ثلاثة عناصركما سبق ذكرها وهي: التفكيك والتقويم والتركيب، فعملت على تفكيك معنى المقاصد وتقويم مفهومها ثم ركبت المقاصد على الأصول التي تتأسس عليها، كما ركبتها في أصول تطبيقية جامعة.
فالمنهج التحليلي بمقوماته الثلاثة: التفسير والتقويم والاستنباط وهي المعبر عنها بالتفكيك والنقد والتركيب، قد تستعمل كلها في معالجة إشكال البحث حسب طبيعته[5]، وطبيعة تأسيس أصول المقاصد الشرعية لإحكام اعتبارها وتطبيقها في الواقع يحتاج إلى هذه المقومات الثلاثة.
رابعاً: إن البحث يعتمد بشكل أساس على التفكيك تفسيرا وعلى النقد تقويما وعلى التركيب استنباطا، فالعناصر الثلاثة بارزة في بحثي من حيث مفهوم المقاصد، وانبنائها على أصولها، نقداً وتقويماً وتركيباً.
فأعدت النظر في ترتيب أصول المقاصد فجعلتها ثلاثة أنواع: أصولاً مصدرية، وأصولاً استقرائية، وأصولاً تطبيقية، وبهذا يتضح جلياً استعمالي للمنهج التحليلي بمقوماته الثلاثة في معالجة إشكال هذا البحث.
نماذج من الدراسات السابقة:
إن أغلب الدراسات المعاصرة في المقاصد اقتصرت –في تقديري وحدود علمي- على التنظير لما سميته بالجانب التطبيقي للمقاصد، ولم ترم وضع أصول لإحكام المقاصد، فاعتنت بالتنظير الكلي تارة، وبالتقصيد الجزئي للأحكام تارة أخرى، محاولة التقعيد للمقاصد أو التأصيل المقاصدي لبعض القضايا العلمية أو السياسية أو الاجتماعية.
كما اشتغلت هذه الدراسات على جدلية علاقة المقاصد بعلم أصول الفقه، وجدلية إمكانية الزيادة على الضروريات الخمس، وجدلية الاستنجاد بالمقاصد في القضايا المعاصرة والمستجدات الحديثة.
لكن لم أقف ــ في حدود اطلاعي ــ على دراسة اعتنت بخصوص “أصول المقاصد” بهذا العنوان، أو التفتت إلى أن للمقاصد أصولا على غرار “علم أصول الفقه” أو “أصول الدين”، مع العلم أن هناك إشارات وعبارات تومئ إلى هذا، من مثل ما ورد عند الإمام الغزالي والشاطبي وغيرهما من الأقدمين. كما نجد دعوة الإمام الجليل ابن عاشور في وجوب التأسيس لأصول قطعية للتفقه في الدين. وكلها إشارات تروم تحرير أصول قطعية للمقاصد.
كما نجد بعض الجهود العلمية المعاصرة القريبة إلى غرض هذا البحث، ومنها جهد أستاذنا الجليل الدكتور فريد الأنصاري في كتابه “المصطلح الأصولي عند الشاطبي” على اعتبار أن الأصول هي عين المقاصد، ولقد أفاد وأجاد، وحقق ونقح فأبان عن أهمية المصطلح الأصولي في إدراك المقاصد.
فجعل كتابه هذا في قسمين فضلا عن مقدمة وتمهيد وخاتمة، فخصص التمهيد والقسم الأول للدراسات المصطلحية وطبيعة المصطلح الأصولي عند الشاطبي، بَيَّنَ فيه أهمية منهج الدراسات المصطلحية في دراسة التراث الشرعي عموما والأصولي على الخصوص.
أما القسم الثاني فتناوله في ثلاثة فصول، خصص الأول لمصطلح الأصول وضمائمه -حسب المنهج المعتمد عنده- خلص فيه إلى ثلاثة عشر ضميمة من أنواع الأصول، وهي كالتالي: الأصول الاستقرائية القطعية، وأصول أصول الشريعة، وأصول الدين، والأصول العامة، والأصول العربية، والأصول العقلية، والأصول العملية، والأصول الكلية، وأصول المصالح وهي الضروريات، وأصل كلي ابتدائي، والأصل المذهبي أو أصل المذهب، والأصل المعين.
