أحكام الأمراض والأوبئة من خلال اجتهادات فقهاء المغرب في القرن التاسع عشر

دراسة فقهية مقارنة

الباحث: عبد اللطيف الصالحي

     تحت إشراف الدكتور عبد الرزاق مرزوك، بكلية الآداب والعلوم الانسانية، جامعة القاضي عياض بمراكش. وقد تمت مناقشتها بتاريخ 19 شتنبر 2022، وتكونت لجنة المناقشة من السادة الأساتذة:
– أمينة سعدي: رئيسا
– عبد الرزاق مرزوك: مشرفا ومقررا
– إبراهيم عقيلي: عضوا ومقررا
– سعيد النكر: عضوا ومقررا
– مبارك أبو معشر: عضوا ومقررا
وبعد المناقشة والمداولة منحت اللجنة الطالب الباحث شهادة الدكتوراه بميزة مشرف جدا.
ملخص موضوع الأطروحة:
       بسم الله الرحمن الرحيم
     الحمد لله أبلغ الحمد وأوفاه، وأكمله وأنماه، فما من نعمة إلا وهو مسديها، وما من منة إلا وهو موليها، فهو أحق من حُمِد، وأولى من شُكِر، نحمده تبارك وتعالى على أن يسر لنا طريق العلم وحببه إلى قلوبنا، والصلاة على خير مبعوث للأمم، والسلام على أفضل من أُرْسِل بالحِكَم، وبعد؛
1- أهمية موضوع البحث ومسوغات اختياره:
     يندرج موضوع هذا البحث ضمن النوازل المتعلقة بالأوبئة التي اجتاحت مناطق متعددة من العالم في مختلف العصور، وهزت بعنف بناها الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية، وتركت بصمات على الحياة الفكرية، كما تجلى ذلك في كثرة ما كرسه لها المفكرون المعاصرون للوباء من رسائل ومقالات، سواء في العالم الإسلامي أو غيره.
    ولقد اهتم علماؤنا المغاربة بالبحث في أحكام هذه النوازل، ودونوا بشأنها مجموعة من الأجوبة والتقاييد والرسائل، إلا أن أغلبها لم يحظ باهتمام الدارسين وبقي مخطوطا مهملا ينتظر من ينفض عنه غبار النسيان.
      وهي كتابات لا تخلو من أهمية خاصة  فيما يتعلق بالجانب الفقهي حيث تبرز نظرة المعاصرين للوباء، وأسباب ظهوره وطرق علاجه من منظور شرعي، والسلوك الذي ينبغي على المسلم أن يلتزم به في زمانه. وتعكس بالخصوص ذلك الجدل الفقهي حول إشكالية العدوى ومشروعية الوقاية في الإسلام.
ومن شأن دراستها أن يلقي أضواء على واقع الحركة الفقهية للبلاد في زمن الوباء. وأن يستمد منها الباحثون أجوبة عن الإشكالات القديمة الجديدة التي لا زالت تطرح باستمرار  مع ظهور أوبئة جديدة في العقد الأخير  (وباء الأنفلونزا- وباء سارس- وباء الملاريا- وباء الإيبولا ) وآخرها وباء كورونا المستجد الذي صادفت مناقشة هذا البحث انتشاره الواسع في العالم رغم ما وصل إليه العلم الحديث من تقدم  في المجال الطبي والوقائي.
     وباعتبار أن ما كتبه فقهاؤنا في هذا الموضوع خلال القرن التاسع عشر هو امتداد لما كُتب منه في القرن الثامن عشر، وبشكل خاص بعد سنة 1742، فإنني قررت بعد موافقة أستاذي المشرف أن أتوسع في هذه الدراسة وأجعلها في فترة (1742-1896) لكونها الفترة التي شهدت تراكما ملموسا في التأليف في موضوع الأوبئة والعدوى والاحتراز وذلك لسببين اثنين:
– أولهما: كثرة الأوبئة والأمراض الفتاكة التي ضربت بلاد المغرب خلال هذه الفترة، وأهمها: موجات الطاعون والكوليرا والتيفويد، وما خلفته من آثار جسيمة على واقع البلاد الديموغرافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
– ثانيهما: المستجدات التي عرفها المغرب خلال هذه الفترة، والمتمثلة في سعي القوى الأوربية إلى فرض مجموعة من الإجراءات الصحية الاحترازية على المغرب والمغاربة (تجار، حجاج، سفراء…) مما دفع مجموعة من الفقهاء إلى بيان موقفهم من هذه الإجراءات والتدابير، خاصة تلك التي فرضت على الحجاج في المحاجر الصحية داخل المغرب وخارجه.
