الدكتور: يوسف عطية
ناقش الباحث يوسف عطية، هذه الأطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، بجامعة مولاي سليمان بمدينة بني ملال بالمغرب، تحت إشراف الأستاذ الدكتور عبد الناصر أوقسو، وتكونت لجنة المناقشة من الأساتذة الدكاترة: جمال اسطيري، بنسالم الساهل، فريد شكري، سعيد شبار والسيد المشرف. وذلك بتاريخ: 6 شوال 1439 هـ موافق 20/06/2018م
ملخص الأطروحة:
بسم الله الرحمان الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين، وبعد:
فهذا ملخص للأطروحة التي تقدمت بها لنيل شهادة الدكتوراه في موضوع:
“مقاصد الشريعة في العصر الراهن بين إشكالية المنهج وإصلاح الواقع”
أعرضه في تسعة عناوين كالآتي:
1ـ موضوع البحث
يدور موضوع هذا البحث حول المتغيرات الكثيرة والمتسارعة التي يشهدها العصر الراهن، والتي كان لها تأثير بالغ على واقع أمتنا الإسلامية في مختلف جوانبه، تلك المتغيرات التي دفعت بدورها إلى الاهتمام بشكل بارز وملحوظ بمقاصد الشريعة الإسلامية، وذلك بتتابع الدراسات والأبحاث، وبما لا يحصى من المقالات والندوات والمحاضرات..، على اعتبار أن الدرس المقاصدي يشكل مدخلا أساسا لإصلاح الواقع، ويعتبر موجها أساسا للأمة -آحادا وجماعات-لما يجعلها تؤدي أمانة الاستخلاف أولا، وتقوم بأدوارها الحضارية ثانيا.
فلم يسلم ذلك الاهتمام وتلك الجهود المبذولة، من إشكالات واختلالات منهجية، حالت دون تحقيق الهدف المتمثل أساسا في الإصلاح الشمولي لواقع الأمة الإسلامية، لذلك تأتي هذه الدراسة -في إطار الجهود التجديدية والمبادرات الاجتهادية والإصلاحية التي قدمت- كحلقة من حلقات الدرس المقاصدي والأصولي عموما، لتساهم في إغناء هذا المجال وتحاول تقديم إضافة إلى الجهود الجادة السابقة فيه، لا سيما وأن البحث المقاصدي لم ينتقل بعد إلى الأبعاد الحيوية ومحاولة التنزيل على الواقع بالشكل المطلوب، اللهم إلا ما كان في بعض الأبحاث والاجتهادات وهي ما تزال قليلة مقارنة مع الإشكالات المنهجية التي يعاني منها، ومقارنة مع المستجدات والمتطلبات الراهنة لواقع الأمة الإسلامية.
2ـ أسباب البحث ودوافعه:
لقد وقع الاختيار على هذا الموضوع بالذات لعدة أسباب يتقاسمها الذاتي والموضوعي والعلمي أذكرها جملة كما يلي:
لقد تولد عندي الاهتمام بالدرس المقاصدي منذ سنوات الإجازة التي قضيتها بجامعة مولاي إسماعيل كلية الآداب والعلوم الإنسانية مكناس، وكان لبعض المواد التي درستها حينها تأثيرا كبيرا في تحديد مسار التخصص لدي، أذكر من بينها كل من “تاريخ التشريع الإسلامي” و“أصول الفقه” و”مقاصد الشريعة الإسلامية” و“مناهج تعليل الأحكام” و“الفقه المقارن”، فكان أن ختمت سنوات الإجازة بالبحث في موضوع “الرخصة والعزيمة بين المذهبين المالكي والحنبلي دراسة مقارنة” والذي انفتحت من خلاله على مقاصد الشريعة وغاياتها بشكل كبير.
كما ساهم كذلك ارتباطي الكبير، بعلم أصول الفقه في انفتاحي على الدرس المقاصدي بشكل أعمق، وذلك باعتبار علم الأصول يشكل المحضن الأساس لمقاصد الشريعة ويتصل بها بشكل كبير؛ وقد أيقنت من خلال ذلك الاتصال، أنه إذا كان علم أصول الفقه يبحث -فيما يبحث فيه- عن الأحكام الشرعية أساسا؛ فإن مقاصد الشريعة تبحث في دائرة الحِكَم ولا غنى لهذا عن ذاك.