وفي الفصل الثاني تناول مصطلح الاجتهاد وضمائمه ومشتقاته وفروعه منها الاستنباط والفتوى، وتحقيق المناط، والترجيح، وفي الفصل الثالث تناول مصطلح المآل وضمائمه وفروعه ومنها سد الذرائع والحيل، والاستحسان، ومراعاة الخلاف.
فكان كتابه إضافة نوعية وتحقيقاً علمياً متيناً، بمنهج علمي قويم استغرق جهداً كبيراً في التأصيل للمصطلح الأصولي، وبيان قطعية الأصول، وكيفية الاستشهاد بها، ومراتبها ومشتقاتها وضمائمها وفروعها، وهو عمل جيد جدا، حاجة المجتهدين إليه تكاد تبلغ الضرورة.
لكنه دمج المصطلح الأصولي مع المقاصد بشكل تجريدي، فلم يبين الفروق الدقيقة بين أصلية الأصول للمقاصد، كأصلية الشجرة للثمرة، فجاء كتابه غارقاً في التجريد الأصولي، قليل المثال التطبيقي، نادر الارتباط بالواقع، فهو نظرية أصولية مثالية.
أما أستاذنا الجليل الدكتور أحمد الريسوني فله كتاب صغير الحجم؛ عظيم القدر، كبير الفائدة، غزير العلم، عميق في مراده ومراميه، سماه “مقاصد المقاصد“. وأعتقد أن التركيب الإضافي لعنوان هذا الكتاب؛ هو إضافة أصل إلى ما يتفرع عنه، وفصول الكتاب الثلاثة تظهر هذا بشكل واضح، فالفصل الأول سماه “مقاصد المقاصد في فهم الكتاب والسنة”، والفصل الثاني جعل له عنوانا بمسمى: “مقاصد المقاصد في الفقه والاجتهاد الفقهي”، والفصل الثالث والأخير عنوانه: “المقاصد العملية للمقاصد”، وجعل في كل فصل تقديما ومبحثين.
وإذا استثنينا الفصل الأول من الكتاب الذي يعد إبداعا علميا وتأسيسا لما نحن فيه، فإن الفصلين الأخرين تطبيق مقاصدي، وتنظير لإعمال المقاصد في الفقه والتدين، ودعوة لمراعاة المقاصد في الاجتهاد والإفتاء، والقضايا المعاصرة والمستجدات الحديثة.
فجاء الكتاب إبداعاً علمياً متخصصاً، وتجديداً واقعياً لقضايا المقاصد، ودعوة لتعميمها في مجالات الحياة الخاصة والعامة، والسياسة الشرعية، والتوجيه والإرشاد والدعوة، فالمقاصد لا يمكن الاستغناء عنها بأي حال من الأحوال، ولا في أي مجال من مجالات الحياة.
ولعل الخط المنهجي للكتاب -على العموم- يجيب على أن المقاصد عامل من عوامل المرونة والسعة؛ وفي الوقت نفسه عامل من عوامل الحزم والضبط والتحديد، فالمقاصد تعمل على حفظ الثوابت وتجديد المتغيرات.
فالمقاصد روح للدين والتدين، وروح للتجديد والابتكار، يستنجد بها عند العثرات، ويستظل بها في العزائم والاجتهادات، فهي منهج للضبط والإحكام، وروح للعلم والعمل.
فالكتاب رسالة تحث الباحثين وتوجههم نحو ما ينبغي الاهتمام به في مجال المقاصد فهو عبارة عن مصابيح بحثية تضيئ الطريق للمهتمين وتنبه المختصين، وتوقظ الغافلين، وتشحذ همم المخلصين، فكان كالمقدمة لما سواه.
خطة البحث وأهم مضامينه
تضمن البحث فضلاً على المقدمة والخاتمة، ثلاثة أبواب ومدخلا تمهيديا عاما، وأربعة فهارس، خصصت المقدمة لأهمية موضوع البحث ودوافع اختياره، وذكر أهم أهدافه، وصياغة إشكاله، وتحديد الفرضيات التي انطلقت منها، ثم ذكرت المنهج المعتمد في البحث، وأهم الدراسات السابقة، ثم مضامين خطة البحث.