       ويهدف هذا البحث إلى دراسة مختلف الأحكام الفقهية المتعلقة بالأمراض المعدية والأوبئة، والوقوف على أقوال الفقهاء المتقدمين فيها، ثم النظر فيما كتبه فقهاء المرحلة في المغرب لمعرفة كيف تطورت الكتابة في هذا الموضوع وإلى أي مدى استطاعت أن تساير هذا الواقع المتجدد الذي عرف مجموعة من المتغيرات، منها:
– تمكن الدول الأوروبية المجاورة من الحد من انتشار الطاعون بين سكانها عن طريق الأخذ بنظام الحجر الصحي؛
– ظهور وباء الكوليرا بالمغرب وهو وباء جديد غير معهود في المنطقة؛
– انتعاش التجارة الخارجية بعد تطور الملاحة البحرية وظهور السفن البخارية؛
– تبني الدولة المغربية لسياسة الاحتراز تحت ضغط المجلس الدولي بطنجة.
2- الدراسات السابقة في الموضوع:
من الأبحاث والدراسات المهمة التي استفدت منها كثيرا، والتي تناولت الموضوع من الجانب التاريخي و الفكري، ومهدت لي الطريق لدراسته دراسة فقهية مقارنة، أذكر ما يلي:
1) الرسالة القيمة التي أعدها المرحوم الدكتور محمد الأمين البزاز تحت عنوان تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. هذه الرسالة وإن كان تخصصها البحث في تاريخ المغرب إلا أن صاحبها خصص فصلا في كتابه ذكر فيه أهم فقهاء المرحلة ورسائلهم التي كتبوها في الموضوع وأبرز القضايا الفقهية التي احتدم حولها النقاش، وأثر ذلك في مواجهة الأوبئة.
2) الأطروحة التي أنجزها الدكتور حسين بوجرة في موضوع: الطاعون وبدع الطاعون، الحراك الاجتماعي في بلاد المغرب بين الفقيه والأمير والطبيب (1450-1800)، وهي بحث في تاريخ الذهنيات، ركز فيها صاحبها على موقف التونسيين من الطاعون فقهاء وأطباء وأمراء مقارنة مع غيرهم من المغاربة خلال الفترة الممتدة من 1450م إلى 1800م.
3) تحقيق كتاب العربي المشرفي: أقوال المُطاعين في الطعن والطواعين، تحت عنوان أدبيات الأوبئة في القرن التاسع عشر من طرف الدكتور حسن الفرقان. وقد اعتنى في هذا التحقيق بالدراسة التاريخية للموضوع.
4) أبحاث ندوة: المجاعات والأوبئة في تاريخ المغرب خلال الأيام الوطنية العاشرة للجمعية المغربية للبحث التاريخي بكلية الآداب جامعة شعيب الدكالي، يومي: 25 و 26 أكتوبر سنة 2002. ومن المواضيع المتصلة بالبحث التي قدمت في هذه الندوة:
       – مفهوم الوباء عند الأخباريين المغاربة في القرن التاسع عشر، لحسن الفرقان 
       – إشكالية العدوى والاحتراز من الأوبئة في مغرب القرن 19، لأحمد المكاوي.
3- منهج البحث:
      اعتمدت في إعداد هذا البحث على جملة من المناهج العلمية:
المنهج الوصفي والتاريخي، الذي مكنني من تتبع مختلف الأوبئة التي اجتاحت المغرب خلال فترة البحث والوقوف على أهم آثارها، وما كتبه الفقهاء بشأنها.
– المنهج المقارن، حيث أوردت أقوال العلماء في القضايا الفقهية المتعلقة بالأمراض المعدية والأوبئة وأدلة كل فريق محاولا الجمع بينها أو ترجيح بعضها على بعض إذا تعذر ذلك.