ثم ازدادت رغبتي وشغفي بالاشتغال على الفكر المقاصدي عندما يسر الله لي متابعة دراستي العليا بماستر الحوار الديني والحضاري وقضايا التجديد في الحضارة الإسلامية بجامعة السلطان مولاي سليمان كلية الآداب والعلوم الإنسانية بني ملال، وقد شكلت بحق- مواد هذا التكوين نقطة انطلاق أخرى بنفس أقوى في مساري البحثي، حيث انفتحت بشكل كبير على كثير من القضايا المعرفية والمنهجية التي جعلتني أستوعب الكثير من الإشكالات، وأعي بضرورة المساهمة في البحث عن مداخل الحل؛ فبدأ هم الإصلاح يراودني ويسكن وجداني؛ وكنت حينها أتردد باستمرار على بعض أساتذتي في التكوين أستشيرهم في موضوع للتخرج، يندرج ضمن دائرة الدرس المقاصدي. يشكل إضافة في الساحة العلمية الفكرية ويجيب عن بعض الإشكالات الحضارية للأمة الإسلامية، فاهتديت بتوفيق من الله ثم بفضل توجيههم- إلى اختيار البحث في موضوع“الاجتهاد والتجديد في الفكر المقاصدي دراسة في إمكانات التفعيل”[[1]]
وأما الدوافع الموضوعية التي جعلتني أختار البحث في هذا الموضوع فهي أنه بعد اشتغالي على بحث التخرج في سلك الماستر-ذلك الموضوع الذي رمت من خلاله طرق باب التفعيل لمقاصد الشريعة، بناء على كون جانب التنظير فيها بلغ درجات قصوى من العناية والاهتمام- تمكنت خلاله من الوقوف على أغلب الدراسات والمشاريع المقاصدية المعاصرة، وكنت دائما أتسائل وأقول: لماذا لم يتحقق ذلك التفعيل الكامل لمقاصد الشريعة على أرض الواقع رغم جاذبيتها وانفتاحها على المجالات الأخرى؟ ولماذا لم نصل بعد إلى الإصلاح الشامل لواقعنا رغم كل تلك الجهود المبذولة؟ ولماذا لم يستطع الدرس المقاصدي رغم ما يشكله من امتدادات على جميع المجالات، ورغم الإجماع القائم حول كونه مدخلا أساسا للإصلاح- تقديم إجابات كافية وشافية لما تعيشه أمتنا؟
فاتضح لي من خلال التأمل في هذه الأسئلة؛ أن ثمة إشكالات منهجية متعددة تتخلل الدراسات المقاصدية والمشاريع المقدمة من خلالها في العصر الراهن، تحول دون بلوغ المنشود وتحقيق المقصود، وتَبََين لي-تحت عين مشرفي وتوجيهات بعض أساتذتي- أن موضوع“مقاصد الشريعة في العصر الراهن بين إشكالية المنهج وإصلاح الواقع” هو من الموضوعات المستعجلة التي يحتاجها الدرس المقاصدي المعاصر خاصة، و تحتاجها المرحلة الحالية من واقع الأمة بشكل عام، حتى يساهم في حصر دوائر الخلاف، وبيان المنهج القادر على استيعاب واحتواء كثير من الإشكالات التي باتت تؤرق مفكري الأمة، ويوجه الاشتغال نحو القضايا المستعجلة، بما يمكّن مقاصد الشريعة من القيام بأدوارها الحضارية بمنهج المقاصد نفسه، وتصبح حاضرة في الواقع القانوني والتشريعي، بنفس القوة التي تحضر بها في الدرس الجامعي أو أكثر.
من الدوافع كذلك التي جعلتني أبحث في هذا الموضوع؛ هي كون المقاصد الشرعية تشكل روح الشريعة الإسلامية بدون منازع، وتحدد ميزان المكلف في تصرفاته باستمرار، ولعل ذلك ما يدفع اليوم إلى الاستنجاد بها في كل المجالات، لذا فقد أصبح الدرس المقاصدي المعاصر أمام مسؤولية جسيمة، تضعه في موقع المحرك لإصلاح أوضاع هاته الأمة، وتقدم أمامه إشكالات وتحديات تستدعي منه إيجاد أجوبة وحلول مستعجلة لها، بشكل لم يعد معه منطق الحلول الإطفائية والجزئية يجدي نفعا، بل بات الأمر ملحا في إيجاد نظرية شاملة في الإصلاح مكتملة المعالم والأركان، وأحسب أن هاته الدراسة متجهة نحو هذا الغرض.
3ـ إشكالية البحث:
تشتغل هذه الدراسة على إشكالية المنهج في الدرس المقاصدي المعاصر بشكل أساس، تلك الإشكالية التي برزت بشكل كبير واشتدت حدتها، عندما تَصدّر مطلب تطبيق وتفعيل المقاصد الشرعية، مباحث الدرس المقاصدي في العصر الراهن، فلم يسلم ذلك المطلب من إشكالات منهجية عديدة، سواء في منهج المقاربة وطريقة التناول، أو في محاولة الإعمال والتوظيف؛ وذلك لأن المرجعيات الفكرية قد اختلفت وتنوعت؛ فاحتدم الصراع بين تيارات منها من يرى أن الاحتراز من الوقوع في حمى تجاوز النص الشرعي، رهين بالوقوف عند ظاهره وعدم تجاوزه، ومنها من يرى أن الالتفات إلى المعاني والحِكَم والتعمق في دلالات النص الشرعي، هما سبيلا نجاح الاجتهاد وقطف ثماره، وهناك من رأى في المقاصد غطاء يتستر به ويمكنه من تمرير أفكار وأطروحات، فيها من التجاوز لأحكام الشريعة وثوابتها الشيء الكثير، وهناك من توجه إلى الدعوة لتجديد آليات إعمال المقاصد واقترح التعديل أو الإضافة في بعض محتوياتها المعرفية والمنهجية…
ولا شك أن هاته المعطيات إذا أضفنا إليها السياق الزمني الراهن، فإننا سنجدها تتطلب عموما فتحا آخر، يستأنف هذا الورش في شقيه المعرفي والمنهجي، بشكل يمكن من تحيين وتجديد كثير من معطياته، ليستند إليها المجتهدون والمصلحون ويُتَوَسل بها في ضبط حركة الواقع واستشراف المتوقع بشكل منضبط، مع العلم أن السؤال كان قائما منذ القديم حول: كيف تساهم مقاصد الشريعة في التفاعل مع الواقع؟ وإن اختلف منهج وقوة الجواب عنه بين الأصوليين.
وإن الناظر في موضوع هاته الرسالة، يجد أنها لبنة من لبنات استكمال الإجابة عن هذا السؤال، وذلك من خلال ما يطرحه فقه الواقع، وما يرتكز عليه مجال المقاصد من أصول؛ مثل تعليل الأحكام والمصالح الحقيقية في الشرع، وتحقيق المناط ومراعاة المآل..، ، وفي سعيها كذلك إلى تقويم بعض الهفوات التي وقع فيها بعض من دعى إلى تجديد الدرس المقاصدي أو التجديد من خلاله في العصر الراهن، وكل ذلك من خلال الاستفادة مما كتب قبل، ثم من خلال استقراء الإشكالات المنهجية التي اعترضت جملة من الأبحاث في طريقها إلى التنزيل المقاصدي على أرض الواقع.
