تقديم
الحمد لله الذي يتم كل عمل صالح بعونه وتوفيقه، ولا يرقى في درجات السواء والاكتمال إلا على قدر ما يختاره سبحانه ويرضاه، والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة المسداة إلى سائر الأنام، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين.
يسعدنا أن نقدم لقرائنا الأعزاء هذا السّفر، المشتمل على أعمال اليوم الدراسي في موضوع: “القصص القرآني من منظور الاستخلاف” بعد أن حظيت مداخلاته بما تيسر من التدقيق والتحقيق والتوسع المفيد، مع حرص المشاركين ما أمكن على إخضاع مضامين بحوثهم لروح الورقة التأطيرية، التي سعينا جهد المستطاع، لنربطها بالمشروع العلمي للمركز، والذي حددنا له أساسا ثابتا هو أمانة الاستخلاف.
ونرى في بداية هذا التقديم، فائدة منهجية كبيرة، للتذكير بأهم مرتكزات تلك الورقة، التي تمت مقاربة عناوين المداخلات على أساسها، ويلزم أن تتم قراءتها في إطارها المحدد، لعل ذلك أدعى لتحقيق الفهم على نحو أصح وأكمل.
وعلى رأس تلك المرتكزات اعتبرنا المفهوم المعتمد للاستخلاف في هذه المدارسة؛ هو أن الاستخلاف ابتلاء بالأمانة العظمى، المقتضية لحرية الإنسان، المرتبطة بمسؤولياته الثابتة عن جميع اختياراته وأفعاله؛ العقلية الفكرية، والقلبية الوجدانية، والسلوكية الأخلاقية، سواء أخذت اتجاه الإيمان بالله أو اتجاه جحود ألوهيته.
ونلاحظ بأن حكمة الله البالغة، اقتضت بأن يقدم لنا في كتابه العزيز، الابتلاء بأمانة الاستخلاف الذي هو غاية الوجود البشري، في سياق قصة مثيرة، جمعت أحداثها بين الله جل جلاله وملائكته الأطهار، وآدم وحواء وإبليس، وذلك في الملإ الأعلى، فظلت هذه القصة الأولى هي أساس السردية الاستخلافية، التي اختلفت حكاياتها فاقتربت من حقائقها أحيانا، وابتعدت عنها أحيانا أخرى، لكن ذات الحقائق هي التي أطرت جميع الأحداث، التي ستجري فوق الأرض، عندما أهبط الله إليها آدم وحواء، ليمارسا وذريتهما من بعدهما تجربة الاستخلاف، فينشئون قصصا حية على أرض الواقع؛ كلها تحكي وتصور وتصف الطبيعة البشرية، وتتطابق تماما مع السردية الاستخلافية الأصلية، التي سيقت في القرآن الكريم، ونراها مترجمة على الأرض في أفعال الصلاح والفساد، والهداية والغواية، والحق والباطل.
ومن ثم فإن القصص الإنسانية، إما تكون وفية ومتكاملة للممارسة الواقعية للحياة، أو تكون تصورات خيالية تفترض واقعا لا وجود له، أو تكون مرويات تجمع بين الواقع والخيال. وهو ما يمكن اعتباره في حقيقة الأمر مقاربة أدبية وفنية، لتفاصيل الممارسة الاستخلافية في أبعادها المختلفة، والتي هي غاية الله الأساسية من خلق البشر على الأرض.
ومن هنا يمكن القول بأن كل قصة وقعت على الأرض، قد نتبين عند التأمل والتحليل، أنها صورة مشابهة وعاكسة على نحو معين، لروح ومضمون السردية الاستخلافية، التي تجلت فيها حقيقة حرية الإنسان وجسامة مسؤوليته، وكذلك قابليته لفعل الخير والشر، والصواب والخطإ، ويتعزز على امتدادها وتنوعها الصراع الأبدي بين إبليس وذريته من جهة، وآدم وذريته من جهة أخرى. مع تأكيد المسؤولية الأساس للنفس البشرية، عن جميع اختياراتها وأعمالها ما صلح منها وما فسد، وأما دور إبليس في الإضلال والإغواء، فيكون دوما بتواطؤ منها وتخاذلها ليس إلا.