المنهج الاستقرائي التحليلي، وذلك بتتبع مختلف المسائل الجزئية التي تناولتها الكتابة في الموضوع والربط بينها وتحليلها لتحديد موقف كل فقيه من قضايا التعامل مع الوباء.
4- خطــة البحــث:
     جعلت للبحث تصميما مكونا من مقدمة وثلاثة فصول، ومباحث ومطالب وخاتمة.
     أما المقدمة فخصصتها للتعريف بموضوع البحث، وبيان أهميته ومسوغاته وصعوباته والمنهج المتبع والخطة التي سرت عليها فيه.
     وعقدت الفصل الأول لبيان أنواع الأمراض والأوبئة وأسبابها وطرق الوقاية منها في الإسلام، وتناولت فيه الفرق بين الطاعون والأوبئة الأخرى وأسبابها المختلفة عند كل من الفقهاء والأطباء، وأبرزت خلاله مختلف التدابير الوقائية التي حث عليها الإسلام لحفظ الصحة والوقاية من الإصابة بالأمراض، وختمته بذكر اختلاف الفقهاء في موقف الشرع من التداوي والاحتراز.
    وخصصت الفصل الثاني لدراسة الجانب التاريخي والفقهي لقضايا العدوى والوباء، ففي الجانب التاريخي تناولت الأوبئة والطواعين المشهورة عند علماء الإسلام، كما قمت بتتبع تاريخ التأليف في الوباء والعدوى عند الفقهاء وذكرت عناوين مجموعة من المؤلفات المخطوطة والمطبوعة في الموضوع. وقسمت الجانب الفقهي إلى مبحثين تناولت في الأول الأحكام الفقهية الخاصة بالوباء، من قبيل حكم حاضر بلد الوباء في الحياة وبعد الموت وحكم الخروج من أرض الوباء وحكم الدخول عليه وحكم الدعاء برفعه والقنوت له. وتناولت في المبحث الثاني الأحكام الفقهية المتعلقة بالأمراض المعدية، وأبرزت فيه مشروعية العدوى بين الإثبات والنفي وأثرها على مخالطة المصاب لغيره من الناس سواء كان زوجا أو شخصا آخر، ففي حالة الزوجية تطرقت لحكم زواج المصاب بمرض معد وحكم معاشرته لزوجه وأقوال الفقهاء في التفريق بين الزوجين عند وجود الإصابة وأثر ذلك على الحقوق الزوجية. وفي الحالات الأخرى بينت أثر المخالطة على الحضانة والرضاع والصلاة والحج والعلاقات العامة بين الناس في سكناهم وأسواقهم ومعاملاتهم. وفي آخر هذا الفصل تطرقت لأثر العدوى على المعاملات المالية للمصاب التبرعية منها والعوضية.
    أما الفصل الثالث الذي يشكل عمدة هذا البحث، فقد خصصته لدراسة اجتهاد فقهاء المغرب في أحكام الوباء خلال فترة (1742- 1896)، وقسمته إلى ثلاثة مباحث:
    اعتنيت في المبحث الأول بذكر موجات الوباء التي اجتاحت المغرب خلال هذه الفترة وما خلفته من آثار ديموغرافية واجتماعية واقتصادية وسياسية، ثم انتقلت في المبحث الثاني إلى دراسة ما كتبه الفقهاء المغاربة في الموضوع ما بين سنة 1742م وسنة 1792م، أي قبل خضوع المغرب للإجراءات الصحية الاحترازية الدولية، وقبل انتشار وباء الكوليرا بالبلاد، ورتبت مسالك الفقهاء في الكتابة خلال هذه المرحلة على ثلاثة مطالب:
-المطلب الأول: التلخيص والاختصار لكتب السابقين: “رسالة محمد بن الحسن البناني أنموذجا”
– المطلب الثاني:  التوفيق بين الطب والشرع “كتاب في الطب لمحمد بن يحيى الهشتوكي أنموذجا
– المطلب الثالث: الأجوبة عن أسئلة المستفتين، وتناولت فيه نموذجين:
       1- جواب محمد الحضيكي
       2- جواب أحمد بن المبارك اللمطي السجلماسي
