الباحث عبد الدائم بوعيشي
عنوان أطروحة دكتوراه من إعداد الباحث عبد الدائم بوعيشي بمركز الدكتوراه في العلوم القانونية الاقتصادية الاجتماعية، والتدبير، بجامعة الحسن الأول بسطات، تخصص “قانون خاص”.
وقد نوقشت يوم السبت 18 شوال 1440 موافق 21 يونيو 2019 ابتداء من الساعة العاشرة والنصف صباحا (10:30) بـ «بيت علوم الإنسان بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بسطات.
وتكونت لجنة المناقشة من السادة الدكاترة :
عبد الحليم نوري: أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق بالدار البيضاء… رئيسا.
الحسن الأمراني زنطار: أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق بسطات مشرفا.
المصطفى نجيم : أستاذ التعليم العالي بجامعة القرويين بفاس… مشرفا مشاركا.
أسماء تنوري: أستاذة التعليم العالي بجامعة محمد الخامس بالرباط… مقررا.
أحمد حجامي: أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس بالرباط . .. مقررا.
أبو بكر العزاوي: أستاذ التعليم العالي بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء… مقررا.
كمال عبد المجيد: أستاذ التعليم العالي بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء… عضوا.
عادل قيبال: أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق بسطات…عضوا.
محمد النعناني: أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق بسطات …عضوا.
الوصيفي مصطفى: أستاذ زائر بكلية الحقوق بسطات…عضوا.
تقرير البحث
الحمد لله الذي جعل الإصلاح مقصد رسالة الإسلام وغايته، فأمرعباده بإصلاح ذات بينهم، وجعل في الصلح خيرية مطلقة، فقال تعالى: “والصلح خير”[1] والصلاة والسلام على الذي أرسل مصلحا، وموفقا، وحكما لعباده، ونبيا من الصالحين، وعلى آله الطاهرين، وصحبه الصادقين، الذين غلّبوا الفضل والإحسان على الخصومة والنزاع، أما بعد:
حظيت الأسرة في التشريع الإسلامي والقوانين الوضعية بقسط وافر من الاهتمام يناسب أهميتها في كيان المجتمع، وأثرها الفعال في حياة الأمة ومستقبلها، ويتجلى ذلك الاهتمام في بيان كل ما يتصل بتكوين تلك النواة الصغيرة من الأحكام والواجبات، وما تقوم عليه من التقاليد والآداب، وما يكفل سلامتها من النزاع والخلافات، ويوفر لها الحماية من عوامل التفكك والانهيار، كي تؤدي رسالتها الهامة في إعداد الأجيال وتربيتهم على القيم الفاضلة والمثل العليا، وهي في أمن واستقرار.
وقد حرصت الشريعة الإسلامية الغراء على منع كل ما يؤدي إلى النزاع والخصومة، فحرمت على الناس الحقد والحسد، وحببت إليهم التسامح والعفو علاجا ووقاية من الخلافات المذمومة وتداعياتها الوخيمة، فشرعت الصلح باعتباره وسيلة فعالة لرأب الصدع وتطويق الخلاف وفض النزاع، في أقصر الآجال وبأقل التكاليف، فضلا عن إسهامه في ترسيخ ثقافة الحوار والتسامح، والفضل والإحسان، وتنمية العلاقات الاجتماعية والعائلية، والحفاظ على أواصر المودة وتحقيق الأمن والاستقرار للأسرة بصفة خاصة والمجتمع بصفة عامة. وسارالصحابة في التأكيد على الوساطة في الصلح والإصلاح بين الناس من خلال السنة النبوية، وأقوال الصحابة.
وإلى جانب الصلح، وُجد التحكيم منذ القدم وسيلة لرأب الصدع، فقد روي عن الفيلسوف أرسطو في فضل التحكيم: “أن الأطراف المتنازعة تستطيع تفضيل التحكيم على القضاء، ذلك لأن المحكم يرى العدالة بينما لا يهتم القاضي إلا بالقانون والتشريع”. كما عُرِف التحكيم عند العرب قبل الإسلام، فكان لكل قبيلة مُحَكِّموها، ثم جاء الإسلام ليضع التحكيم في أهم موقع في الحياة، وهو العلاقة الزوجية. يقول تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا}.[2]
وعلى نهج القرآن سارت السنة النبوية في الصلح والتوفيق والتحكيم، وسار الخلفاء الراشدون والصحابة الكرام، حيث أجمعوا على مشروعية وأهمية هذه الوسائل، وتمكنوا من إعمالها في حل الخصومات وتسوية النزاعات التي كانت تعترضهم. وفي هذا الصدد يقول الفاروق عمر بن الخطاب، في سياق توجيه القضاة لاستمالة الأطراف المتنازعة إلى الصلح، وترغيبهم فيه بقصد الحد من حالة الاحتقان بينهم: “ردوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن”.[3]
وعلى امتداد عصور التاريخ الإسلامي حافظ الفقهاء والقضاة على الصلح والتحكيم، وبرعوا في تقعيد قواعدهما وأركانهما وشروطهما، إذ لا يخلو كتاب في الفقه من باب خاص بالصلح والتحكيم.
وفي المجتمع المغربي ـ خصوصا في المناطق الجنوبية ـ كانت الجماعة أو القبيلة هي الفيصل في التوسط لحل النزاعات، والعودة بالخصوم إلى جادة الصواب، خاصة إذا كان النزاع ذا طباع أسري. كما احتلت مساطر الصلح والتحكيم والتوفيق في تسوية النزاعات مكانة متميزة في النظام القانوني والقضائي، من خلال نظام الحسبة وولاية المظالم.وهذا يؤكد إذن أن فض النزاعات عن طريق آليات الصلح والتحكيم والوساطة ضارب في أعماق التاريخ[4] وليس في جوهره حديث النشأة.