ودائما في إطار إبراز عمق الإشكال، ينضاف إلى السؤال السابق سؤال آخر رئيس تحاول الدراسة هاته الجواب عنه، هو:
لماذا لم يستطع الدرس المقاصدي إلى حد الساعة، تقديم أجوبة إصلاحية شاملة ومستوعبة لواقع الأمة، رغم ما يحمله من قوة وقدرة على ذلك؟
4 ـ الدراسات السابقة:
مع كل تلك الكثرة والوفرة التي تعرفها الدراسات في مجال مقاصد الشريعة-خاصة في العصر الراهن- إلا أنني لم أجد من وقف على مشكلة المنهج في الدرس المقاصدي المعاصر، أو من عمل على رصد الإشكالات التي عطلت الإصلاح من مدخل المقاصد، والاختلالات التي اعترضت هذا الأخير، اللهم إلا ما جاء من تنبيهات وتوجيهات عامة في دراسات ثلاث، إثنان منها كتابان والثالثة عبارة عن ندوة علمية دولية، وكل تلك الأعمال صدرت بعد تسجيلي هذا الموضوع أطروحة للدكتوراه.
فأما الكتاب الأول فهو بعنوان “مقاصد المقاصد الغايات العملية والعلمية لمقاصد الشريعة” للدكتور أحمد الريسوني، وقد صدر الكتاب سنة 2014 عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، مركز المقاصد للدراسات والبحوث الذي يشغل الكاتب منصب مديره العلمي. ويهدف هذا الأخير من خلال كتابه إلى ضبط الاجتهاد المقاصدي انطلاقا من ربطه بأصوله المرجعية، كما سعى من خلاله إلى ترشيد وتسديد وتقصيد الحركة المقاصدية المعاصرة، وبيان الفوائد المتوخاة من نشر ثقافة المقاصد على حقيقتها، في مختلف المجالات دون إفراط ولا تفريط، وكل ذلك من خلال ثلاث فصول: تعالج مقاصد المقاصد في فهم الكتاب والسنة، ومقاصد المقاصد في الفقه والاجتهاد الفقهي، والمقاصد العملية للمقاصد. كما تناول علاقة السياسة الشرعية بفقه المقاصد، والكتاب جملة يعتبر فريدا في بابه لوقوفه على بعض الأغلاط، التي يقع فيها بعض المتعاملين مع المقاصد عن قصد أو غير قصد، وبيانه للأصول المرجعية والآليات المنهجية التي تحفظ للمقاصد أدوارها وثباتها.
وأما الكتاب الثاني فهو بعنوان “الخطاب المقاصدي المعاصر مراجعة وتقويم” للدكتور الحسان شهيد، وقد صدر الكتاب سنة 2013م عن مركز نماء للبحوث والدراسات، يطرح من خلاله الكاتب متطلبات النظر المقاصدي المعاصر وإشكالاته بقصد تطوير خطابه حتى يرتقي إلى مستوى الإجابات عن الأسئلة المطروحة محليا ودوليا، بدل ضياع المزيد من الأوقات والجهود في التشخيص والتأصيل، الذي بلغ درجة الترف مع باحثين كثر، وقد عمل من خلال فصول الكتاب على مراجعة وتقويم مسيرة الخطاب المقاصدي المعاصر، معتبرا ذلك ضرورة بعد الرحلة الطويلة التي شق فيها ذلك الخطاب طريقه منذ زمن في حقل الدراسات الفقهية -على حد تعبيره-، وكل ذلك بهدف تطوير هذا الخطاب وتفعيله وتجاوز أعطابه والمحافظة على مكتسباته. والكتاب في مجمله هام لإشارته إلى بعض المشكلات المنهجية، التي وقع فيها الخطاب المقاصدي، ودعوته إلى تجاوزها بما يحقق فاعليته.
وأما الندوة العلمية الدولية فقد كانت في موضوع ” إعمال المقاصد بين التهيب والتسيب” وقد نظمها كل من مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية التابع لمؤسسة الفرقان بالتعاون مع مركز المقاصد للدراسات و البحوث بالرباط، و جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، و كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس، فاس ـ ماستر مقاصد الشريعة الإسلامية، على مدى ثلاثة أيام : من 27 رجب إلى 1 شعبان 1435 هـ الموافق لـ 28 إلى 30 مايو 2014 م ، وقد صدرت عن مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي سنة 2014، وقد كانت الموضوعات المقدمة في هذه الندوة مفيدة على العموم، لاتجاهها في الغالب إلى محاولة مواكبة التوسع الكبير في الاهتمام بمقاصد الشريعة، وتزايدِ المناداة بإعمالها وتفعيلها -في مختلف القضايا المعاصرة الفقهية والفكرية والتطبيقية- بمزيد من التأصيل العلمي والترشيد المنهجي والنقد الموضوعي، توخيا لأفضل استفادة ممكنة من مقاصد الشريعة ومن التراث المقاصدي عموما.
لكن رغم ما تكتسيه هذه الدراسات من قوة ومتانة علمية مفيدة، إلا أنها لا تخرج عن كونها تنبيهات وإرشادات عامة لم تقدم نظرة شمولية للإشكالات ولا للحلول بالمعنى الحضاري، مما جعلها لم تقدم كذلك مشروعا متكاملا بالمعنى العمراني، يرصد الداء ويقدم الدواء بمنهج شمولي يرسم طريق القاصد لبلوغ أسنى المقاصد، وذلك ما تروم هذه الدراسة تحقيقه بإذن الله.
5 ـ صعوبات البحث:
يتضح لكل من سار على درب طلب العلم، وذاق حلاوة السهر في سبيل نيله، وبدت له أنوار وثمار الاجتهاد في تحصيله، أنه لا يسلم السالك لهذا الطريق من إشكال، ولا الباحث في مجاله من استشكال، وعليه فإن هناك جملة من الصعوبات اعترضت سبيلي في هاته الدراسة أوردها كالآتي:
ـ كون مقاصد الشريعة تتصل أولا بمختلف فروع المعرفة الشرعية من فقه وأصول وعلوم القرآن والحديث وعلم التفسير.. وبتاريخ التشريع عموما، كما تتصل بالعلوم الإنسانية أيضا، لذلك وجدت نفسي أمام ضرورة الإلمام بمختلف المناهج والمعارف المتعلقة بتلك المجالات، وبذل الوسع والجهد في ذلك الأمر الغير السهل، خاصة في مدة البحث محددة الزمن.