إن كل القصص الواردة في سياق السردية الاستخلافية، سواء عن طريق الوحي أو غيره، تسند البطولة فيها للإنسان الخليفة، الذي قد يتصرف بما جبل عليه من صلاح وفساد، ومن استقامة وعوج، وجل القصص المحكية خارج إطار الوحي، إنما تحذو حذوها باعتبار أن الله تعالى قد حسم اتجاه السلوك الاستخلافي، في اختيارين عامين لا ثالث لهما، هما الصلاح والفساد وما يندرج تحتهما من أفعال الهداية والضلال، والتي تنتهي بفاعلها إما إلى سعادتي الدنيا والآخرة أو إلى شقائهما.
وتأكيدا لهيمنة السردية الاستخلافية، فإنها قابلة لتظل حاكمة على فهم معاني وأسرار القصص البشري على اختلاف أنواعه، وبناء عليه يتعين النظر إلى جميع القِصص، من زاوية كونها تجارب متعددة للممارسة الاستخلافية، وأحداثها الابتلائية، التي تتحدد على أساسها الإشكالية الرئيسية أوعقدة الحكاية، وتتوالى تطورات الأحداث والاختيارات السلوكية لمختلف الفاعلين في أحداثها، إما في اتجاه الصلاح أو الفساد، والصواب أو الخطأ أو الجمع بينهما بنسب مختلفة.
إن كل القصص الحاكية لوقائع حصلت بفعل الإنسان؛ لا تعدو كونها صورا متعددة لممارسات إنسانية معينة، تنضح كلها بحقائق استخلافية، يمكن رصدها واستثمارها إلى أبعد الحدود. وذلك في إطار ممارسة الإنسان للابتلاء بالأمانة المطوقة لأعناق بني آدم، حيث قد ينجحون في حملها تارة وقد يخفقون تارة أخرى.
ويمكن لدراسة متأنية للقصص القرآني، أن تؤكد رجحان القراءة الاستخلافية، المنطلقة من حرية الإنسان ومسؤوليته الابتلائية، على غيرها من القراءات الأخرى، ليس فقط للقصص القرآني بل لكل الأحداث الإنسانية التاريخية، والقصص الواقعية والإبداعات الأدبية المختلفة.
وإن ما ينتظمه القصص القرآني من استفادات نافعة وحكم بليغة، تندرج كلها في إطار ترشيد الممارسة الاستخلافية في الواقع المعيش، عن طريق مدها بما يلزم من عوامل تصحيح الرؤى وتسديد السلوك. سواء كانت قصصا لأهل الإيمان وهديه المبين، أوقصصا لأهل الغي والجحود والعصيان. ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف: 111]
ولا ريب أن مقصد القصة في القرآن الكريم، يرتكز على تجلية مدلول الاستخلاف، وتوضيح غوامضه، من خلال وقائع بشرية جرت على ظهر الأرض، وتضمنت أحداثا مثيرة للتأمل والتفكر، وحافزة على التعلم والاتعاظ والاعتبار، والتي من شأنها أن تمد المتفكر فيها بعمق وروية، ببيانات بليغة عما خفي والتبس على الإدراك لحقائق الاستخلاف وأبعاده المختلفة.
ومن المعلوم أن هذا الإدراك يحتاج إلى تعهده، وتجويده ومراجعته باستمرار، للاحتكام إليه واعتماده في فهم كل قضايا البشر، وإشكالات وجوده، وضمان إحراز أكبر نصيب من النجاح، في تجاوزها وتذليل صعابها، وحسن استيعاب حقيقة الاستخلاف وجميع تبعاته.
ويصح القول بأن محاور القصة القرآنية، لا تنفك تدور كلها حول مواجهة الإنسان للابتلاء بممارسة حرية الاختيار، والاضطلاع بما يترتب عليها من مسؤوليات ثقيلة. وغاية ذلك هي تمكين المكلف من مقاربة فهم مراد الله، من خلق البشر على النحو الذي هو عليه، وفهم خلق الحياة الدنيا على الحال الذي هي عليه، ومقاربة التصور الاستخلافي الكلي، وما يتحقق به من السلوك التفصيلي السديد، على نهج شرع الله القويم، الملزم قطعا لكل من بلغه ووعى خطابه.