ومع تطور العلاقات بين الأمم والشعوب، تطورت هذه الوسائل وتنوعت وتعددت، فظهرت آليات أخرى إلى جانب وسيلتي الصلح والتحكيم، كالتوفيق، والوساطة، وإدارة الدعوى، والتسوية الودية، والتقييم المبكر، والاستشارة، والوسيط المحكم إلخ. ومع ذلك،ظل الصلح والتحكيم والوساطة أكثر صور الوسائل البديلة شيوعا وانتشارا وإعمالا.
موضوع الدراسة:
في سياق التصور العام للإطار المرجعي أعلاه، وقع اختياري على موضوع:
الوسائل الودية لتسوية النزاعات الأسرية: الصلح، التحكيم، الوساطة
“دراسة: تأصيلية – فقهية – قانونية – قضائية”
ولعل أول ما يَلفت الانتباه في هذا العنوان استبدالنا الوصف المتداول في نعت هذه الوسائل أي “البديلة” بوصف “الودية” لاقتناعي بأنه غير دقيق، وذلك للاعتبارات الآتية:
أولا: لأن هذه الوسائل أصيلة، إذ هي الأصل في تسوية النزاعات بين الناس منذ أقدم العصور، فالقضاء إلى اليوم ليس سوى حلٍّ اضطراري، وإنما كان الناس يركنون إلى الصلح والتحكيم وغيرهما من الوسائل تجنبا للتقاضي. وعليه، فلا يستقيم وصف هذه الوسائل بالبديلة؛
ثانيا: لأن هذا الوصف قد يوهم بأن هذه الوسائل بديل عن القضاء وتقوم مقام التقاضي الرسمي، والواقع أنها ليست كذلك، وإلا انقرض هذا الأخير، وحلّت هذه الوسائل محله؛
ثالثا: لا تزال معظم هذه الوسائل سائرة ومتعايشة جنبا إلى جنب مع مؤسسة القضاء، وموازية له، بل إنها داعمة له في كثير من الحالات، والأكثر من ذلك أن مؤسسة القضاء هي التي تسهر على إعمال بعض هذه الآليات في فض النزاعات، كما هو معمول به في مسطرة الصلح الأسري المنصوص عليها في مدونة الأسرة.
وإذا كان بعض الفقهاء يحصرون هذه الوسائل في معناها الضيق، فيستبعدون التحكيم من نطاقها، فإن هذه الدراسة ستعتمد المفهوم الواسع لهذه الآليات، والذي يرى أنها: ” الآليات التي يمكن اعتمادها لحل النزاعات بمشاركة وموافقة أطرافها، وهي ليست بديلا عن القضاء، لأنها تجري تحت إشرافه، بالمصادقة على الحلول الودية المتوصل إليها، ومراقبة كل ما له صلة بالنظام العام، بتدخل طرف ثالث”.[5]
وحسب هذا التعريف الواسع، فإنه يمكن إعمال هذه الآليات في مختلف النزاعات سواء كانت مدنية، أو تجارية، أو جنائية، أو اجتماعية، إلا أن أولى هذه النزاعات وأحقها بالصلح والتحكيم والوساطة، هي النزاعات الأسرية، لكونها تكتسي طابعا خاصا، وترتبط بعلاقات ذات حساسية وخصوصية، وتقتضي الكثير من السرية والكتمان.
لا شك أن قضاء الأسرة، باعتبار تخصصه في الفصل في الخصومات والنزاعات ذات الصبغة الأسرية، يشكو من العجز عن التصدي للكم الهائل من القضايا المعروضة عليه، لذا صار البحث عن وسائل تدعمه وتخفف العبء عليه في فض النزاعات، ضرورة ملحة لمواكبة المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
ولا يخفى أن هذه الوسائل ـ خصوصا الوساطة الأسرية ـ قطعت أشواطا متقدمة في ظل مختلف الأنظمة القانونية والقضائية الأجنبية، إذ احتلت مكانة متميزة في التشريعات الوطنية لعدد من الدول، كما أن المجتمع المدني بهذه الدول قد لعب أدوارا طلائعية في نشر وإعمال هذه الوسائل.
ولم يتخلف المغرب عن مسايرة التطور الذي عرفته الأنظمة القانونية لهذه الدول، فقد اعتمد بدوره هذه الآليات، إذ نص المشرع على إلزامية سلوك المحكمة مسطرة الصلح المنصوص عليها في مدونة الأسرة، بل أصدر قانون 05-08 الذي شكل إطارا للوسائل المناسبة لتسوية النزاعات عن طريق التحكيم والوساطة الاتفاقية.
من هنا تتضح أهمية ومكانة وراهنية هذه الدراسة، والتي يمكن إجمالها في نقطتين هما:
1ـ أهمية دراسة موضوع الوسائل الودية لتسوية المنازعات خصوصا الصلح والتحكيم والوساطة، نظرا للمكانة المتميزة التي حظيت بها في تسوية الخلافات، في القديم والحاضر، كما أن هذه الأهمية تزداد بالنظر إلى الزوايا التي ستتم من خلالها معالجة هذه الوسائل، والمتمثلة في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، ثم العمل القضائي، والعمل المدني.
2ـ أهمية هذه الوسائل في فض النزاعات الأسرية، نظرا لمركزية الأسرة في بناء المجتمع، ولأن هذه النزاعات هي الأولى والأحق بالصلح والتحكيم والوساطة، لكونها ترتبط بعلاقات ذات حساسية وخصوصية بين أفراد الأسرة، وتقتضي الكثير من السرية والكتمان، وهما من أبرز مزايا وخصائص هذه الوسائل.
دواعي اختيار موضوع الدراسة:
لم يكن اختياري لموضوع الأطروحة اعتباطيا، بل كانت خلفه دوافع شخصية وموضوعية نلخصها في ما يلي:
ـ مكنتني التجربة البسيطة التي راكمتها في بحث الماستر: “الوسائل البديلة لتسوية النزاعات الأسرية” من تعرف هذه الآليات وأهميتها ومكانتها في تسوية النزاعات، وخصوصا ذات الطابع الأسري، إلا أن قصر المدة الزمنية المحددة لإعداد بحوث الماستر جعل بحث التخرج أشبه بمداخل مفاهيمية عامة لهذه الآليات (الصلح – التحكيم). لذا ارتأيت أن تكون أطروحة الدكتوراه استكمالا لهذا العمل، مستنيرا بتوجيهات أعضاء لجنة المناقشة آنذاك، آمل أن أخرج لحيز الوجود وثيقة علمية شاملة لمختلف الآليات المناسبة عسى تكون مرجعا للفاعلين في الحقل الأسري.