     وفي المبحث الثالث قمت بدراسة ما كتب في موضوع الوباء بعد سنة 1792 إلى سنة 1896 وهي فترة دخول وباء الكوليرا للمغرب وبداية الاجراءات الصحية الوقائية بعد تأسيس الهيئة القنصلية المقيمة بطنجة لمجلس خاص بهذا الأمر سنة 1792، ثم فرض القوى الأوربية  للحجر الصحي على المغرب بسبب انفتاحه على التجارة البحرية وتوقيعه معاهدات جديدة مع أروبا، وعدم نجاعة هذه الاجراءات والتدابير في صد الأوبئة التي بقيت تفتك بالمغاربة طول هذه المدة. وجعلت هذا المبحث أيضا في ثلاثة مطالب:
– المطلب الأول: التوسع في الجواب عن أسئلة المستفتين: جواب محمد الرهوني
– المطلب الثاني: التلخيص والاختصار مع مراعاة خصوصية المرحلة رسالة العربي المشرفي أنموذجا
– المطلب الثالث: الاعتراض على سياسة الاحتراز من الوباء، وذكرت ثلاث نماذج:
           1- موقف أحمد بن عجيبة من الاحتراز
           2- فتوى أحمد بن خالد الناصري حول إجراء الكرنتينة
           3- الرد على المتشددين من الفقهاء، رسالة محمد بن أبي القاسم الفيلالي نموذجا
وسعيت في هذا الفصل إلى عرض مختلف المسائل التي تناولها هؤلاء الفقهاء في رسائلهم وأجوبتهم وكذلك مواقفهم المتباينة بشأن حقيقة العدوى وحكم الخروج من بلد الوباء والدخول إليه والتعامل مع أهله وحكم الدعاء برفعه. والجديد الذي أضافوه في الموضوع مقارنة مع ما أنتجه المتقدمون.
5- الخلاصات والنتائج:
ـ اتفق أهل اللغة والأطباء والفقهاء على أن المقصود بالوباء هو المرض الذي يعم الكثير من الناس في جهة من الجهات، واختلف الفقهاء في التمييز بين الطاعون والوباء، فمنهم من قال بالترادف واعتبرهما مرضا واحدا، ومنهم من جعل بينهما عموما وخصوصا، وقال بأن كل طاعون وباء وليس كل وباء طاعون.
ـ شكلت موجات الطاعون المتعاقبة على البلاد الإسلامية والأمراض المعدية كالجذام، سببا رئيسيا للتأليف في نازلة العدوى والوباء، مادته الأولية الأحاديث النبوية وآثار الصحابة والتابعين. وقد فاقت كتابات الفقهاء ما كتبه الأطباء في الموضوع، إلا أن أكثرها لم يحظ بالدراسة والاهتمام من طرف الباحثين، ويعتبر كتاب “بذل الماعون في فضل الطاعون” الذي ألفه ابن حجر العسقلاني في القرن التاسع الهجري المرجع الرئيسي لأغلب الفقهاء الذين كتبوا في الموضوع بعده.
ـ ناقش الفقهاء في كتبهم أحكاما فقهية خاصة بالوباء والعدوى، توجيها لسلوكيات الناس زمن الوباء وجوابا عن أسئلتهم، من قبيل حكم الخروج من أرض الوباء والدخول إليها، وحكم الدعاء برفع الوباء والاجتماع لذلك، وكون الميت في الوباء شهيد، وحكم مخالطة المصاب بمرض معد لزوجه وغيره من الناس، وأثر ذلك على عباداته ومعاملاته المالية وغيرها من الأحكام الشرعية، ومن هذه الأحكام:
– الوباء من الأمراض المخوفة التي يحجر فيها على المصاب، ويلحق به حاضر بلد الوباء غير المصاب إذا كان الوباء ذريعا يذهب بكثير من الناس، أما إذا كان الوباء خفيفا فحكمه حكم الصحيح حتى ينزل به الداء.
–  يأخذ المفقود زمن الوباء نفس أحكام المفقود في الحالات الأخرى عند الحنفية والشافعية، ويلحق بحكم المفقود في غيبة ظاهرها الهلاك عند الحنابلة، أما المالكية فقد أفردوا المفقود في زمن الوباء بحكم خاص: وهو أنه يحمل على الموت ولا يضرب له أجل فتعتد زوجته ويُوَرَّثُ ماله مباشرة بعد ذهاب الوباء.