فخصصت المدخل التمهيدي العام للحديث عن تعريف مصطلحات عنوان البحث في مسألتين، الأولى: عرفت فيها مصطلح الأصل وأبرزت أهم خصائصه وتجلياته بشكل مختصر جدا، والثانية جعلتها لتعريف المقاصد وبيان طبيعتها، وتعريف العلماء لها؛ عبر أهم مرحل الاهتمام بها، ثم خلصت إلى تعريف يجعلها واضحة بكل جلاء ويسر.
ثم تطرقت في الباب الأول والثاني إلى الأصول التي تؤسس عليها المقاصد وتستنبط منها وتستند إلى اعتبارها؛ أي الأصول التي تعد هي منبع المقاصد، فمهدت لهذا الجانب بتمهيد بسطت فيه معنى الأصول التي تستنبط منها المقاصد الشرعية.
فصنفت في الباب الأول: الأصول المصدرية التي لها طابع مصدري وهي القرآن الكريم، والسنة النبوية والإجماع، في ثلاثة فصول خصصت لكل أصل فصلا.
فالفصل الأول: من هذا الباب موسوم بـ“القرآن الكريم أصل مصدري للمقاصد الشرعية” أبرزت فيه أن القرآن الكريم من أهم وأجل وأعلى أصول المقاصد الشرعية، بينت ذلك في مبحثين. المبحث الأول: أبرزت فيه أن القرآن الكريم أصل منهجي للمقاصد الشرعية، والمبحث الثاني: بينت فيه كون القرآن أصلا لجزئيات شرعية ولكليات استقرائية، وتحت كل مبحث مطالب، وخلاصة بينت فيها حقيقة كون القرآن الكريم أصلَ أصول المقاصد الشرعية.
وجعلت الأصل الثاني للمقاصد بعنوان “السنة النبوية أصل مصدري للمقاصد الشرعية” في فصل ثانٍ من هذا الباب الأول، فتناولت هذا الفصل في خمسة مباحث، المبحث الأول: بينت فيه مفهوم السنة النبوية وأبرزت علاقتها بأصول المقاصد، والمبحث الثاني: تحدثت عن السنة التشريعية العامة وأبرزت كونها أصلا للمقاصد الشرعية، وتناولت في المبحث الثالث: السنة التشريعية الخاصة وبينت وجه كونها أصلا للمقاصد الشرعية، وجعلت المبحث الرابع: لأصالة تقسيم التصرفات النبوية وتقعيد مسالكها، وخصصت المبحث الخامس: لمسالك التَّعَرُّف على أنواع التصرفات النبوية ذكرت من خلاله مجموعة من المسالك صنفتها تصنيفا حسناً، لإحكام الطرق التي يفرق فيه بين السنة التشريعية التي هي أصل للمقاصد وما ليست كذلك.
ثم تناولت الأصل الثالث: للمقاصد الشرعية في فصل أخير من هذا الباب، وسميته بـ“الإجماع أصل للمقاصد الشرعية”، تناولته في أربعة مباحث، خصصت المبحث الأول: لمفهوم الإجماع وأصل اعتباره، وتناولت في المبحث الثاني: تحقيق مناط الإجماع، بتنقيحه مما ليس منه، لإظهار حقيقته، وفي المبحث الثالث: ذكرت أنواع الإجماع وعملت على إحكامها، والمبحث الرابع: خصصته لوجه اعتبار الإجماع أصلا للمقاصد الشرعية، وتحت كل مبحث مطالب.
وتناولت في الباب الثاني: “الأصول الاستقرائية للمقاصد الشرعية” جعلته في خمسة فصول وأدخلت تحتها كل الأصول المبنية على الاستقراء، ولقد أطلت هذا الباب قليلا لهذا الاعتبار؛ ولذكر الأمثلة التطبيقية لأصوله لما تحمله تارة من الجدة، وتارة لضرورة التمثيل، وذكر التطبيقات الواقعية. أبرزت في الفصل الأول: “المعهود العربي باعتباره أصلا للمقاصد“، وفي الفصل الثاني والثالث: تطرقت إلى وجه اعتبار “القياس الجزئي”، و”القياس الكلي“، أصلين للمقاصد الشرعية وفي الفصل الرابع: بينت فيه أصل اعتبار المآل. وخصصت الفصل الخامس: للحديث عن الأحكام الشرعية التكليفية بصفتها وعاءً حاملاً ومحتضناً للمقاصد بشكل مباشر.