ـ حالة الضعف التي وصل إليها القضاء الأسري في تسوية النزاعات، والتي أكدتها الإحصائيات والتقارير الوطنية والدولية المهتمة بالشأن الحقوقي والاقتصادي في المغرب، إذ لا تكاد تخلو من الإشارة إلى ضعف فعالية القضاء الرسمي، وعدم قدرته على مسايرة الطابع المعقد والسريع والمتجدد للحياة الاجتماعية والأسرية، وكذلك تزايد حدة الانتقادات الموجهة للقضاء بسبب بطء المساطر، وكثرة القضايا، وقلة القضاة، وارتفاع سومة الرسوم، وضعف التخصص والتكوين، والتشكيك في نزاهة العدالة بمختلف أجهزتها.
ـ الوضعية المقلقة للأسر في المجتمعات المسلمة بصفة عامة، والأسرة المغربية بصفة خاصة. فقد تولد عن كثرة الخلافات والنزاعات الأسرية ارتفاع حالات الطلاق والتطليق (حوالي 100.000 حالة طلاق وتطليق سجلت سنة 2017)، وتزايد مهول في عدد الأطفال الذين يتربون خارج الأسرة، مما يدعو إلى السعي الجاد إلى إعادة إحياء آلية الصلح ومؤسسة الحكمين، والعمل على بلورة مشروع الوساطة الأسرية، بما يُعِيد للأسرة استقرارها وأمنها، ويقطع النزاعات، ويبني جسور المصالحة والوئام بين الأزواج والأسر، ويحقق الاستقرار للأمة والمجتمع، وفق رؤية شرعية منفتحة تستلهم من التجارب الدولية المقاربات الناجحة في إعمال هذه الوسائل والآليات، بما يتناسب وخصوصيات النسيج الاجتماعي والثقافي المغربي.
أهداف البحث وإشكالاته:
تروم هذه الدراسة تحقيق جملة من الأهداف، لعل أهمها:
ـ إحياء العمل بهذه الوسائل، ولفت انتباه الجهات التشريعية والقضائية والمدنية إلى أهميتها ونجاعتها في تسوية النزاعات الأسرية، والمحافظة على استقرار الأسرة والمجتمع؛
ـ الوقوف عمليا وبالأرقام (من خلال إحصائيات وعمل ميداني) على مدى تفعيل ونجاعة مسطرة الصلح القضائي المنصوص عليها في مدونة الأسرة، ودور بعض المؤسسات الرسمية والموازية وهيئات المجتمع المدني في تفعيل هذه الوسائل في مجال الأسرة؛
ـ إبراز الأدوار الطلائعية التي يضطلع بها المجتمع المدني في مجال الأسرة، والتي تتناسب والمهام التي أسندت له في الدستور الجديد؛
ـ الإسهام في استقرار الأسرة والمجتمع، وتعزيز جهود الفاعلين في مجال الأسرة من خلال إخراج دراسة أكاديمية إلى حيز الوجود، تكون مرجعا علميا لفض النزاعات الأسرية.
وتحقيق هذه الأهداف، كان على هذه الدراسة مقاربة الإشكالات الآتية:
ـ كيف تقوم هذه الوسائل بوظيفتها في تسوية النزاعات التي قد تنشأ داخل الأسرة؟
ـ وإلى أي حد استطاعت أن تسهم في تقريب وجهات النظر بين الزوجين المتنازعين، واستمالتهم نحوها بدل اللجوء للقضاء؟
ـ ما مدى تفعيل مسطرة الصلح القضائي في تسوية النزاعات الأسرية؟
ـ وهل الإجراءات المنصوص عليها في مدونة الأسرة كافية لإنجاح هذه المسطرة؟
ـ وما المعيقات الواقعية والقانونية التي تعيق نجاح وتفعيل هذه الآليات في المجتمع المغربي؟ وما العوامل المساعدة للتغلب على هذه المعيقات؟
ـ وأي دور للمجتمع المدني في تفعيل هذه الآليات وإعادة الدفء الأسري المفقود؟
هذه الإشكالات وغيرها يضع الباحث على عاتقه أمر مقاربتها، ولا يكون ذلك طبعا إلا وفقا لمنهجية محددة وخطة واضحة كما نبين فيما يلي:
منهج الدراسة:
يقتضي تداخل مجالات الدراسة وتوخي الموضوعية للخلوص إلى نتائج مقنعة أن يتوسل الباحث بأكثر من منهجية، وسنحصرها فيما يلي:
ـ المنهج الوصفي الاحصائي: اعتمدته في جمع المعطيات المرتبطة بموضوع الأطروحة واستقراء عمل محاكم قضاء الأسرة من خلال جمع إحصائيات صادرة عن وزارة العدل في الفترة ما بين (2005-2016) تتعلق بالصلح في قضايا الطلاق والتطليق؛
ـ المنهج التحليلي القائم على تحليل المعطيات الرقمية والأحكام أوالقرارات الصادرة عن محاكم قضاء الأسرة ومحكمة النقض في مجال الأسرة، ثم تفسيرها ومناقشتها واستخلاص النتائج، لبيان مدى إعمال مسطرة الصلح، ثم تقديم بعض المقترحات الممكنة واللازمة عند الاقتضاء؛
ـ المنهج المقارن للمقارنة بين إعمال هذه الآليات عند مذاهب وفقهاء الشريعة، وإعمالها في القانون الوضعي (مدونة الأسرة)، قصد التأصيل الشرعي لهذه الآليات، وتحليلها ومقارنتها للخلوص إلى النتائج؛
ـ العمل الميداني من خلال الزيارات الميدانية التي زرنا من خلالها فعاليات مدنية تعنى بالوساطة الأسرية، حيث مكنتنا هذه الزيارات من الوقوف عمليا وبالأرقام على تطور هذه المراكز في خدمة الوساطة الأسرية.
