الباحث: خالد أوعبو
أطروحة دكتوراه من إعداد الباحث خالد أوعبو، تحت إشراف الدكتور السعيد الزاهري، وضمت لجنة المناقشة الدكتور خالد الصمدي رئيسا، والدكتور محمد الراضي عضوا، والدكتورة الزهرة الخمليشي عضوا. والدكتور عبد الجليل حدوش عضوا، والدكتور ادريس بحوث خبيرا، والدكتور أحمد أوزي خبيرا، وتمت المناقشة يوم الجمعة 29 شعبان 1443 الموافق 1أبريل 2022 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان.
تقرير الأطروحة:
يعتبر التعليم المحرك الرئيسي للتنمية وحجر الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات لتحقيق الرقي الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، إذ يعمل على تأهيل الرأسمال البشري -باعتباره إحدى الدعامات الأساسية التي تعتمدها التنمية لبلوغ مقاصدها- للاندماج الفعال والمثمر في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وعلى عكس الاعتقاد الذي ساد لوقت طويل بأن التعليم مجرد ترف اجتماعي وبأنه ضرب من ضروب الاستهلاك، فإن عددا من الاقتصاديين أمثال آدم سميث ودافيد ريكاردو وألفرد مارشال وثيودور شولتز وغيرهم توصلوا إلى العلاقة الطردية بين الاستثمار في التعليم وزيادة ثروات المجتمع، فأثبتوا أن الرأسمال البشري يعتبر مفتاح التنمية لأي مجتمع والعنصر الجوهري فيها. وتعتبر فئة الكبار بوجه عام القوة العاملة المنتجة والمؤثرة الأولى في جميع المجتمعات، وتحقيق أهداف التنمية بمجالاتها المختلفة تعتمد على ما يملكون في قطاعات العمل والإنتاج من ثقافة وفكر ومهارة تجسد مطالب المجتمع وحاجاته، واستدامتها رهين بما يبذلونه من جهود وبمدى وعيهم واستيعابهم للرهانات الكبرى للتنمية وللتحديات التي تواجهها وتعيقها عن تحقيق التقدم المنشود.
إن تأهيل العنصر البشري يعد الدعامة الأساسية لتحقيق التنمية؛ وذلك راجع إلى كون الأفراد أصحاب المؤهلات العالية ينتجون أكثر وأفضل من غيرهم، فيسهمون في الدفع بعجلة النمو الاقتصادي والاجتماعي. ويلاحظ أن آثار الجهود المبذولة لتحقيق النهوض التنموي على أرض الواقع في المجتمعات النامية تظل محدودة، وسبب ذلك يعود إلى مجموعة من الإكراهات والصعوبات أهمها استفحال ظاهرة الأمية التي تعد عائقا حقيقيا أمام تحقيق التنمية، فهي بمثابة الثقب الأسود الذي يبتلع عددا من المخططات التنموية أو ينسفها، فالأمي يعتبر طاقة سلبية معرقلة للحركة الإنتاجية العامة داخل المجتمع، ومعطلة للتنمية السوسيو-اقتصادية المنشودة، كما أن الناظر إلى الخريطة الاجتماعية لبلدان العالم يلحظ العلاقة الطردية بين الأمية والفقر، واجتماعهما شبه الدائم في البلد الواحد، ويمكن تفسير ذلك بأن الأمية تعد من المتغيرات الرئيسية في درجة الفقر، لذلك يعد القضاء عليها لدى جميع الفئات العمرية مفتاحا للقضاء على الفقر وتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة.
ووعيا منه بخطورة هذه الآفة انخرط المغرب منذ فجر الاستقلال في دينامية محاربة الأمية ضمن مسار طويل عرف خلاله تدبير هذا الملف الانتقال بين عدة قطاعات، فمن حملة المليون مستفيد التي أطلقها الملك الراحل محمد الخامس طيب الله ثراه في بدايات الاستقلال، إلى مهمة يضطلع بها قطاع التعاون الوطني، ثم إلى قسم لمحو الأمية وتعليم الكبار بالوزارة المكلفة بالشؤون الاجتماعية سنة 1991م، ليتحول إلى مديرية محاربة الأمية بوزارة التشغيل والتكوين المهني سنة 1997م. وفي سنة 2002 م تم إحداث كتابة الدولة لدى وزارة التربية الوطنية المكلفة بمحاربة الأمية والتربية غير النظامية التي أرست الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الأمية في سنة 2004 م. ومع التغيير الحكومي لسنة 2007 م عاد تدبير الملف لمديرية محاربة الأمية بوزارة التربية الوطنية، ليأتي الدور على الوكالة الوطنية لمحاربة الأمية التي أحدثت بموجب ظهير شريف سنة 2011.