ـ إن بحثا يطرح قضية الإصلاح من منطلق مدخل المقاصد الشرعية والأسباب التي حالت دون ذلك إلى يومنا هذا، يقتضي الشمولية والانضباط في المقاربة والتشخيص ووضع الحلول، الأمر الذي ساهم في تشعب الدراسة واتساع مجالات اشتغالها، ومن المعلوم منهجيا أنه كلما اتسع مجال الدراسة كلما وجد الباحث نفسه أمام صعوبة في التأصيل والتحليل والمناقشة، إلا أنني تغلبت على ذلك بفضل من الله أولا ثم بتوجيه من أستاذي المشرف حفظه الله.
ـ هناك صعوبة أخرى مرتبطة بكون الدراسات والأبحاث المقاصدية في العصر الراهن كثيرة ومتعددة، إلى درجة يتعذر معها إحصاؤها وعدها، فما بالك باستقرائها وتحليلها ومناقشة محتوياتها، والدراسة هاته كما هو واضح من عنوانها تتطلب استيعابا ما أمكن- للدراسات المعاصرة التي اشتغلت على الدرس المقاصدي، الأمر الذي أخذ مني وقتا طويلا وجهدا مضنيا وصعوبة في تحقيق هذا الهدف.
وقد قابل تلك الكثرة ندرة في الدراسات التي اعتنت بتوجيه وتقويم وضبط مسار البحث في المقاصد كما أشرت سابقا.
6 ـ منهج البحث:
من الطبيعي أن تتطلب دراسة في موضوع “مقاصد الشريعة في العصر الراهن بين إشكالية المنهج وإصلاح الواقع” أكثر من منهج في البحث، وذلك لأن القضايا التي ستلامسها مرتبطة بجملة من مجالات العلم الشرعي، وعليه فقد سعيت إلى إعمال عدة مناهج أوردها كالآتي:
ـ المنهج الاستنباطي الاستقرائي:
وقد وظفت هذا المنهج في الوقوف على التراث الأصولي والمقاصدي بقصد استخلاص ما تحتاجه الدراسة من ذلك، كما وظفته كذلك في إحصاء الإشكالات المنهجية التي وقع فيها الدرس المقاصدي المعاصر، انطلاقا من استقراء أهم الدراسات المعاصرة المعنية بذلك أو المساعدة على هذا الغرض، وكذا في استنباط دلالات وحِكَم بعض النصوص الشرعية التي وظفتها في سياقات مختلفة من البحث.
ـ المنهج الوصفي:
انطلاقا من كون هذا المنهج يعمل على وصف ورصد الواقع أو الظاهرة، ووصفها وصفا دقيقا للوصول إلى تعميمات مقبولة، فقد وظفته في وصف أهم الإشكالات المنهجية والمعرفية التي وقع فيها الدرس المقاصدي المعاصر وبيان تجلياتها، وكذا وصف مختلف إشكالات الواقع وما تعيشه الأمة الإسلامية اليوم من مظاهر النكوص والتخلف على مستويات عدة بغية استيعابها وتجاوزها.
ـ المنهج التحليلي:
إذا كان هذا المنهج يعتني بدارسة الإشكالات العلمية وتفكيك قضاياها أو تركيبها أو تقويمها، فقد استفدت منه ووظفته في تحليل أقوال وآراء الأصوليين والفقهاء، وكذلك نصوص القرآن الكريم، ونصوص السنة الصحيحة، كما استعملته في تحليل أقوال من جعلتهم محور الدراسة والمدارسة من الباحثين والدارسين المعاصرين بغية التوصل إلى معرفة مدى تفوقهم في المناهج التجديدية التي سلكوها، والإشكالات التي اعترضت طريقهم وحالت دون وصولهم إلى تحقيق المقصود من الدرس المقاصدي.
ـ المنهج المقارن:
وقد وظفت هذا المنهج تحديدا في المقارنة بين من أفرطوا وبين من فرطوا في إعمال المقاصد والتعامل معها، وذلك من أجل الكشف عن مكامن الخلل وبيان المنهج الوسط في التعامل مع مقاصد الشريعة.
ـ المنهج التاريخي:
انطلاق من كون هذا المنهج يعتني بالتوثيق والتفسير للحقائق التاريخية، فقد وظفته في بيان حقيقة المقاصد الشرعية ومنهجية التعامل معها وتداولها من قبل علماء الأصول قديما وحديثا والتأريخ لتطورها عبر حقب ومراحل التاريخ الإسلامي وصولا إلى العصر الراهن كما عملت من خلال ذات المنهج على تفسير أسباب هذا التطور باحثا عن مكامن التفوق والاختلال من أجل دعم تلك ومعالجة هاته.
هذا وقد استفدت على العموم من جهود أصوليينا ـ جزاهم الله عن الأمة خير الجزاء ـ كما استفدت من الدراسات المعاصرة وبخاصة في مجال المقاصد بل كانت الدراسات المعاصرة قطب رحى هاته الدارسة، ولم يمنعني إجلالي وتقديري لعلمائنا قديما أو حديثا أن يكون لي رأي أو تعقيب أو توضيح في فكرة من الأفكار أو مسألة من المسائل؛ فكما خالفوا هم مَن سبقهم، فلا عجب أن يخالفهم من يأتي بعدهم، مع الاعتراف لهم بالسبق والفضل والعلم والمكانة، وإنني لا أدعي الكمال لما كتبت، فالكمال لله وحده، وجلّ من لا يخطأ وأرجوا منه سبحانه ألا يحرمني إحدى الحسنيين.