الدراسات السابقة:
لا عمل يأتي من فراغ، ولا يقول بذلك إلا غِر أو مغرور، لذا فلسْت أدعي سبقا في مقاربة هذا الموضوع، فقد تناولته قبلي دراسات وأبحاث، لكن إن كانت قريبة من أطروحة في وجوه، فقد اختلفت معها في أخرى، ومن هذه الدراسات على سبيل المثال:
ـ الوساطة كوسيلة من الوسائل البديلة لفض المنازعات لصاحبها بنسالم أدويجا، وهي عبارة عن أطروحة الدكتوراه طبعت سنة 2009، بدار القلم الرباط. وتعتبر من الأطاريح النوعية والسباقة لمعالجة آلية الوساطة في مختلف المجالات، فقدعالج المؤلف من خلالها إشكالية مدى نجاح إدماج الوساطة، كإحدى الوسائل البديلة للتقاضي الرسمي في النظامين القانوني والقضائي بالمغرب؛
ـ الوسائل البديلة لحل النزاعات الأسرية (الوساطة نموذجا)، وهي رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص جامعة عبد المالك السعدي بكلية الحقوق، طنجة، سنة 2010م، للباحث عثمان أخديم، والذي حاول مقاربة إشكالية إلى أي حد يمكن الحديث عن الوساطة كآلية بديلة لحل النزاعات الأسرية في التشريع المغربي؟ وما مدى إمكانية تطبيقها وتفعيلها ببلادنا على المستوى القانوني والواقعي؟
ـ الوساطة في التشريع المغربي والمقارن، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، بجامعة عبد المالك السعدي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بطنجة سنة2012، من إنجاز الأستاذ الملودي العابد العمراني، وقد عالج من خلالها إشكالية قدرة الوساطة على تحقيق العدالة المنشودة، ومدى نجاحها في استمالة المتقاضين نحوها بدل لجوئهم إلى قضاء الدولة؛
ـ البدائل القضائية لتسوية النزاعات الاستثمارية والتجارية: “التحكيم والوساطة والتوفيق” دراسة مقارنة، للباحث حسين عبد العزيز عبد الله النجار. وهي عبارة عن أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون التجاري، نوقشت بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء سنة 2014. وتعالج مدى قدرة هذه الوسائل: التحكيم والوساطة والتوفيق على مزاحمة أو منافسة القضاء العادي؛
ـ الطرق البديلة لتسوية المنازعات، للباحث إسماعيل أوبلعيد، وهي أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، نوقشت برحاب كلية الحقوق أكدال بالرباط شهر فبراير سنة 2015، ويعالج فيها الباحث إشكالية محورية تتجسد في البحث عن العوامل والأسباب التي تعرقل اعتماد الطرق والوسائل البديلة لتسوية المنازعات في الواقع المغربي؛
ـ تقنيات الوساطة لتسوية النزاعات دون اللجوء إلى القضاء، للأستاذ امحمد برادة غزيول، طبع بدار العالمية للكتاب، بالدار البيضاء، سنة 2015. حيث عمل المؤلف على توضيح مفهوم الحلول البديلة عبر تطورها التاريخي، قبل أن يعالج قضية الوساطة – بصفة عامة – باعتبارها وسيلة اختيارية يتم اللجوء إليها برغبة الأطراف خلال أي مرحلة من مراحل النزاع. وهكذا حلل أحكامها وطبيعتها القانونية مبرزا بطريقة عملية أنواعها ومزاياها من خلال نظرة مقارنة لأنظمة قانونية مختلفة؛
ـ التحكيم والصلح وتطبيقاتهما في المجال الجنائي، للدكتور محمد السيد عرفه، منشورات جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض، ط: الأولى، سنة 2006، وقد عالج المؤلف من خلال هذه الدراسة إشكالية تتعلق بمدى جدوى نظامي الصلح والتحكيم في المساهمة قصد تحقيق العدالة الجنائية، مما يقتضي إفساح المجال لهما أكثر؟ أم أنهما لا يحققان أهداف السياسة الجنائية على النحو المطلوب، ومن ثم يمكن التقليل منهما أو وضع ضوابط مقيدة لهما؟؛
ـ الصلح القضائي في القضايا الأسرية بين الفقه الإسلامي والتشريع المغربي للباحثة مليكة الزوين، نوقشت بكلية الحقوق بسطات سنة 2017، عالجت الباحثة في هذه الدراسة مسألة تفعيل الصلح القضائي في حل المنازعات الأسرية؛
ـ تجربة الوسائل لفض المنازعات في القانون الوضعي المغربي: المعيقات القانونية والواقعية، للدكتور يوسف الزوجال، وهو عبارة عن كتاب طبع سنة 2018 بدار السلام، الرباط، حاول فيه الباحث أن يجيب عن مسألة تتعلق بأهم المعيقات ذات البعد القانوني والواقعي التي تعيق نجاح هذه الوسائل.
من خلال قراءة هذه الدراسات، تبين للوهلة الأولى أن بينها وبين هذه الأطروحة قواسم مشتركة كثيرة، وخاصة من حيث قدرة هذه الوسائل على تسوية النزاعات، وأهم الإكراهات والمعيقات التي تعترضها قانونيا وواقعيا، غير أنها تعتريها بعض مظاهر التقصير من قبيل:
ـ افتقاد بعضها إلى الجانب الإحصائي الميداني، فأغلبها عبارة عن دراسات وصفية؛
ـ افتقار عدد منها للتأصيل الإسلامي لهذه الوسائل، حيث اكتفت بمعالجتها من منظور القانون الوضعي؛
ـ اهتمام جلها بالمجال التجاري الاستثماري، وهذا لا يعد في الواقع مظهر تقصير، بل وجها من أوجه الاختلاف على مستوى مجال إعمال هذه الآليات؛
ـ أما بالنسبة للدراسات التي عالجت هذه الوسائل في مجال الأسرة، فيلاحظ أنها اقتصرت من هذه الوسائل إما على الصلح أو الوساطة، ولم تشمل مختلف الوسائل، كما أنها افتقدت للجانب العملي الإحصائي الميداني.