وتفعيلا لما جاء في المادة الثالثة من القانون رقم 38.09 القاضي بإحداث الوكالة الوطنية لمحاربة الأمية بأن محاربة الأمية تعد مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع ضمن مقاربة تشاركية وتعاقدية، وفي إطار مؤسساتي يوفر فضاء للتنسيق بين مختلف المتدخلين؛ تم توقيع اتفاقيات شراكة بين الوكالة الوطنية لمحاربة الأمية وخمس جامعات (جامعة عبد المالك السعدي، وجامعة السلطان مولاي سليمان، وجامعة الحسن الأول، وجامعة مولاي اسماعيل، وجامعة سيدي محمد بن عبد الله) للإسهام في البحث عن حلول لهذه الآفة من منظور علمي أكاديمي. كما تأتي هذه الاتفاقيات بناء على توصيات المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي في تقريره عام 2009 م بضرورة انخراط البحث العلمي بالجامعات في جهود محو الأمية من خلال إنجاز دراسات لتشخيص الظاهرة وتحليلها والبحث عن سبل علاجها في كل أبعادها المعرفية والاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية؛ نفس التقرير الذي أكد أن بلادنا تفتقر بشكل كبير للتراكم النظري والبحث الميداني في مجال البحث العلمي المرتبط بحقل محو الأمية بالرغم من أهميته القصوى في رصد الظاهرة ومواكبتها. ذلك أن الدراسات التي تناولت هذا الحقل بالبحث والتحليل العميقين تكاد تكون منعدمة سواء على مستوى الجامعات أو على مستوى معاهد ومراكز التكوين المختلفة. وهو ما يسهم في ضعف الوعي بمدى خطورة الظاهرة، كما يؤثر سلبا على جودة الخدمات وصيغ الاشتغال، ويحد من قدرة الفاعلين في مجال محو الأمية على الإبداع على مستوى المقاربات والمناهج والمفاهيم، باعتبار ذلك ميدانا لا يمكن التقدم فيه دون مساهمة الجامعة والمعاهد العلمية من خلال توجيه البحث العلمي لمواكبة برامج محو الأمية بالنقد والتحليل واقتراح المقاربات البديلة، وفتح تخصصات ومسالك للتكوين في مجال تعليم الكبار. ويأتي هذا البحث تفعيلا لهذه الشراكة وإسهاما في إيجاد الحلول الموضوعية للمعضلات التي تهدد نجاح برامج محاربة الأمية وتعليم الكبار ببلادنا.
ومن المعضلات التي تعيق نجاح هذه البرامج ارتفاع نسب التسرب السنوية للمسجلين بمراكز محو الأمية وتعليم الكبار قبل حصولهم على الكفايات القرائية الضرورية، إذ لا تقل هذه النسبة عن % 25 كل موسم تكويني. لذلك ارتأينا في هذا البحث التشخيص الدقيق لظاهرة تسرب الدارسين من مراكز محاربة الأمية وتعليم الكبار، لمعرفة الحاجيات الحقيقية للدارسين الكبار في هذه المراكز، والوقوف على الأسباب الموضوعية التي تدفعهم للانقطاع والتسرب منها، وصولا إلى اقتراح خطة عملية مناسبة للحد من هذه الظاهرة التي أصبحت تبدد الكثير من الأموال والآمال المرتبطة بمحاربة الأمية، وتهدد تحقيق الهدف المنشود وفق الرؤية الاستراتيجية للوكالة الوطنية لمحاربة الأمية؛ وهو تقليص المعدل العام للأمية بالمغرب إلى أقل من % 10 في أفق سنة 2026 م.