أما الباب الثالث والأخير من هذه الأطروحة فخصصته للأصول التطبيقية للمقاصد الشرعية فتناولت فيه الأصول الكلية للمقاصد والتي تستفاد من الأصول النظرية وتنبع منها، كما خلصت فيه إلى المقصد الأعلى للشريعة الإسلامية، فأعدت النظر في التناول المنهجي لعلاقة الكليات الخمس بالضروري والحاجي والتحسيني، حيث جعلت لكل كلية ضرورِيَّها وحاجيَّها وتحسينيَّها.
فجاء هذا الباب في ثلاثة فصول، الفصل الأول: بعنوان “قصد المكلف وإحكام مقومات الكليات الخمس“، تناولت فيه “اعتبار قصد المكلف أصلا للمقاصد الشرعية“، كما تناولت فيه “المقومات الثلاثة للكليات الخمس”، وخصصت الفصل الثاني: لـ”اعتبار الكليات الخمس أصلا للمقاصد الشرعية“.
وجعلت الفصل الثالث: للحديث عن الأصل الكلي الجامع لأثر المقاصد في تدبير الاختلاف” بينت فيه مجموعة من مقومات تدبير الاختلاف باعتباره أصلاً مقصوداً للشارع جل ثناؤه: قصد تكوينٍ وتشريعٍ، فالاختلاف مقصود للخالق -سبحانه- تكويناً؛ وتدبيره مقصود له تشريعاً، وبهذا يكون تدبير الاختلاف أصلا من أصول المقاصد، به يدخل كل الناس تحت أحكام الشريعة المتفق والمخالف المؤمن بها والكافر، وبه ينتظم أمر الخاص والعام، ثم خلصت في مبحث أخير إلى المقصد الأعلى للشريعة الإسلامية، الذي يعد مقصدَ المقاصد ومنتهاها وأعلاها مرتبة وأجلها مكانة، فيكون بناؤه وخدمته وطلب تحقيقه والمحافظة عليه مشترك إنساني، وفي خاتمة هذا البحث سجلت أهم النتائج والخلاصات وبعض آفاق البحث.
والحاصل أن أصول المقاصد هي اثنا عشر أصلاً، ثلاثة أصول مصدرية وهي: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، وبينت وجه كونها أصولا للمقاصد الشرعية.
وخمسة أصول استقرائية وهي: الأول اللسان العربي: أظهرت فيه أصالة اللسان العربي في إدراك المقاصد، وضرورته لها، والثاني القياس الجزئي: بينت فيه ضوابطه ووجه اعتباره أصلا للمقاصد، وما يميِّز به عن غيره، والثالث القياس الكلي: بينت أيضاً حقيقته وضوابطه وجدوى القول به، ووجه اعتباره أصلا للمقاصد، والرابع أصل مآلي معياري: أبرزت فيه أن أصل اعتبار المآل يكون معيارا وميزانا نزن به ونتحقق من حصول الثمرة المقصودة، والخامس بينت فيه أن الأحكام الشرعية أوعية للمقاصد: وأقصد أن الأحكام الشرعية التكليفية أوعية للمصالح والمفاسد، فالواجب والمندوب وعاء للمصلحة، والحرام والمكروه وعاء للمفسدة، والمباح ما استوى فيه الطرفان: في فعله مصلحة، وفي تركه مصلحة مساوية للأولى، فهو وعاء لمصلحة، على السواء.
وأربعة أصول تطبيقية وهي: الأول قصد المكلف: فهو أصل لكل التصرفات الشرعية من الأقوال والأفعال والتروك، سواء كانت عملية أو اعتقادية، فالكل مبني على نية المكلف، وحاصله ضرورة مطابقة قصد المكلف لقصد الشارع في الامتثال، والثاني قصد الشارع: ويتكون هذا الأصل من الكليات الخمس -المعروفة- ولكل كلية مقومات ثلاثة الضروري والحاجي والتحسيني. والثالث تدبير الاختلاف: وهذا الأصل يتكون من مجموعة من القواعد التي تضبط التعايش بين الناس ويبين بشكل جلي ما لا يسع الناس الاختلاف فيه من القيم والأخلاق التي تميِّز الإنسان عن غيره تميُّزاً إيجابيّاً، والرابع التكريم والإسعاد: والمراد به المقصد الأعلى للشريعة الإسلامية وهو: “تكريم الإنسان في الدنيا وإسعاده في الآخرة“.