وبناء عليه، فهذه الأطروحة تستمد مشروعيتها من حيث ملء بعض الفراغات وتكملة بعض الحاجات، فموضوعها اشتمل على مختلف الوسائل الودية لتسوية النزاعات الأسرية (الصلح والتحكيم والوساطة)، كما تميز تصورها بالتأصيل الفقهي والقانوني لهذه الوسائل، ومنهجها باعتماد إحصائيات وطنية ومحلية صادرة عن وزارة العدل والحريات ومحاكم قضاء الأسرة، جمعا ومقارنة وتحليلا ثم استخلاص الأهم النتائج، بالاستناد إلى عمل ميداني من خلال زيارات لمجموعة من المراكز المدنية التي تعنى بالوساطة الأسرية.
صعوبات الدراسة:
وأنا أقارب هذا الموضوع، واجهتني صعوبات أجملها في ما يلي:
ـ صعوبة الحصول على الإحصائيات الصادرة عن وزارة العدل، خصوصا تلك المتعلقة بالصلح في قضايا الطلاق والتطليق خلال الفترة الممتدة ما بين سنة 2014 و2017، لأنها غير منشورة، كما أن إحصائيا 2016 و2017 غير مسموح بتعميمها والحصول عليها رسميا حسب ما أفادنا به أحد الموظفين بالوزارة إلى حدود 11 يوليوز 2018، لكن بعد الإلحاح والمتابعة تم الحصول على بعضها بطريقة غير مباشرة.
ـ صعوبة الحصول على بعض القرارات المتعلقة بمسألة الطعن في أحكام صادرة من محاكم قضاء الأسرة بسبب خلل في مسطرة الصلح، حيث تطلب الحصول على بعضها وقتا ليس باليسير، ولم يتأتّ ذلك إلا بمساعدة المشرفة على الأرشيف مشكورة.
ـ صعوبة الحصول على المعطيات المتعلقة بالوساطة الأسرية من لدن بعض المراكز التي تعنى بمجال الأسرة.
خطة البحث:
استوت مادة هذه الدراسة في مقدمة وبابين وخاتمة، وتفصيل ذلك على الشكل التالي:
المقدمة: قدمت تعريف الموضوع وبيان أهميته، ودواعي اختياره، وأهدافه، وإشكالياته، ومنهج البحث فيه، والدراسات السابقة، ثم خطة البحث والدراسة.
الباب الأول: أطلقت عليه: “مفهوم الوسائل الودية لتسوية المنازعات الأسرية ومدى حضورها في الواقع المغربي”، وقسمته إلى فصلين:
الفصل الأول: خصصته للصلح والتحكيم باعتبارهما وسيلتين وديتين لفض النزاعات الأسرية، وهو يتألف من مبحثين:
المبحث الأول: أفردته الدراسة لمفهوم الصلح من حيث تعريفه وبيان مشروعيته في ضوء الفقه والقانون، وأهم الإجراءات والضوابط المتعلقة به في ظل الشريعة الإسلامية وقانون مدونة الأسرة. وقد ختمته بتقديم أربعة تطبيقات عملية لآلية الصلح الأسري في ظل الشريعة الإسلامية:(الصلح بين الزوجين، والصلح بالرجعة في حالة الطلاق، والصلح في الوصية الجائرة، ومصالحة الورثة زوجة الميت).
المبحث الثاني: خصص لمؤسسة الحكمين باعتبارها وسيلة مناسبة في فض النزاعات الأسرية. وتعرضت فيه لتعريف التحكيم وبيان مشروعيته في ضوء الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، وشروط الحكمين في الفقه الإسلامي ومدونة الأسرة، وقفلت هذا المبحث بنقطة تتعلق بطبيعة حكم الحكمين والآثار المترتبة عن حكمهما في الفقه الإسلامي.
الفصل الثاني: عنونته الدراسة بمسطرة الصلح في مدونة الأسرة والعمل القضائي، وينقسم بدوره إلى:
المبحث الأول: تعرفنا فيه على مسطرة الصلح في دعاوى الطلاق والتطليق وفق مدونة الأسرة.
المبحث الثاني: خُصص لرصد واقع مسطرة الصلح في أقسام قضاء الأسرة، فعرضت إحصائيات الصلح في قضايا التطليق والطلاق خلال الفترة الممتدة ما بين 2006 و2016، مع قراءة تحليلية لهذه الأرقام، وعرض مجموعة من القرارات القضائية الصادرة عن محكمة النقض، والمتعلقة بمسطرة الصلح في مجال الأسرة، مع تذييلها بالتعليق والتحليل، والتساؤل عن مدى إمكانية الطعن أمام محكمة النقض في حالة خرق مسطرة الصلح. وختمت هذا المبحث بعقد مطلب تحدث فيه عن أهم العوائق والتحديات التي تعترض طريق مسطرة الصلح الأسري، والتي أجملتها الدراسة في نقطتين: معيقات متصلة بالإطار القانوني والقضائي، ومعيقات واقعية.
الباب الثاني: خصصته للوساطة الأسرية كدعامة أساسية في فض النزاعات الأسرية، وقسمته بدوره إلى فصلين:
الفصل الأول: خصصته لمفهوم آلية الوساطة الأسرية والقواعد الناظمة لها، وذلك من خلال مبحثين اثنين:
المبحث الأول: تناولت فيه مفهوم الوساطة الأسرية وسياقها التاريخي، ومشروعيتها من خلال الكتاب والسنة والعرف، كما تحدثت فيه عن مرجعيتها القانونية بالمغرب؛
المبحث الثاني: عرضت أهم الخصائص والقواعد الناظمة للوساطة الأسرية.