ولفهم ظاهرة تسرب الكبار من مراكز التكوين وتتبع أسبابها لمحاولة وضع حد لها سلك الباحث المنهجية التالية:
ارتأى الباحث تقسيم البحث إلى بابين، خصّص الأول لعرض مدخل منهجي وفرش نظري للتأسيس لأرضية متينة تمهد للدراسة الميدانية، وقد احتوى هذا الباب على ستة فصول. تصدر الفصل الأول الإطار المنهجي العام الذي يؤسّس لموضوع البحث، وفيه عرض الباحث موضوع البحث وأهميته التي تمثلت في إسهامه بشكل عام في علاج إحدى المعضلات الكبرى التي تعيق التنمية بالبلاد وهي معضلة الأمية، وبشكل أخص في كونه يُعَدّ دراسة ميدانية تتغيى التشخيص الدقيق للظاهرة للوقوف على الأسباب الموضوعية التي تدفع الدارسين إلى التسرب من مراكز تعليم الكبار؛ بغرض الإسهام في إعداد قاعدة بيانات موضوعية ومرجعا علميا لإعادة النظر في عدد من الخطط المرتبطة ببرامج محو الأمية وتعليم الكبار بالبلاد، واقتراح خطة عملية مناسبة للحد من هذه الظاهرة. كما تضمن الفصل الحديث عن الأهداف التي يسعى البحث إلى تحقيها، والمتمثلة في التعرف على الأسباب الموضوعية التي تؤدي إلى تسرب الدارسين من مراكز تعليم الكبار للتمكن من بناء خطة استراتيجية للحد من هذه الظاهرة. كما عرض الباحث في هذا الفصل مشكلة البحث وإشكاليته وفرضياته التي بينها في موضعها.
وحيث إن البحوث الميدانية لا تخلو من صعوبات تعترض الباحثين؛ عرض الباحث عددا من الصعوبات التي واجهته في إعداد رسالته، ومنها صعوبة الحصول على المعلومة، ومصداقية المعطيات الإحصائية، وتشتت العينة، ووعورة تضاريس ومناخ المنطقة البحثية، كما بين الإجراءات التي انتهجها للتغلب عليها. أما بخصوص مبررات اختيار موضوع البحث، فقد ذكر الباحث في هذا الفصل أنها تتوزع إلى مبررات ذاتية؛ وتتمثل في اهتمامه بالمجال التربوي بشكل عام، وعمله بالعالم القروي لسنوات عدة، ووقوفه على ما تشكله الأمية من تأثير سلبي على المردودية الدراسية لأبناء الأميين، ومبررات موضوعية؛ تكمن في علاقة هذا الموضوع بالتنمية؛ فبمحاربة الأمية وتعليم الكبار نسهم في تأهيل العنصر البشري، وبالتالي في الانخراط بفعالية في مخططات التنمية، ويعد تسرب الكبار من مراكز التكوين من الأسباب الموضوعية التي تضعف الوتيرة التي تسير بها محاربة الأمية بالمغرب؛ إذ لا تتعدى النقطة الواحدة كل سنة. أما عن المناهج التي اتبعها الباحث في دراسته فقد تنوعت بين المنهج الوصفي التحليلي، الذي وظفه في وصف ظاهرة تسرب الدارسين من فصول محو الأمية وتعليم الكبار بالمنطقة البحثية، ثم تحليل النتائج بعد تطبيق استبيان صمّمه الباحث لهذا الغرض للتعرف على الأسباب الموضوعية التي تدفع الدارسين إلى ترك مقاعد التكوين بعد التسجيل فيها، كما اعتمد الباحث المنهج الإحصائي الاستدلالي من خلال جميع المعلومات والبيانات لظاهرة تسرب الدارسين من مراكز تعليم الكبار، وتنظيمها وتبويبها وعرضها جدوليا أو بيانيا، ثم تحليلها رياضيا واستخلاص النتائج بشأنها والعمل على تفسيرها، بالإضافة إلى توظيفه للمنهج الاستقرائي من خلال تتبع مفهوم محو الأمية وتعليم الكبار في الوثائق التربوية الرسمية، ليخلص إلى استنتاج مفاده اعتناء المنظومة التربوية المغربية بكل مكوناتها بالقضاء على هذه الظاهرة واجتثاث جذورها من المجتمع المغربي، كما استخدم الباحث منهج تحليل المضمون لتحليل المقابلات والحوارات بين أفراد المجموعة البؤرية، لوصف المحتوى الظاهر للمشكلة وصفا موضوعيا ومنهجيا، وتصنيفه وترتيبه لاستخلاص معلومات ونتائج جزئية يعتبرها الباحث نقطة انطلاق لاستخلاص النتائج العامة للبحث.
وحتى لا ينطلق البحث من فراغ معرفي حاول الباحث التنقيب -قدر الإمكان- عن دراسات سابقة حول الموضوع أو مشابهة لبعض جوانبه، فتوفرت له مجموعة من الدراسات -العربية والدولية- التي حاولت أن تسلط الضوء على ظاهرة تسرب الدارسين من مراكز تعليم الكبار. عرض الباحث بعد ذلك حدود الدراسة الزمانية والمكانية، فبين أنها محددة زمنيا بالموسمين التكوينيين 2018/2019 و2019/2020، ومكانيا بإقليم شفشاون (بلدية شفشاون وست جماعات قروية بالإقليم). وختم الباحث الفصل بالتحديد الإجرائي للمفاهيم المركزية في البحث.
أما الفصل الثاني فقد خُصّص لعرض “المرجعيات التربوية الوطنية لمحاربة الأمية وتعليم الكبار”، والتي حددها الباحث في ست مرجعيات وهي: الخطب الملكية، والميثاق الوطني للتربية والتكوين، وتقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، وتقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، والرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين، والقانون الإطار 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، ليخلص إلى أن موضوع تعليم الكبار حظي باهتمام كبير عند صناع القرار منذ فجر الاستقلال، فجات السياسات التربوية المتلاحقة راسمة خططا وواضعة أسسا عامة للنهوض بالمجال التربوي عموما، وجاعلة القضاء على الأمية رافعة كبرى لتحقيق هذا المبتغى.
وجاء الفصل الثالث الموسوم ب” التسرب، مفهومه وأسبابه وآثاره على الفرد والمجتمع” لعرض أحد المفاهيم المركزية للبحث وهو مفهوم التسرب، فناقش المفهوم في علاقته ببعض المفاهيم المتقاطعة معه كالهدر والانقطاع والرسوب والتأخر المدرسي، محددا أسبابه؛ سواء تلك المتعلقة بالمتعلم نفسه كالأسباب النفسية والعقلية والفيسيولوجية، أو الخارجة عن ذاته كالأسباب التربوية والأسباب السوسيو-اقتصادية، ومبينا بعض آثاره على المتسرب نفسه؛ المرتبطة بما هو نفسي أو تعليمي أو مهني، وعلى المجتمع برمته؛ المرتبطة باستقراره على المستوى الاجتماعي، ورقيه على المستوى الثقافي، وازدهاره على المستوى الاقتصادي.
أما الفصل الخامس فقد ناقش موضوع “مناهج تعليم الكبار“، موضحا خصائصها، ومبينا أنواعها، ومفصلا في أسس بنائها وفي مكوناتها، كما بين الباحث في هذا الفصل أهمية تكوين المكونين في نجاح برامج تعليم الكبار، واختتم الفصل بعرض بعض الأسباب النظرية لتسرب الدارسين من مراكز تعليم الكبار المرتبطة بالعامل الأندراغوجي.
فيما ناقش الفصل الخامس “الخصائص النفسية والفيسيولوجية للكبار“؛ من نضج عقلي ونفسي وانفعالي، أو من تراجع بعض الأعضاء في أداء وظائفها، أو مراكمتهم للتجارب جراء تحمل الكبار أدوارا ومسؤوليات متعددة، وبيّن أثر كل ذلك في نجاح برامج تعليم هذه الفئة إيجابا وسلبا، كما ناقش دوافع الكبار للانخراط في التكوين، فوقف على أنها تنحصر في الدوافع العلمية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والنفسية، باحثا عن النظريات المفسرة لها، كما بين الباحث في هذا الفصل الدور الكبير لهذه الدوافع في نجاح برامج تعليم الكبار، واختتم الفصل بجرد بعض أسباب تسرب الدارسين من مراكز تعليم الكبار المرتبطة بخصائص الكبار السيكولوجية والفيسيولوجية.
وخصص الباحث الفصل السادس والأخير من هذا الباب لمناقشة علاقة تعليم الكبار بالتنمية السوسيو-اقتصادية، مبينا دوره في تأهيل الكبار باعتبارهم القوة العاملة المنتجة والمؤثرة الأولى في المجتمع للاندماج الفعال والمثمر في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، على عكس الأمي الذي يعتبر طاقة سلبية معرقلة للحركة الإنتاجية العامة داخل المجتمع ومعطلة للتنمية السوسيو-اقتصادية المنشودة، واختتم الفصل بذكر بعض أسباب تسرب الدارسين من مراكز تعليم الكبر المرتبطة بالعامل السوسيو-اقتصادي.
تعتبر الدراسة الميدانية الآلية التي يسعى الباحث من خلالها إلى التنزيل الإجرائي للمحتوى النظري لبحثه والتحقق من صحة فرضياته من خلال التجريب الميداني للدراسة على عينة البحث. وتكتسي الإجراءات المنهجية -باعتبارها مقدمة للعمل الميداني- دورا مهما في مسار البحث، فهي التي ترسم معالم خطة البحث الميداني التي سلكها الباحث لتحقيق الأهداف المتوقعة منه، سواء من خلال التحديد الدقيق لأدوات البحث الفعالة لمتابعة خطواته، تجنبا لاستعمال أدوات بحثية في غير محلها أو التقصير في توفير أداة ضرورية للبحث، أو من خلال الاختيار الدقيق للعينة المراد دراستها وإعدادها، بحيث تكون ممثلة للمجتمع الأصلي-قدر الإمكان- ولا تكون عينة مبتورة الجوانب لا تؤدي الغرض العلمي من إخضاعها للاختبار، أو من خلال استخدام أساليب المعالجة الإحصائية الملائمة.
وهذا ما حاول الباحث أن يتوخاه في مسار البحث قدر المستطاع، فقد خصص الباب الثاني من البحث للدراسة الميدانية، فجاء فصله الأول والذي يمثل الفصل السابع من كامل البحث والمعنون ب “الخطة العامة للدراسة الميدانية وأدواتها” لعرض الإجراءات المنهجية للدراسة الميدانية، بدءا بجمع البيانات والمعطيات، تلاه تقديم منهجية البحث الإجرائي، ثم القيام بالدراسة الاستطلاعية، التي أعقبتها مباشرة الدراسة الميدانية، للوصول أخيرا إلى تفريغ البيانات وتحليلها، كما حدد الباحث في هذا الفصل مجتمع الدراسة وعينتها، والمدة الزمنية المخصصة للبحث الميداني، وقدم الأدوات المستخدمة فيه، وختمه بذكر الأساليب الإحصائية التي استخدمت في تحليل معطياته.
أما الفصل الثامن فتم تخصيصه لعرض وتحليل بيانات الدراسة الميدانية في ضوء الفرضيات المطروحة والإطار النظري المعتمد.
رصدت الدراسة الميدانية وجود عدد من الإشكالات التي تعيق نجاح برامج تعليم الكبار موزعة على أربعة مجالات رئيسية؛ منها إشكالات مرتبطة بمجال الحكامة من قبيل ضعف التواصل والتنسيق بين المؤسسات المكلفة بمحو الأمية وتعليم الكبار أو عدم توفر هذه المؤسسات على هياكل تنظيمية محلية، وقصور نظام التتبع والتقييم بهذه المؤسسات، وضعف الترسانة القانونية في مجال محاربة الأمية، وإشكالات مرتبطة بالمجال الأندراغوجي، من قبيل هشاشة وضعية المكون، وهزالة تعويضاته، وعدم استقراره، وضعف كفاءته، وعدم ملاءمة محتويات المنهاج لخصوصيات جميع الفئات المستهدفة، وعدم استجابتها لحاجياتهم واهتماماتهم، وعدم مناسبة طرق التكوين لخصائص الكبار، وفضاءات التكوين التي لا تناسب المعايير الأندراغوجية الخاصة بتعليم الكبار، وإشكالات مرتبطة بالمجالين السيكولوجي والفيسيولوجي، كضعف الرغبة في التعلم، وعدم وجود ولوجيات ملائمة للمستفيدين كبار السن بمراكز التكوين، وإشكالات مرتبطة بالمجال السوسي-اقتصادي، كغياب مردودية التكوين على العائد المادي للمستفيدين، وهشاشة وضعيتهم الاجتماعية التي تمنعهم من الاستمرار في التكوين.
وبالمقابل وقفت هذه الدراسة على نقاط قوة بإمكانها إنجاح خطط محاربة الأمية وتعليم الكبار، منها استقرار الإطار المؤسساتي (الوكالة الوطنية لمحاربة الأمية ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية)، وتعدد الشركاء الوطنيين؛ من هيئات وقطاعات حكومية، ومجالس منتخبة، وجمعيات شريكة، والشركاء الدوليين المهتمين بهذا المجال.
وبناء على الإطار النظري واستثمارا لنتائج الدراسة الميدانية جاء الفصل التاسع والأخير لاقتراح خطة استراتيجية لمحاربة التسرب من مراكز تعليم الكبار، والقضاء شبه النهائي على الأمية في أفق 2030، وفق تصور متكامل يقوم على أساس مشروع تنموي مندمج، يربط التكوين بالاندماج السوسيو-مهني، أساسه تجاوز الإشكالات المرصودة والاعتماد على نقاط القوة، من خلال الاشتغال على أربعة مجالات للتدخل وهي:
– مجال الحكامة: في شقه المتعلق بالجانب التشريعي، من قبيل إعداد نصوص قانونية تحدد اختصاصات مختلف المتدخلين، ومأسسة نظام التعويضات، والجانب المتعلق بالتعبئة والتحسيس، كعقد لقاءات دورية بين مختلف الفاعلين من أجل استقطاب أكبر عدد من المستفيدين وتتبع مراحل تكوينهم، وتوظيف مختلف وسائل الاتصال من تلفزة وإذاعة ووسائل التواصل الاجتماعي للتحسيس بأهمية الانخراط في برامج التكوين، وتنظيم عمليات من المستفيد إلى المستفيد، مع تقديم حوافز لمن يستقطب مستفيدين جدد، إضافة إلى شقه المتعلق بالتدبير والتسيير والمراقبة من قبيل التنسيق بين المؤسسات المكلفة بمحو الأمية وتعليم الكبار، وإلزام القوى الحية المحلية للانخراط في البرامج المحلية وتوفير بيئة محفزة على التعلم والاستمرار فيه، و إرساء آليات التتبع والتأطير والتقويم للخطة.
– مجال الأندراغوجيا: في شقه المتعلق بالمكونين، عبر مأسسة التكوين الأساسي والمستمر للأطر العاملة في برامج تعليم الكبار بتعاون مع المؤسسات الجامعية؛ خاصة المدارس العليا للأساتذة وكلية علوم التربية والمراكز الجهوية للتربية والتكوين، وتحفيز المكونين من خلال الاعتراف بإطار “مكون الكبار” وإخراج قانون يحدد هذه المهنة (المهمة) وكل متعلقاتها؛ من مواصفاتها، وشروط ولوجها، والمهام المنوطة بها، ونظام التعويضات فيها، بنفس مستوى العاملين بالتعليم المدرسي النظامي، والشق المتعلق بمحتويات التكوين من خلال السعي إلى استجابتها لحاجيات المستفيدين وربطها بمحيطهم السوسيو-ثقافي، وتخليص برامج تعليم الكبار من الطابع المدرسي، والانتقال من برامج لتعليم الكبار إلى مشاريع للتأهيل المستمر، والشق المتعلق بطرق التدريس والتقويم من خلال تبني الأندراغوجيا باعتبارها تنسجم مع خصوصيات المتعلم الكبير الذي راكم تجارب حياتية عديدة، وكذا تبني المقاربة بالكفايات كمدخل أساسي لبناء مناهج تعليم الكبار أو مراجعتها، وكذلك في شقه المتعلق بفضاء التكوين من خلال الانتقال من منطق العرض إلى منطق الطلب وتوفير فضاءات جديدة ومناسبة للتكوين.
– المجال السيكولوجي والفيسيولوجي: عبر تبني مقاربة سيكولوجية لفهم دوافع الكبار للانخراط في التكوين والاهتمام صحيا بالدارسين.
– المجال السوسيو-اقتصادي: من قبيل الرفع من الميزانية المخصصة لمحاربة الأمية وتعليم الكبار، وتقديم الدعم الاجتماعي للمستفيدين، عبر مواكبتهم مهنيا واجتماعيا، وتقديم حوافز مالية لتشجيعهم على الاستمرار في التكوين، وبناء برامج شاملة تضم مشاريع التنمية البشرية ومحاربة الفقر والهشاشة وتربطها بالتسجيل في برامج محو الأمية.

زر الذهاب إلى الأعلى