منهج التوثيق:
ـ توثيق الآيات: اعتمدت في نقل الآيات على رواية الإمام ورش، وفي الإحالة عليها على ذكر اسم السورة ورقم الآية.
ـ توثيق الأحاديث النبوية: رجعت في نقل الأحاديث النبوية التي تم توظيفها في الدراسة، إلى كتب السنة المعتمدة ثم ذكر ما يعين على التوصل للحديث من اسم الكتاب والباب، ثم الجزء والصفحة ورقم الحديث.
ـ تكرار الاستشهاد: قد يتكرر الاستشهاد ببعض الآيات القرآنية أو إيراد بعض الأحاديث النبوية وذلك لكونها تفي بتحقيق أكثر من مقصد في أكثر من موضع.
ـ المراجع: اعتمدت خلال النقل عنها، على ذكر الكتاب ثم اسم مؤلفه وذكر المحققين إن وجدوا، ثم الجزء والصفحة، وتجنبت باقي التفاصيل الخاصة بالنشر وأوردتها في فهرس المصادر والمراجع.
ـ اقتصرت في الإحالات على اسم الكتاب والمؤلف ورقم الصفحة، وإذا تتابعت الإحالات لنفس الكتاب يتم ذكر الاختصار بعبارة (المرجع السابق)
ـ الفهارس: وضعت فهرسة للآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تم توظيفها في الدراسة، ثم فهرسة للمصادر والمراجع التي اعتمدت عليها مرتبة ترتيبا إلكترونيا حسب الحروف الهجائية. وفهرس بموضوعات ومباحث الدراسة الأساسية دون الوقوف على الدقائق والجزئيات.
ـ ترجمت ما أمكن-للأعلام الذين وردت أسمائهم في الدراسة ولو بشكل مختصر وفق ما يقتضيه مقام ذكرهم أو إيراد أسمائهم.
وتجدر الإشارة إلى أن تصنيف هاته المناهج بهذا الشكل ليس توقيفيا وأنها ليست منفصلة عن بعضها البعض بشكل نهائي، بل قد يستفيد بعضها من البعض الآخر، كما يمكن للباحث أن يعتمدها جملة في سياق واحد وأن يجمع أكثر من منهج متى دعت الضرورة لذلك.
7 ـ محتوى البحث:
لقد اقتضت الإحاطة بهذه الدراسة أن يتكون بناؤها، من مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب، مقسمة إلى فصول ومباحث ومطالب، وفي النهاية خاتمة جامعة، وبيان ذلك كما يلي:
أما المقدمة: فقد خصصتها لبيان أطروحات البحث وإشكاليته، ثم ذكر أسباب البحث ودوافعه وعرض الدراسات السابقة، وكذا إيراد صعوبات البحث ومنهجيته ثم قدمت فيها عرضا لمحتوى البحث.
وأما الباب الأول: فقد كان بعنوان “دراسة في المفاهيم والأصول المرجعية والمنهجية لمقاصد الشريعة”، وذلك لما يشكله بيان دلالات المصطلحات والمفاهيم من مفاتيح لقضايا وإشكالات البحث، ثم ما يكتسيه الحديث عن الأصول المرجعية والمنهجية لمقاصد الشريعة من تصحيح لطرق التعامل معها وإعمالها وضبط التصورات حولها. وقد قسمت هذا الباب إلى فصلين اثنين:
الفصل الأول: قسمته إلى تمهيد وأربعة مباحث:
أما التمهيد: فقد بينت فيه أهمية مقاصد الشريعة ومكانتها ليكون القارئ على بينة من معرفة أهمية وقيمة ما هو مقبل على قراءته.
وأما المبحث الأول: فقد تطرقت فيه -في مطالب ثلاث- لمعنى مقاصد الشريعة الإسلامية في اللغة وفي الاصطلاح وكذا بسطت الكلام حول أقسام المقاصد حسب ما تقتضيه طبيعة الدراسة.
وفي المبحث الثاني تحدثت في مطلبين اثنين-عن دلالة العصر الراهن وكذا مقاصد الشريعة عند المعاصرين، حيث قصرت الحديث عن الذين كان لهم بالغ أثر في الدرس المقاصدي المعاصر. وفيما يتعلق بالمبحث الثالث فقد وقفت فيه على المعنى اللغوي والاصطلاحي للمنهج والمنهجية وكان ذلك في مطلبين اثنين. أما المبحث الرابع فقد وقفت فيه على الدلالة اللغوية للإصلاح وفي اصطلاح القرآن الكريم والسنة النبوية؛ وكان ذلك في ثلاث مطالب. أما المبحث الخامس فكان الحديث فيه حول الإصلاح في الثقافة الإسلامية.
أما الفصل الثاني: فكان حول دراسة في الأصول المرجعية والمنهجية لمقاصد الشريعة الإسلامية وقد تطلبت مني معالجته أن أقسمه إلى خمسة مباحث:
الأول: حاولت فيه تجلية العلاقة بين المقاصد والنص الشرعي وعدم استقلال أحدهما عن الآخر. والثاني: فصلت فيه القول حول الصلة بين المقاصد وعلم أصول الفقه مدافعا عن كونهما يشكلان “تكاملا معرفيا وائتلافا منهجيا” معززا بذلك أطروحة الوصل بينهما لا الفصل. أما الثالث: فكان البحث فيه حول العلاقة بين المقاصد والتعليل وما لهذا الأخير من مركزية في بناء صرح المقاصد. وكان المبحث الرابع: حول العلاقة بين المقاصد والمصالح. وجاء الخامس حول العلاقة بين المقاصد واعتبار المآلات، دعوت من خلاله إلى منهج استحضار ما يمكن أن تؤول إليه الأفعال أو الأقوال قبل الإقدام عليها وفق ما قررته قواعد الشرع.