الفصل الثاني: عالج قضية العوامل المساعدة لنظام الوساطة الأسرية، وذلك من خلال مبحثين:
المبحث الأول: خصص لأهمية التجارب الدولية في تحديد الآليات والتدابير الضرورية لإنجاح الوساطة الأسرية، بحيث تم تقديم ثمان تجارب دولية عرفت فيها الوساطة الأسرية نجاحا متميزا. وفي آخر هذا المبحث خلصت الدراسة إلى مجموعة من النتائج بخصوص العوامل المسهلة لتفعيل تطبيق الوساطة الأسرية في التجارب المدروسة؛
المبحث الثاني: درست فيه رهانات اعتماد نظام الوساطة الأسرية بالمغرب، فتحدثت عن مجموعة من التدابير الأساسية لاعتماد نظام الوساطة الأسرية بالمغرب، من قبيل مأسسة الوساطة الأسرية، وتكوين وإعداد شريحة من الوسطاء الأسريين، وبناء وعي مجتمعي بآلية الوساطة الأسرية، والإرشاد الأسري عملية استباقية مساعدة لنجاح الوساطة الأسرية. وختمت هذا المبحث بالحديث عن مجموعة من المؤسسات الكفيلة بإنجاح الوساطة الأسرية.
خاتمة: وختمت هذه الأطروحة بخاتمة اشتملت على أهم النتائج التي توصلت إليها في رحلة الدراسة والبحث، مع تقديم بعض التوصيات التي ارتأت هذه الدراسة أنها ضرورية.
وفي ﺧﺘﺎﻡ ﻫﺬه الدراسة نعرض لأهم ﺍﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﺍﻟتي ﺍﻧﺘﻬت ﺇﻟﻴﻬﺎ، مع ذكر بعض التوصيات التي نرى ضرورة الإشارة إليها، ﻭﻫﻲ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﺤﻮ ﺍﻵتي:
أولا: النتائج:
نسجل أبرز النتائج التي انتهينا إليها بعد الرحلة النظرية والتطبيقية والميدانية، التي استغرقت ما شاء الله لها أن تستغرق:
1ـ هذه الوسائل الودية جاءت استجابة لحاجات الناس إلى تسوية المنازعات التي تقع بينهم، فقد اقتضت حكمة الخالق أن يكون الاختلاف جبلة فيهم مصداقا لقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةًوَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}.[6]
2ـ إن الهدف من اعتماد الوسائل الودية لتسوية المنازعات الأسرية هو تغليب الفضل والصفح والتسامح على العدالة التي غالبا ما تؤدي إلى الخصام والضغائن.
3ـ هذه الوسائل ليست وليدة اليوم، بل ضاربة بجذورها في عمق التاريخ البشري القديم قبل أن يعمل بها العربفي الجاهلية، ثم تهذبها وتنظمها الشريعة الإسلامية لاحقا، ثم تحظى بمكانة متميزة في القوانين الوضعية، ثم تجد طريقها إلى التقنين المغربي.
4ـ تتكامل الوسائل الودية مع نظام العدالة الرسمية من حيث هدف مشترك هو تحقيق العدالة للأطراف بأقل تكلفة. لذا يجب أن يسير قضاء الدولة جنبا إلى جنب مع هذه الآليات ويتفادى عرقلة مسارها وتخفيف المراقبة عليها.
5ـ لا يمكن اعتبار هذه الآليات بديلا عن القضاء الرسمي في تسوية النزاعات، رغم ما يؤخذ عليه من مثالب وعيوب. فوظيفة القضاء في حماية الحقوق والمصالح وفض الخلافات لا تزال قائمة، ودور هذه الوسائل الوقوف بجانب القضاء كوسائل داعمة.
6ـ ضعف تفعيل مسطرة الصلح القضائي أمام محاكم قضاء الأسرة ليس كافيا لإصدار حكم بفشل هذه المسطرة. صحيح أن تفعيل المحكمة لهذه الآلية جد متواضعة بسبب مجموعة من التحديات على المستوى التشريعي والقضائي وعلى مستوى الوعي من قبل الأطراف المتخاصمة بهذه الآليات – التي سبق أن بينها البحث – لكنها في نفس الوقت قد ساهمت بشكل أو بآخر في ترميم بعض البيوت وإعادة الدفء إليها، وذلك بإقناع بعض الأزواج المتخاصمين بالعدول عن الطلاق أو التطليق والرجوع إلى بيت الزوجية من جديد، وعموما فإن مسطرة الصلح القضائي لا يمكن الاستغناء عنها، فالصلح القضائي يبقى له دوره في تسوية النزاعات الأسرية، وباتخاذ التدابير التي سبق أن قدمها البحث في إطار تجاوز والتغلب على تلك الإكراهات والتحديات التي تعرفها مسطرة الصلح القضائي، من شأنه أن يساهم في رفع مستوى تفعيل هذه المسطرة؛
7ـ نظمت الشريعة الإسلامية هذه الوسائلتنظيما محكما، فنجحت إلى حد بعيد في تحقيق أهدافها ومقاصدها،وخاصة في عصر الصحابة والتابعين، ثم في المجتمع المغربي ما قبل الحماية الفرنسية.
8ـ ساهم تطبيق هذه الوسائل كما نظمتها الشريعة الإسلامية في استقرار الأسرة والمجتمع الإسلامي بصفة عامة، مما أهله ليكون قائدا ورائدا للأمم والحضارات الأخرى آنذاك. ومن أمثلة منهج الشريعة الإسلامية في تطبيق هذه الوسائل نموذج الصلح بين الزوجين حال نشوز الزوجة أو نشوز الزوج، والصلح بالرجعة في حالة الطلاق الرجعي، والصلح في الوصية الجائرة. ونذكر بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “ردوا الخصوم حتى يصطلحا فإن الفصل في القضاء يورث الضغائن”
9ـ لم ترْق القوانين الوضعية، ومن بينها التشريع المغربي، إلى مستوى هذا التنظيم، كما لم يلق تربة صالحة ومؤهلة للعمل بهذه الآليات، فكان طبيعيا أن يتغلب الخصام والانتقام على التوفيق والصلح، وتتخلف هذه الوسائل عن معالجة التحديات التي تعاني منها الأسرة المغربية.
10ـ آلية الوساطة بمفهومها الجديد والمتداول حاليا في القوانين الوضعية لم يعرفها الفقه الإسلامي، غير أن الفقه الإسلامي والشريعة الإسلامية بصفة عامة لم تكن في كثير من الحالات تميز بين الصلح والوساطة والتوفيق، فكانت هذه الاصطلاحات لها معنى واحدا؛
11ـ ومن خلال هذه الدراسة تبين لنا الدور المحوري والرئيسي لشخصية الوسيط في نجاح الوساطة الأسرية، حيث يقع على عاتقه دور كبير في تقريب وجهات نظر الزوجين المتخاصمين للوصول إلى تسوية ودية، إما بالرجوع إلى بيت الزوجية أو إلى إنهاء العلاقة بطريقة اتفاقية آمنة تضمن حقوقهما معا وتراعي الأفضل لأطفالهما؛
12ـ خلصت الدراسة إلى أنه رغم التقارب والتشابه الكبير بين هذه الآليات الودية لتسوية المنازعات من حيث الأهداف والمقاصد، إلا أنه هناك فوارق ومزايا وخصائص تميز كل آلية عن باقي الآليات الأخرى؛
13ـ سجل البحث دور وأهمية الهيئات المدنية في تفعيل وإعمال أليات الصلح والوساطة الأسرية سواء في التجارب الدولية المدروسة أو على الصعيد الوطني؛
14ـ الصلح والتحكيم والوساطة وسائل وآليات أًصيلة في فض النزاعات الأسرية وليست وليدة اليوم، فالأصل في هذه النزاعات أنها كانت تفض عن طريق هذه الآليات، وليس عن طريق مؤسسة القضاء؛
15ـ ضعف تفعيل مسطرة الصلح في محاكم قضاء الأسرة يرجع بالأساس إلى عدم قناعة العديد من القضاة بجدوى هذه المسطرة، أمام كثرة القضايا والملفات المعروضة على القضاء ، والتي تنتظر البت فيها؛
16ـ نجاح آلية الوساطة الأسرية بالدول الغربية، وبعض الدول العربية، المدروسة في هذا البحث، سببه هو العلاقة الاستراتيجية الوطيدة التي تربط بين جسم القضاء وفعاليات المجتمع المدني والمؤسسات الموازية، والدولة في خدمة هذه الآلية وغيرها من الوسائل المناسبة لتسوية النزاعات؛
17ـ نجاح الوساطة الأسرية بهذه التجارب يرجع بالأساس إلى الدور المحوري والرئيس الذي قد لعبته مختلف الفعاليات المدنية، والقضاة والمحامون المتقاعدون؛
18ـ الوعي بأهمية آلية الوساطة الأسرية من طرف المجتمع الغربي ساهم بشكل مهم في اعتماد هذه الآلية وإنجاحها؛
19ـ إن التنصيص على مسطرة الصلح في مدونة الأسرة وإلزام المحكمة بسلوكها غير كاف لوحده لضمان تفعيل وإعمال هذه المسطرة، بل لابد وبالضرورة من وعي ثقافي وفكري متشبع بثقافة الحلول السلمية والتصالحية الكفيلة بتجاوز النظرة التقليدية لفض النزاعات المرتكزة على الطابع الخصامي التصادمي، وعدم الاعتراف إلا بقضاء الدولة، كسبيل واحد للحصول على حل مرضي للنزاع.
20ـ إن أهم العناصر المؤثرة في هذه الآليات إيجابا أو سلبا تتمثل من جهة في الأطراف أنفسهم، أي مدى حسن نيتهم وتعاونهم والاقتناع بنجاعة هذه الآليات، فهو من العوامل المساعدة على نجاح أو ضعف هذه الوسائل. كما تتمثل من جهة ثانية في الجهة المكلفة والمتدخلة في إعمال هذه الوسائل وقدرتها على كسب ثقة الأطراف من خلال توفر عناصر الكفاءة والحياد والاستقلالية، وحسن التواصل. ومن جهة ثالثة في الجهاز القضائي بمختلف مؤسساته، فله دور جوهري في هذا المجال، يتجلى في طبيعة التفاعل الذي يبديه تجاه هذه الآليات دعما وإعمالا أو إحجاما ورفضا، وكلما كان تفاعل القضاء إيجابيا بدعمه لهذه الوسائل، أمكن تطوير الممارسة وتحقيق فعالية هذه الوسائل، ومن جهة رابعة يأتي دور المجتمع المدني والمؤسسات الموازية في دعم ونشر هذه الآليات.
وبهذا فإن نجاح هذه الآليات في فض النزاعات الأسرية رهين بتظافر جهود كل هؤلاء الفاعلين والمتدخلين.