إنه يمكن الجزم بأن أسلوب القصة، قد يتفوق أحيانا على الخطاب العادي، في تقريب بعض الدلالات والمعاني، والتي يتضح بها ما خفي واستعصى فهمه، من الحقائق الكلية والتوجهات الفلسفية والفكرية العامة، ولهذا نجد زهاء ربع القرآن قصصا تعليمية وبيانية.
كما أن القصص والحكايات الجارية على الألسن لدى شعب أو أمة، تعكس إلى حد كبير فلسفتها في الحياة، ونظرتها لنفسها وقيمها، ولعلاقتها بما حولها وموقفها من الآخر، ومن هنا نتبين سر عظمة الأمة الإسلامية فكرا وسلوكا، لكون ما يروى من قصص وأدب رفيع، لناشئتها بل ولرجالها ونسائها، يعلي هممهم ويرسخ إيمانهم بريادتهم الاعتقادية والحضارية وأفضليتهم الأخلاقية.
فكل ما تدور حوله القصص في القرآن، يجلي مقاصده الاستخلافية المختلفة، ويعكس خصائص الإنسان وحريته ومسؤوليته، بحيث إن الفوائد والعظات والعبر كلها تعد ثمرة للممارسة الاستخلافية؛ إما في الاتجاه الصواب أو الاتجاه الخطأ.
ومما يساق لأجله القصص القرآني، أنه قد يتضمن حكما شرعيا واجب الالتزام، أو قيما خلقية عليا، أو عبرا وعظات تلبي حاجة الناس إليها، ومثال ذلك قصة تحريم الخمر الذي جاء تدريجيا على مراحل، وعبر آيات متفرقة ومتفاعلة مع وقائع حصلت بين الصحابة، وأبانت بشكل جلي مضار السكر الكبيرة، والمفضية لحكمها الحاسم.
ومثل قصة موسى مع فرعون، التي انتهت بانتصار نبي الله على طاغية متأله.. وكل القصص القرآني يمكن إدراجه في نسق واحد هو تربية الإنسان وتزكية نفسه، وتوعيته بحقيقة الحياة ومسؤولياته المحددة في تدبير أمرها، وذلك بتعليمه ما يلزمه فعله والتحلي به، وما يلزمه تركه والتورع عنه.
ولتأكيد الأبعاد الاستخلافية للقصص القرآني، يلزم دراسة نماذج منه، للوقوف على مدى صحة تأطير الرؤية الاستخلافية، الشاملة لجل أنواعه إن لم نقل كلها، قبل الانتقال إلى تعميم نتائجها على جميع القصص الإنساني، باعتبار الاستخلاف قاسما مشتركا بين جميع بني آدم.
إننا حاولنا أن يكون هذا الكتاب الجماعي، تتويجا لمجهودات تواصلت منذ تأسيس مركز الأمانة سنة 2019، حيث حرصنا أن تظل الأبحاث والدراسات والمقالات والكتب، وكل ما ينشر في موقعنا الإلكتروني مؤطرا قدر الإمكان بالرؤية الكلية للمشروع العلمي، والذي يقتضي أن تكون إنتاجاتنا خاضعة لتأطير الرؤية الفكرية العامة، التي تم اعتمادها منطلقا للإبداع وفقها والاشتغال العلمي في إطارها.
ويمكننا القول بأن الكتاب الذي بين أيدينا، وما اشتمل عليه من مداخلات قيمة دارت كلها حول علاقة القصص القرآني بالاستخلاف، قد حقق نجاحا فوق المتوقع، إذ التزمت كل الأبحاث العشرة بموضوع اليوم الدراسي، واستطاعت مقاربته من زوايا مختلفة، وبطرح عميق للمدلول الشامل للاستخلاف، وبيان لمدى قدرته على تأطير فهمنا لأبعاد القصص القرآني، وترشيد تدبر القرآن الكريم، واستيعاب مقاصد الوحي عامة، وإدراك غاية الله الأساسية من خلق الإنسان، وابتلائه بحمل أمانة الاستخلاف في الأرض.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل

زر الذهاب إلى الأعلى