وأما الباب الثاني: فقد عنونته بـ “مشكلة المنهج ومعيقات الإصلاح في الدرس المقاصدي المعاصر” وقد اقتضت معالجة إشكالاته وقضاياه تقسيمه إلى فصلين اثنين:
أما الفصل الأول: فقد تحدثت فيه عن “مشكلة المنهج في الدرس المقاصدي المعاصر”وقد حاولت من خلاله بيان أهمية المنهج والمنهجية، كما وقفت على العلاقة الرابطة بين المقاصد والمنهج، لأنتقل بعدها إلى توصيف أهم مشكلات المنهج التي تخللت الدرس المقاصدي المعاصر وعطلت فاعليته وكان كل ذلك في مباحث ثلاث.
الفصل الثاني: جاء الحديث فيه حول مقاصد الشريعة في العصر الراهن ومعيقات الإصلاح والتجديد (دراسة في نماذج ومناهج)، فعملت على تقسيمه إلى مبحثين اثنين:
المبحث الأول: بسطت فيه القول حول موقع المقاصد في العملية الإصلاحية التجديدية ومدى قدرتها على تحقيق ذلك.
والمبحث الثاني: جعلته بعنوان دراسة نقدية مقاصدية في نماذج ومناهج حركية إصلاحية معاصرة، حيث وقفت فيه على أهم المشاريع التجديدية في مقاصد الشريعة وفي العصر الراهن، ومدى توفقها في الأهداف التي رسمتها ورصد الإشكالات التي تخللتها.
ويأتي بعد ذلك الباب الثالث والأخير بعنوان: “الأصول النظرية والتطبيقية للإصلاح المقاصدي في العصر الراهن” حاملا انطلاقا من عنوانه أسس المشروع المتكامل والشامل الذي ترمي هاته الرسالة بيانه للقراء والباحثين، وسعيا لتحقيق الغرض المنشود فقد قسمته إلى مدخل تمهدي وفصلين اثنين:
أما المدخل التمهيدي: فقد ربطت فيه بين السابق واللاحق وبينت فيه أهمية هذا الباب ومنهج تناوله والقضايا الأساسية التي سيعالجها، تشجيعا على الإقبال عليه وتحفيزا للمطلع على إعطائه ما يستحقه من حسن القراءة والتأمل.
وأما الفصل الأول: فقد خصصته لبيان “الأصول النظرية والمنهجية للإصلاح المقاصدي في العصر الراهن” واقتضى بيان هذا الأمر تقسيمه إلى مباحث ثلاث: الأول تحدثت فيه عن ضرورة تقصيد منهج التعامل مع النصوص الشرعية قرآنا وسنة، باعتبارهما المنطلق الأول في استنباط مقاصد الأحكام وتنزيلها على الواقع، وكذا باعتبارهما المساحة الأولى التي يتحرك في إطارها وينتهي إليها المصلح والمجتهد.
والثاني: تحدثت فيه عن “الدرس الأصولي والمقاصدي المعاصر وضرورة تجديد المنهج” معتبرا هذا الأمر حاجة معرفية وضرورة منهجية، إذ لا يمكن الحديث عن أي إصلاح للواقع أو إحياء للعقل المسلم دون تجديد لمنهج التعامل مع أصول الفقه ومقاصد الشريعة وإعمالهما بشكل يستوعب واقع الناس ويحتوي إشكالاتهم ويقدم لهم أجوبة مقنعة.
والثالث: تحدثت فيه عن الاستقراء معتبرا إياه المنهج الناظم للدرس المقاصدي، وذلك ببيان حقيقته وبسط وظائفه التي ستعود على الدرس المقاصدي المعاصر-إذا تم اعتماده- بالفائدة بحيث سيتمكن المتعاطي مع نصوص الشرع، من الإحاطة المقاصدية التامة بتفاصيلها الأمر الذي سيمكنه من استيعاب إشكالات الواقع وتجاوزها.
أما الفصل الثاني: فقد مررت فيه من الجانب النظري إلى الجانب العملي والتطبيقي فجعلت عنوانه “الأصول العملية والتطبيقية للإصلاح المقاصدي في العصر الراهن” وقد قسمت هذا الفصل كذلك إلى مباحث ثلاث:
المبحث الأول: عالجت فيه قضية العقيدة في العصر الراهن وضرورة بناء المعنى باعتبار هذا الإجراء ضروري لتصفية العقيدة مما علق بها من هيمنة الجانب الكلامي النظري على الجانب العملي، كما ربطت بين الفطرة وبناء الحس العقدي المقاصدي لدى المكلف، وكان ذلك في مطلبين اثنين.
المبحث الثاني: جاء بعنوان “الإصلاح وفق بناء الأعمال على أساس المقاصد الشرعية” وقد كان من الضروري لبسط الغايات الهامة لهذا المبحث أن أقسمه إلى مطالب أربع كالآتي:
المطلب الأول: تحدثت فيه عن أهمية وضرورة التأهيل التربوي والعلمي للإنسان المُسْتَخْلَف. والمطلب الثاني: أكدت فيه على قيمة توجيه المكلفين نحو مخالفة أهواءهم. وأما المطلب الثالث: فقد دعوت فيه إلى منهجية أساسية في التعبد وتحقيق مقاصد الشارع عموما، وهي التي تكمن في إضفاء صفة القصدية على أفعال المكلفين حتى يتسنى للمكلف أداء الواجبات واجتناب النواهي وهو يستمتع بامتثاله ذلك لأنه يدرك الغاية من امتثاله. ثم جئت في المطلب الرابع بدعوة كل مصلح ومجدد لتوجيه المكلفين للعبادة بمنهج مقاصدي يعرفون به الأحكام ويتذوقون بموجبه الحِكَمْ، وذلك لما لهذا المنهج الإصلاحي من قدرة على الإقناع وتحبيب الخلق في الخالق عز وجل.
المبحث الثالث والأخير: خصصته للحديث عن المدخل السياسي للإصلاح المقاصدي، وذلك في مطلبين اثنين: جاء الكلام في أحدهما عن “معنى السياسة ومركزيتها في الإصلاح وبعض الإشكالات المحيطة بها”، وجاء الكلام في الثاني عن“المنهج المقاصدي ومقومات الإصلاح السياسي”
وانتهى البحث بخاتمة جامعة لأهم نتائج وخلاصات البحث، وبالتوصيات التي يمكن أن تمد جسور البحث في الدرس المقاصدي دون الوقوع في الإشكالات التي نبهت عليها، وذلك حتى يتسنى لمقاصد الشريعة ممارسة دورها الحضاري في إصلاح الواقع سواء على مستوى المدارسة أو على مستوى الممارسة. وجئت بعد الخاتمة بفهرس للآيات القرآنية والأحاديث النبوية ثم بقائمة للمصادر والمراجع التي اعتمدتها في الدراسة، ثم فهرس للآيات والأحاديث الواردة في البحث وفي الأخير فهرس لموضوعات الدراسة.
8 ـ خلاصات واستنتاجات:
إن أهم ما خلصت إليه بعد الفراغ من هاته الدراسة، ما يلي:
ـ فقه المقاصد يعتبر أب كل أنواع الفقه، وذلك انطلاقا من قدرته على الولوج إلى أعماق النصوص وبحثه عن معانيها وأحكامها وأسرارها التي تتضمنها، دون التوقف عند ظواهر ألفاظها.
ـ نظرية المقاصد هي نظرية في الإصلاح ابتداء؛ إذا وجدت من يفقهها ويحسن إعمالها واستعمالها فإنها تفتح له أبوابا رحبة في إدراك أعمق للإشكالات واستيعاب أوسع لمداخل الحل.
ـ إن مشكلة الأمة في العصر الراهن، ليست في قلتها ولا في ضعف عدتها وعتادها، وإنما الخلل في ضعف إعمال العقول واختلال موازين أولوياتها وتدبير مصالحها، وغياب العقل المنهجي، أو التفكير الناهج عندها، الأمر الذي أسقطها في تخلف حضاري أقعدها عن امتلاك القوة التي تكسبها هيبتها وتبلغ بها رسالة ربها كما بلغها الرعيل الأول.
ـ مشكلة المنهج هي مشكلتنا الأولى سواء على مستوى المدارسة أو على مستوى الممارسة، وعليه فإن أخطر أنواع التحريف والتزييف والارتباك في الوعي وفي التفكير هو ما يتعلق بالخلل في المنهج، وإنه ما لم تنل هاته المشكلة حقها في التأمل والاستيعاب وكذا التجاوز فلن تهتدي الأمة إلى رشدها.
ـ انطلاقا مما ورد في القرآن والسنة النبوية من نصوص مدارها على الصلاح والإصلاح، فإنه يمكننا أن نستنتج أن هاته النصوص تتكامل فيما بينها لتبين لنا أن هذا الباب الواسع، يجب أن يكون محل بحث ونظر واهتمام باستمرار، لأنه من الأبواب الكبيرة والجليلة التي انبنت عليها الشريعة الإسلامية وجاءت لتأسيسها وترسيخها، كما أن الإصلاح يشكل ميدانا كبيرا وواسعا يتعلق بمقصد الاستخلاف في جميع شؤون حياة الإنسان من حيث استقامته مع الخالق ومع الخلق، و أداء العبادات بأرواحها ومقاصدها، و استقامة منهجه في الحياة عقيدة و أخلاقا…
ـ إن الإصلاح وفق منهج القرآن الكريم والسنة النبوية يعتبر مفهوما حركيا يأبى الجمود، كما أن دلالاته ومعانيه تأبى التحريف والاستغلال الذي يمكن أن يؤول أمره في الأخير إلى الفساد والإفساد في الأرض. والإصلاح من هذا المنطلق ليس مجرد شعار يرفع أو حماس يزرع أو رموز تتبع…، وإنما هو نفس يسري في العقول والأرواح ويتجدد في الأنفس كتجدد الدماء في الأجساد، بما يحرك المكلف إلى الإنتاج والفعل بمنهج يوافق قصد الشارع فيما شرع.
ـ إن عدم الاستيعاب الكامل لمظاهر الأزمة التي مرت وما زالت تمر بها الأمة، ومحدودية مداخل الحل التي اقْتُرِحَت من قِبَََل من راموا إصلاح واقعها، يُعْتَبَران السبب الأساس في جعل الإصلاح لا يراوح مكانه، اللهم إلا في تجليات تبقى جزئية مقارنة مع شمولية الأزمة وقوة حدتها.
ـ إن المنهج القمين بإصلاح الواقع هو ذلك المنهج الشامل والمتكامل في الفهم والقصد، المضبوط بقواعده، المستَوْعِبُ بخصائصه، القادر على تمكين من أخذ به من الاسترجاع النقدي السليم لتراثنا وتنقيته مما شابه، وإعادة قراءته بما لا يهدم ثابتا أو يخالف مقصدا من مقاصد الشارع، ثم الانطلاق منه والبناء عليه لاستيعاب وإصلاح الواقع، والإجابة عن إشكالاته الواقعة والمتوقعة، فهو منهج القرآن نفسه في استحضار الماضي لبناء الحاضر واستشراف المستقبل.
ـ لا يسعفنا اليوم الإصلاح الجزئي أو الموضعي، كما ثبت عدم إسعافه بالأمس، لذلك لابد من تحريك كل المداخل الممكنة في نسق تكاملي منفتح على كل التجارب العلمية القديمة منها والحديثة، شريطة موافقتها للمرجعية الجامعة والقادرة على الاستيعاب والتجاوز.
ـ إن أي مشروع إصلاحي أو تغيير عملي، لم يجعل من تصحيح الاعتقاد وتهذيب الفطرة منطلقا له، فإنه سيبقى مجرد شعار، وقد لا يغير من الواقع إلا ما يشكل مجرد ردود أفعال عابرة وسلوكات مرحلية في أحسن الأحوال.