ثانيا: التوصيات
يتجلى من خلال هذه الدراسة ومن النتائج التي أسفرت عنها أن هناك بعض التوصيات التي يرى البحث أهميتها وهي:
1 ـ ضرورة مأسسة الوساطة الأسرية، وذلك بإصدار قانون ينظمها يستأنس بالتجارب المقارنة، ويغترف من الشريعة الإسلامية والتراث الاجتماعي والثقافي المغربي؛
2 ـ ضرورة السماح للفعاليات المدنية – التي من صميم عملها تسوية النزاعات الأسرية – بالقيام بوظيفة الوساطة الأسرية، شريطة أن يتم ذلك بناء على دفتر تحملات مضبوط يحدد الشروط والمواصفات التي يجب أن تتوفر في هذه الجمعيات والمراكز التي ستعطى لها مهمة القيام بالوساطة الأسرية؛
3 ـ ضرورة العمل على إحياء وبعث المنهج الرباني الذي كان معتمدا عند السلف في إعمالهم لوسيلة الصلح وبعث الحكمين في تسوية المنازعات الأسرية؛
4 ـ ضرورة إعادة النظر في مسطرة الصلح المنصوص عليها في مدونة الأسرة وذلك من خلال التنصيص على شروط ومواصفات الحكيمن، ثم العمل على تعديل المادة 128 من مدونة الأسرة بما يسمح الطعن في إنهاء العلاقة الزوجية في حالة إذا تم خرق أحد إجراءات مسطرة الصلح المنصوص عليها في هذه المدونة؛
5 ـ ضرورة إنشاء مراكز وطنية تهتم بالدراسات والبحوث المتعلقة بالتحكيم والصلح والوساطة في مجال الأسرة؛
6 ـ إن نجاح اعتماد الوساطة في تسوية النزاعات يستوجب ضرورة نشر الوعي بأهمية هذه الألية، وذلك من خلال إدماجها في البرامج الدراسية بكليات الشريعة والحقوق وكلية الأدب والعلوم الإنسانية بمختلف شعبها خصوصا شعبة الدراسات الإسلامية وعلم النفس وعلم الاجتماع، وفي مراكز تدريب وتكوين القضاة والمحامين والعدول، وإصدار مجلات ونشرات متخصصة ووضع برامج إعلامية للتعريف بها في مختلف وسائل الإعلام؛
7 ـ ضرورة إشراك العدول ومؤسسة المجلس العلمي في تنزيل وإعمال الوساطة الأسرية؛
8 ـ من بين التوصيات التي يمكن الخروج بها على ضوء ما تضمنته الدراسة هو ضرورة تشجيع العمل بهذه الآليات في تسوية النزاعات الأسرية ليس بقصد تخفيف الأعباء عن القضاء أو تجنب تعقيدات إجراءاته فحسب، بل وكذلك نظرا للدور الإيجابي الذي تقوم به خاصة على صعيد تعزيز ثقافة الحوار والتسامح وتغليب الفضل والإحسان، على العدل والمشاحنة والخصام؛
9 ـ توصي الدراسة أيضا بضرورة اعتماد مقاربة تشاركية بين مختلف الفاعلين في المجال الأسري من أجل تفعيل أفضل لمسطرة الصلح القضائي وإنجاح لآلية الوساطة الأسرية، فإشراك مؤسسات رسمية ومنظمات المجتمع المدني وفئات المتقاضين، من شأنه أن يلعب أدوارا مهمة في نشر وإعمال هذه الوسائل في تسوية النزاعات الأسرية، والمساهمة في التخفيف على مؤسسة القضاء من كثرة القضايا والملفات، ويجب أن تبنى هذه الشراكة على أرضية استراتيجية بين وزارة العدل والحريات ووزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن ووزارة المنتدبة لدى رئيس الحكومة المكلفة بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني، ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ثم فعاليات المجتمع المدني في مجال اعتماد الوسائل الودية لتسوية المنازعات الأسرية وعلى رأسها الوساطة الأسرية؛
10 ـ ضرورة دعم واحتضان مبادرات المجتمع المدني العامل في مجال الوساطة الأسرية؛
11 ـ تشجيع البحث العلمي الأكاديمي في مجال الأسرة عموما، والوساطة الأسرية بشكل خاص، لمد العاملين بالمعطيات والمعارف التي تساعدهم في مهام مواكبة الأسرة على استرداد وظيفتها في التنشئة الاجتماعية والتنموية، وتشجيع كل المبادرات الهادفة إلى جعل الوساطة والصلح محط اهتمام الجميع من أجل نشر تقنياتها وأهدافها ورفع الوعي بمزاياها وتشجيع اللجوء الاختياري إليها؛
12 ـ ومن بين التوصيات المهمة أيضا ضرورة تشجيع الثقافة السلمية لدى القاضي بدل ثقافة الخصومة المتجسدة في الدعوى القضائية، مما من شأنه أن يؤدي إلى تغيير الدور الذي يضطلع به القاضي من خلال تصديه لمعالجة أسباب النزاع وإعادة الدفء والسلام لمجموعة من البيوت، وفي هذا الإطار يتعين إعادة النظر في التمثلاث الراسخة بأن القاضي لا يتوفر على الوقت الكافي للقيام بمسطرة الصلح، لأن هذا التمثل قد لا يكون صحيحا، باعتبار أن النظر في ملف القضية يتطلب وقتا ليس بالقصير، إذ يشمل دراسة الملف واستدعاء الأطراف والاستماع إليهم، تم إدراج بعض الطلبات والدفوعات، وما يصحبه من تأجيل، تم تحرير الحكم القضائي… فلو تم تخصيص ثلث هذا الوقت للمصالحة بطريقة جديدة وبإرادة قوية لربح القضاء الأسري الكثير من الوقت، ولساد الأمن والاستقرار في صفوف الآسر والمجتمع، لأن الطرفين المتصالحين يخرجان معا من النزاع راضين متوافقين، إما بالعودة إلى بيت الزوجية من جديد، أو بإنهاء العلاقة بطريقة اتفاقية آمنة تحفظ حقوقهما، وتراعي الفضل والإحسان الذي كان بينهما، كما تراعي حقوق الأطفال، وبذلك ينفذان بكيفية تلقائية مضمون الاتفاق المتوصل إليه، مما سيقلص من صعوبات التنفيذ، خصوصا في الملفات المتعلقة بالنفقة والحضانة، ويجنب بالتالي القضاء من تبذير الكثير من الوقت والجهد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]– النساء الآية 127.
[2]– النساء الآية 35.
[3]– رواه عبدالرزاق في مصنفه، باب هل يرد القاضي الخصوم حتى يصطلحوا؟ رقم 15304.
[4] – وقد ظهرت الملامح الأولى لهذه الوسائل في القرن 5 قبل الميلاد على يد المفكر الفيلسوف الصيني كونفوشيوس “Confuciuus ” الذي شجع على سلوك آلية التوفيق والوساطة والصلح في تسوية النزاعات.
[5]– محمد سلام، دور الطرق البديلة لحل النزاعات في إصلاح القضاء، مجلة الملف، عدد 2، سنة 2003، ص 17، بتصرف.
[6]– سورة هود، الآية 118 – 119.

زر الذهاب إلى الأعلى