– الميت بسبب الوباء أو في زمانه، يحصل له أجر الشهادة إذا صبر ولم يخرج من بلده فرارا من الوباء، وقصد بذلك ثواب الله، ويلحق بشهيد المعترك في الأجر والثواب وليس في الأحكام الخاصة به. وإذا كثر  شهداء الوباء واشتد الأمر على من يقوم بغسلهم ودفنهم، فإنه يجوز الاكتفاء بالغسلة الواحدة وصب الماء عليهم صبا من غير دلك، فإن تعذر فالتيمم، كما يجوز جمع عدد منهم في قبر واحد.
– اختلف الفقهاء كما اختلف قبلهم الصحابة رضي الله عنهم في حكم الخروج من أرض الوباء والقدوم إليها، فمنهم من حمل الأحاديث الواردة في النهي على ظاهرها وقال بالتحريم، ومنهم من حمل النهي على التنزيه وقال بالكراهة، ومنهم من قال بالجواز.
وللمالكية أقوال مختلفة في الوجهين، والمشهور عندهم الكراهة. وقد حصر الحطاب هذه الأقوال في خمس، وهي:
الأول: أن ذلك حرام في الوجهين، والثاني: أن ذلك مكروه في الوجهين، وهو المشهور في المذهب. والثالث: أن ذلك جائز في الوجهين، والرابع: جواز القدوم وكراهة الخروج.
والخامس: استحباب الخروج عنه وعدم القدوم عليه.
– اتفق الفقهاء على جواز الخروج من أرض الوباء، إذا كان لقصد التداوي أو التجارة مع صحة الاعتقاد في قضاء الله وقدره، وعلى تحريمه إذا كان فرارا من قدر الله، واختلفوا فيمن خرج بقصد الفرار من الوباء أملا في النجاة مع الاعتقاد أن ذلك لا ينجي من قدر الله.
– اختلف الفقهاء في تعليل النهي عن الخروج من أرض الوباء والدخول عليه، فقال بعضهم هو أمر تعبدي لا يعقل معناه، وعلل آخرون هذا النهي وذكروا لذلك حكما، ففي النهي عن الخروج من بلد الوباء: الأمر بالتوكل والتسليم لقضاء الله وقدره، وحماية النفوس من الفتنة، وحفظ مصالح المرضى بتمريضهم والعاجزين عن الخروج بعدم كسر قلوبهم، والأموات بدفنهم. أما النهي عن القدوم فهو للتأديب والتعليم لما فيه من توقي المكاره والتحفظ منها قبل وقوعها، والنهي عن التعرض لأسباب التلف والبعد منها والأخذ بالعافية والصحة التي هي مادة المصالح في الدنيا والآخرة.
– نص الحديث النبوي الشريف على أن الطاعون شهادة ورحمة للمؤمنين، وقد دعا النبي ﷺ لأمته بهذه الشهادة، وكان هذا سببا في القول بعدم مشروعية الدعاء لرفع الوباء عند الحنابلة وبعض الشافعية كالسيوطي، لأن الشهادة لا يطلب رفعها. في حين ذهب الحنفية والمالكية وبعض الشافعية كالنووي إلى جوازه باعتبار الوباء من أشد النوازل، وكون النبي ﷺ طلب من الله سبحانه وتعالى أن يصرف عنه وعن الصحابة بعض الأمور التي يعتبر حدوثها أيضا رحمة. واختلف القائلون بالجواز في الاجتماع له بين من يعتبره بدعة، وبين مجيز له ولو كان بدعة فهي بدعة حسنة.
– نفى النبي ﷺ العدوى في بعض الأحاديث، ونهى عن إيراد الممرض على المصح، وأمر بالفرار من المجذوم وأكل معه. وشكل هذا التعارض الظاهر في معاني هذه الأدلة الشرعية جدلا كبيرا بين المنكرين لحقيقة العدوى والمثبتين لها، وقد سلك العلماء في التوفيق بين هذه النصوص ثلاث طرق مختلفة: طريق النسخ وطريق الترجيح وطريق الجمع وهو أقواها وأشهرها. ومما قيل في هذا الجمع: أن المراد بنفي العدوى أن لا شيء يعدي بطبعه، نفيا لما كانت تعتقده الجاهلية، وأكله ﷺ مع المجذوم ليبيِّن لهم أنَّ الله هو الذي يُمْرِض ويَشْفي، ونهاهم عن الدُّنوِّ منه؛ ليبين لهم أنَّ هذا من الأسباب التي أجْرى الله العادة بأنَّها تُفْضِي إلى مسبباتها.