ـ إن الفطرة السليمة هي الأصل والأساس الذي يبنى عليه إصلاح النفس، فهي تشكل ذلك الحس الداخلي في ذات المكلف، الذي يترجم التصورات والمعتقدات إلى أفعال وإنجازات، ولذلك فإن الحرب الدائرة اليوم على إنسانية الإنسان وإفراغه من معناه الوجودي موجهة في الجزء الكبير منها إلى فطرته التي فطره الله عليها.
ـ لا يتوقف الأمر عند استيعاب المصلح لمقاصد الشريعة وحمل معانيها نظريا فقط، بل يتعدى ذلك إلى توظيف أكثر لآلياتها الإقناعية، إذا الإعمال الحقيقي للمقاصد يبرز من خلال حضور معانيها وآلياتها عند المُخَاطَبِينَ بها، وقدرة المُخَاطِبِينَ بها على إيصال معانيها وإبلاغها لغيرهم.
ـ بين المنهج ومقاصد الشريعة علاقة وطيدة وراسخة لا تنفك، بل تجعل كل منهما مرتبطا بالآخر ارتباطا يستحيل معه الفصل بينهما، فالمقاصد منهج في ذاتها لتنزيل أحكام الشريعة وإبراز يسرها ورحمتها وحكمتها، والمنهج طريق يسلكها الناهج من أجل تحقيق أهدافه وغاياته، وكل ذلك من أجل فهم الشريعة فهما صحيحا وتنزيلها على الواقع تنزيلا سليما.
ـ إن المنهج المقاصدي بما يحمله من أهمية سواء من حيث النظر أو من حيث التنزيل، هو الذي يمكن أن يحفظ مقاصدية العلاقة بين الكليات والجزئيات في التفكير، باعتبارها ميزانا ناظما للعلاقة بين الكليات النصية والعامة للشريعة وتلك الخاصة بمسائل معينة، والناظر في نصوص الشريعة بدون هذا الميزان يعتبر متعسفا في فهم مراد الشارع من شريعته ويعرض نظره واجتهاده إلى القصور والاختلال.
ـ إن ترشيد المنهج أو بالأحرى تقصيده رهين بضرورة إرجاعه إلى الأصول التي أسست للمعرفة وبني عليها فكر هاته الأمة، فقد كانت قرآنية المنهج عند المسلمين، وصِفَةُ القصدية فيه سببا لتجاوز ذلك المنهج للحواس وحدها كسبل للوعي والمعرفة والإدراك، إلى سبل الملاحظة والتجريب والاستقراء والقياس لوعي ظواهر وحقائق ومعارف عالم الشهادة.
ـ إن الخطاب الإصلاحي ينبغي أن يكون مناسبا للزمان وأهله مستوعبا للإشكالات المطروحة؛ وأكثر ارتباطا بالقضايا المعروضة، وهذا الأمر لا يضمنه إلا تقصيد الأقوال والأفعال وفق منهج التنزيل العملي للقرآن الذي مثلته تفاصيل السنة النبوية الشريفة.
ـ إن توسيع مجالات إعمال المقاصد بجعلها مدخلا أساسا لإصلاح كل المجالات: السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية والتربوية.. ووصلها بجميع العلوم حتى تسير تلك العلوم على هدى وتكون مضمونة النتائج، وهذا الأمر يحتاج إلى إرادة مشتركة تتجاوز المدارسة وأسوار الجامعات إلى صناع القرار وواضعي السياسات.
ـ إن تحقيق الإصلاح المقاصدي للواقع في صورته الشاملة رهين بحضور الشريعة والتمكين لها في آحاد الناس وجماعاتهم، وفي تدبير شؤونهم ومجالات حياتهم سياسة واقتصادا واجتماعا…
9 ـ توصيات البحث:
أهم ما قدمته كتوصيات في نهاية دراستي حول“مقاصد الشريعة في العصر الراهن بين إشكالية المنهج وإصلاح الواقع” أذكر ما يلي:
ـ إن البحث في المقاصد الشرعية ينبغي أن يتجه اليوم أساسا نحو ما يضبط مساره ويحقق مخرجاته، أكثر من التركيز على مزيد من إفراز المضامين والمعارف التي وصلت ـ على الأقل ـ حد الكفاية
ـ ليس المطلوب منا اليوم أن نؤسس لقراءات جديدة للقرآن الكريم، بقدر ما يتوجب على العلماء والباحثين.. أن ينطلقوا بمنهج مقاصدي نحو استقراء وتلقي القرآن بمنهج التلقي الأول ونستنطقه في إطار معادلته الموضوعية للكون وذلك بتفاعل جميع الحواس مع آيه، لاستخراج المنهجية المعرفية الكاملة والأجوبة الكونية المتكاملة لحل مشاكل العصر الراهن.
ـ لا بد من تجاوز نقاط الخلاف والاشكالات المنهجية والسجالات المعرفية، التي وقع فيها الدرس المقاصدي المعاصر والتي وقفت على أهمها في ثنايا البحث، والانكباب بجد على تحقيق المقصود من المقاصد والذي يتمثل في إصلاح أحوال العباد في المعاش والمعاد.
ـ لابد من توسيع هامش الاستقراء لنصوص الشريعة وأحكامها، وجعل ذلك منهجا ناظما لمعرفة مقاصد الشارع وتوجيه المكلفين للعمل وفق مقتضياتها.
ـ أن يعمل العلماء والباحثون المصلحون على إيجاد وبناء مشروع فقهي مؤسساتي جامع؛ ينطلق من الدرس المقاصدي وإليه ينتهي، مدارسة واجتهادا وإعمالا في الواقع.. وذلك بما يضمن استثمار مقاصد الشريعة الإسلامية على نطاق واسع ويمكن لها الحضور في شتى المجالات، وهذا الأمر لن يتحقق في تقديري- إلا بتجاوز نقط الخلاف وأسباب الاختلاف، خاصة تلك التي يغذيها التعصب الضيق والانتماءات المذهبية والسياسية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1]– والرسالة نشرت بدار الطليعة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2013

زر الذهاب إلى الأعلى