وأهم الخلاصات كالآتي:
أولاً: إن من أهم ما خلصت إليه هو أن المقاصد عامل مرونة وثراء اسْتُغِلَّتْ من طرف بعض المغرضين فاتخذوها صهوة لنقض الشرع وإبطال أحكامه، فكان لا بد من بيان أصولها التي انبنت عليها واستنبطت منها وأحكمت بها.
وبإبراز هذه الأصول يكون إحكام المقاصد ضبطاً وتنظيماً وحصراً وهو ما يقتضي منع التَّسَيُّب، والإفراط والتفريط، في إعمال المقاصد والقول بها، فيجعلها ذلك واضحةً بينةً، منقحةً من الشوائب والشبهات، محققةً للمراد منها فهماً وإفهاماً وتطبيقاً. فالمقاصد لا تعتبر إلا إذا كانت منضبطةً لمقتضى الوحي كتاباً وسنةً أو إجماع الأمة أو اجتهاد الأئمة اعتباراً ينضبط به إعمالها ويحكم به مقتضاها.
ثانياً: كما خلصت إلى أن المقاصد مراتب ودرجات ومن أَجَلِّهَا الأخذ بالأفضل والأحسن الأيسر، والأسهل، لتحقيق أنفع الأمور وأصلحها للخلق، أي الوصول إلى أفضل الغايات، وأنبل المقاصد؛ بأحسن الوسائل الممكنة والمتاحة؛ وكل ذلك معدن الحكمة وجوهرها.
ثالثاً: ومن ذلك أيضاً أن المقاصد بما أنها هي الثمرة، والثمرة لا يمكن أن تنمو وتؤتي أكلها إلا من أصولها، ومنها تقطف وتجنى، فلا تتصور ثمرة بغير أصول لها، ومن هنا لا تعتبر المقاصد إلا بأصولها النظرية والتطبيقية.
وللتعبير عن هذا المعنى خلصت إلى تعريف جامع مركب لأصول المقاصد الشرعية، حيث ارتبط هذا التعريف منهجياً، بسؤالين محوريين كبيرين، سؤال الغاية؛ وهو لماذا جاءت الشريعة بصفة عامة أو بتفصيل؟ وهذا سؤال يبحث عن المقاصد في جميع مستوياتها، وفي كل مراتبها وأنواعها المعروفة.
ثم سؤال الكيفية؛ أي كيف نصل إلى تلك الغاية، وهو سؤال منهجي، يبحث عن الطرق والوسائل التي توصل إلى الغاية من الشريعة، وأصول المقاصد هي المنهج الكفيل بإيصال الناس إلى الغاية منها، والغاية الكبرى من الشريعة هي “تكريم الإنسان في الدنيا وإسعاده في الآخرة” وهو المقصد الأعلى للشريعة الإسلامية. فيكون إدراك المقاصد بين سؤالين؛ سؤال كاشف للمقاصد وسؤال ضابط لها.
رابعاً: كما خلصت إلى أن بالنظر الكلي لأصول المقاصد ينضبط تأويل المتأولين، وبه يكون ترشيد اجتهاد المجتهدين، فإذا عُرِفَتْ الغاية، وأُدْرِكَ منهج الوصول إليها، فلا يكاد المجتهد يُخطئ الطريق في إدراك المقاصد فهماً وإفهاماً وتطبيقاً، كما يتحصل من ذلك أن ما من نص شرعي قطعي الدلالة والثبوت، إلا ويخدم هذه الغاية: إما أن يخبر بها؛ أو عنها؛ أو يبينها، أو يكون دليلا مرشدا إليها، وهذه وظائف النص الشرعي عموماً.
خامساً: ومن أهم الخلاصات أيضاً أن الشريعة بأصولها المصدرية والاستقرائية جاءت لخدمة المقاصد التطبيقية؛ وتحقيق وجودها، وتسهيل تحصيلها، وأن ما هو شائع اليوم في التعريف بالمقاصد إنما هو مقتصر في أغلبه على الجانب التطبيقي، ومحاولة فصله عن الأصول النظرية؛ قد يوقع في التقصيد بغير دليل، أو في التسَيُّب وهو ليس من الشريعة في شيء.
ومن هنا ندلف إلى خلاصة مفادها أن المقاصد الشرعية معتبرة بأصولها لا تنفك عنها، وأن هذه المقاصد سلسلة متكاملة يخدم بعضها بعضا، ويتوسل ببعضها إلى بعض، وكل ذلك لتحقيق المقصد الأعلى للشريعة الإسلامية، وكأن المقاصد بأصولها لبنات ضرورية؛ لبناء المقصد الأعلى، ولا ضير؛ فإن المقصد قد يكون وسيلة إلى مقصد آخر كما هو معلوم ومقرر عند العلماء.
آفاق البحث في الموضوع
إن البحث في هذا الموضوع ينفتح على مجموعة من الآفاق العلمية الخادمة لمعناه الكلي أو المتممة لجزئياته، والتي يصعب الإحاطة بها في حيز هذا البحث، والحق أنه مشروع علمي متكامل يحتاج إلى عناية من لدن باحثين ذوي همة كبيرة وطموح عالٍ.
ولذلك ارتأيت أن أسجلها لعل الله يقيض لها مَن يوفيها حقها، ويتمم معناها، فمشروع هذا الموضوع جليل القدر، عظيم النفع، جامع للعلم، ضابط للمقصد، واضح المنهج، وهذه التوصيات العلمية يمكن ذكرها على النحو الآتي:
أولاً: البحث في موضوع يمكن وسمه بـ”التَّسَيُّب في إعمال المقاصد“؛ وإشكال هذا له ارتباط وثيق بالموضوع، حيث إن كثيرا من الناس اليوم يسوِّقون مجموعة من الأفكار الهادمة للشريعة ومقاصدها، باسم المقاصد فلا يلتفتون إلى الضوابط الشرعية، ولا يعيرون اهتماما لما نص عليه الشارع جل ثناؤه وعز شرعه. تارة بدعوى التجديد ومواكبة العصر، وتارة باسم الحداثة والتقدم، في حين أنك لا تجده تجديدا ولا مواكبة لحداثة حقيقية؛ وإنما هو سوء فهم للشريعة ومقاصدها، وسوء فهم لحقيقة ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان من حداثة تحترم فيه كرامته وإنسانيته.
قلت هذا لأنهم يٌلَبِّسون على الناس لتحقيق مآربهم في هدم الشريعة وتعطيل تعاليمها ونصوصها وأحكامها، باسم ما ادَّعوه من أن المقاصد تقتضي كذا وكذا، وحينما نتحدث عن هذا المشروع لا نتحدث عن انفعالات عاطفية، وردود أفعال عابرة، بل نتحدث عن بحوث علمية رصينة بمنهجية صارمة وبموضوعية بالغة، تبحث في مظاهر التَّسَيُّب وأسبابه وتاريخه، والمنهج المعتمد عند المتسيِّبين، والأغراض التي تدفعهم لذلك، والمقاصد التي يريدون تحقيقها على المدى المتوسط والبعيد.
ثم كيف يتعاملون مع مصادر التشريع؟ وما ضوابط التأويل عندهم لآي القرآن؟ وما موقفهم من السنة والإجماع؟ وهل لديهم ضوابط للقياس غير ما عرف عند الأصوليين؟ وما المخرج من ذلك..؟ إلى غير ذلك من القضايا العلمية والإشكالات المعرفية المثارة عند هؤلاء، وهذا مشروع علمي متكامل له خدمة مباشرة للمقاصد الشرعية يحتاج إلى ثلة من الباحثين يشتغلون عليه بمنهج موحد.
ثانياً: ومن الآفاق التي عَنَّتْ لي؛ بحث آخر: يمكن تسميته بـ”ضوابط المصلحة عند الإمام الطوفي” وذلك أن تراث الإمام الطوفي سُوِّق بعضه دون بعض، بنظر تجزيئي مغلوط في كثير من الأحيان، فاستغل بعض المغرضين دعوى “تقديم المصلحة على النص القطعي” فقالوا بالمقاصد دون النظر في النصوص لهدم الشريعة بدعوى إعمال المقاصد وتقديمها على النص القطعي -كما قال الإمام الطوفي في نظرهم افتراء عليه- دون تحقق ولا تمحيص ولا استحضار لسياقه، ولا تبين من حقيقة ما قاله؟ ولِمَ قاله؟ وما دلالة ذلك؟ وما سياقه؟.
فتراث الإمام الطوفي زاخر بالنظر المقاصدي الذي ينم عن عقل اجتهادي منضبط ومنهج استنباطي مطرد، ولذلك يحتاج تراثه إلى من يشمِّر على ساعد الجد ويتتبعه بالدراسة والتحليل، يستنبط من خلاله ضوابط القول بالمصلحة عنده، ولندرك ذلك ينبغي البحث في موضوع يمكن وسمه بـ”منهج الاستدلال عند الإمام الطوفي“، من حيث المصادر المعتمد عنده والقواعد التي يعتمدها في الاستنباط والاجتهاد والتقصيد، ومن هنا نحتاج إلى العناية أكثر بتراث الإمام الطوفي دراسة وتحقيقاً حتى يتبين لنا حقيقة ما ينسب إليه، من أقوال ونستفيد من تراثه الزاخر في مجموعة من العلوم الشرعية كالتفسير والحديث والأصول والفقه والسياسة الشرعية، واللغة والآداب.
ثالثاً: ثم هناك مشروع علمي متكامل لخدمة التراث المذهبي وتنقيحه مما نسب إليه، ويمكن وسمه بـ”مشروع البحث عن مواطن الإفراط والتفريط في إعمال المقاصد في المذاهب الفقهية” كل مذهب على حدة، وهذا مشروع كبير يحتاج إلى تضافر جهود مجموعة من الباحثين، وبهذا نستطيع أن نتجه نحو بلورة “منهج وسط في إعمال المقاصد الشرعية”.
وبهذا بلغ البحث نهايته وليس كماله ولا تمامه، وبه ينفتح الباب بحول الله لذوي العزائم من الباحثين والباحثات المبصرين والمبصرات الصابرين والصابرات على مشاق العلم ومتاعب البحث، أهل الهمم العالية والطموح الكبير، المسخرين دنياهم لآخرتهم، المخلصين في الطلب والتحصيل، والمتفانين في حب العلم وأهله، المتفننين في مناهجه وطرق تحصيله، العارفين بالله حق معرفته.
والحمد لله الفتاح المنان على كرم عطائه وتمام مننه، وما كل نعمة إلا من عنده، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]/ مقاصد الشريعة الإسلامية: 3/22.
[2]/ فيسر الله بداية هذا المشروع بوضع لبنته الأولى ببحث موسوم بـ“المباح عند الأصوليين: مفهومه وأنواعه وفوائده“، تقديم الأستاذ عبد العزيز سعو، ثم أتبعته ببحث بعنوان “الكليات التشريعية ومقاصد إعمالها عند الإمام الشاطبي” تقديم الشيخ زاكي يماني والدكتور سليم العوا، طبع ونشر مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن، الطبعة الأولى سنة 2015م، ثم بحث معنون بـ”التَّسيُّب في إعمال المقاصد” تقديم الدكتور عبد الإله القاسمي الطبعة الأولى سنة 2018م، المغرب، لييسر الله -بفضله وكرمه- إضافة هذه اللبنة لنيل شهادة الدكتوراه، بعنوان: “أصول مقاصد الشريعة الإسلامية” ومن لبنات إتمام هذا المشروع كتاب تحت الطبع بحول الله بعنوان “منهج إعمال المقاصد دراسة نقدية لدعوى انفصال المقاصد عن الأصول” تقديم الأستاذ عبد الرحمن عمري، والدكتور عبد الحميد الإدريسي.
[3]/ منهجية البحث في العلوم الشرعية للدكتور حسن العزوزي ص:15- 16.
[4]/ أبجديات البحث في العلوم الشرعية، للدكتور فريد الأنصاري: 96.
[5]/ ينظر أبجديات البحث: 97.
![Print Friendly, PDF & Email](https://cdn.printfriendly.com/buttons/printfriendly-pdf-button-nobg.png)
زر الذهاب إلى الأعلى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أحتاج هذه الرسالة .. فلو أمكن إرسالها لي والتواصل مع الباحث أحمد الرازقي أو اعطائي طريقة للتواصل معه . وجزيتم خيرا.
الأبحاث غير المطبوعة يتعذر إرسالها لمن يرغب فيها.