– أقر الفقهاء بوجود العدوى في كتبهم ورتبوا عليها أحكاما خاصة تتعلق بزواج وطلاق المصاب بمرض معد كالجذام، ومخالطته لغيره من أفراد المجتمع في صلاته وحجه وسائر مصالح حياته اليومية.
– يعزل المصاب بمرض معد خطير عن المجتمع، إذا كان هذا المرض ينتقل من خلال الهواء والمخالطة، ولا يمكن الاحتراز منه.
– المرض المعدي إن أقعد المريض عن ممارسة الحياة وأدى به إلى الخرف وخاف منه الهلاك وكان في مراحله المتأخرة  ومات بعد ذلك منه، فإنه يعتبر مرض موت ويأخذ أحكامه.
ـ تعتبر الموجات المتلاحقة لكل من وباء الطاعون والكوليرا وما أحدثته من فزع وخوف لدى الناس انعكس في انتشار ظاهرة الفرار والبحث عن الأجوبة الشافية عن ما ينبغي للمسلم أن يلتزم به عند وقوع الوباء، بالإضافة إلى سياسة الحجر الصحي التي شرعت الدولة المغربية في تطبيقها ابتداء من سنة 1792م؛ أهم العوامل التي دفعت بفقهائنا إلى الكتابة في موضوع الوباء.
ـ انحصرت جهود فقهاء المرحلة في تكرار بعض القضايا التي تناولها المتقدمون، وهي: سبب الوباء، وحكم الخروج من بلده والقدوم عليه، وشرط الشهادة به، وحكم الدعاء برفعه، وحقيقة العدوى. أما الأحكام الفقهية الأخرى فكانت نادرة، فقد اكتفى الرهوني بنقل جواب أبي سعيد بن لب في حكم بيع ثوب المصاب بالوباء، وتبنى المشرفي في بضعة أسطر كلام الحطاب حول حكم المفقود زمن الوباء ومدى اعتبار الوباء مرض من أمراض الموت.
ـ اختلفت طريقة تناول كل واحد من الفقهاء للموضوع، فمنهم من اقتصر جهده على تلخيص واختصار ما قاله السابقون إما بنوع من الجمود والتقليد كما هو شأن محمد البناني، أو بإضافة معلومات تاريخية عن ما استجد في واقع الناس كحديث المشرفي عن أخبار الكوليرا والكرنتينة في عصره. ومنهم من تطرق للموضوع في إطار حديثه عن أنواع الأمراض وطرق المداواة منها، محاولا التوفيق بين معرفته الطبية وقناعاته الدينية كالهشتوكي. ومنهم من سلك مسلك الفتوى فكتب في الموضوع يجيب عن أسئلة المستفتين كابن المبارك والحضيكي والرهوني. ومنهم من كتب ينتقد سياسة الاحتراز كابن عجيبة والأنصاري أو ينتقد موقف غيره من الفقهاء المتشددين كالفيلالي.
ـ من القضايا الجديدة التي استفتي فيها كل من ابن المبارك والرهوني: أحقية أهل البلد المعافى من الطاعون في منع الوافدين عليهم من المناطق الموبوءة من الدخول عليهم لتجارة أو شراء كفن، فذهب ابن المبارك إلى أنهم لايمنعون في حين قال الرهوني بأنهم يمنعون.
ـ انقسم الفقهاء المغاربة في موقفهم من سياسة الاحتراز الصحي والكرنتينة إلى تيارين: تيار مؤيد لهذه السياسة، كالفيلالي والعلماء الذين خالفهم ابن عجيبة، وتيار معارض إما بناء على رفضهم لحقيقة العدوى كابن عجيبة والمشرفي أو بدعوى أن ما يصح تطبيقه في بلاد النصارى لا يصح تطبيقه في بلاد المسلمين كما علل الناصري رفضه للكرنتينة.

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى