قراءة في كتاب مقومات التكليف للدكتور محمد راتب النابلسي
إنجاز الدكتور حميد عنبوري. تمهيد: الكتاب هو “مقومات التكليف”، وقد جاء في أربع وعشرين ومائتي صفحة من القطع المتوسط في طبعته الثانية 1431ھ / 2010م طبع بدار المكتبي للطباعة والنشر والتوزيع دمشق سوريا. وصاحب الكتاب هو الدكتور محمد راتب النابلسي الداعية الإسلامي السوري المعاصر ذائع الصيت. وقد اشتهر بسلسلته عن أسماء الله الحسنى وله مجموعة من المؤلفات الماتعة ومنها الكتاب الذي بين أيدينا والذي سأقدم قراءة موجزة له، أرجو أن أوفق فيها. والكتاب في عمومه من حيث أسلوبه يتسم بالبساطة أسلوبا وبالعمق معنى، وليس فيه ما يعسر فهمه، وحتى الكلمات التي أعطيت عناوين لمقومات هذا التكليف وإن كانت في حقيقتها وجوهرها ذات إيحاء فلسفي عميق إلا أننا تعودنا من العلماء الدعاة تبسيط المفاهيم. في المقدمة نبه على أن العقيدة أخطر ما في الدين، فبها يصح العمل أو يفسد، ولذلك لا تستمد إلا من القرآن الكريم ومن صحيح السنة النبوية، ولا يجوز الاعتماد فيها على أقيسة أمم أخرى. لأن علة وجودنا كما يقول هي أن نعبد الله، والعبادة من جملة الأمانة التي قبل الإنسان حملها وأشفقت منها السماوات والأرض والجبال، ولأجل تحقيق اختيار حمل الأمانة، سخر الله للإنسان جميع ما في السماوات والأرض، وبعث النبيئين مبشرين ومنذرين للتعريف بغاية خلق الإنسان، وابتلائه بالتكليف المنتهي بالفوز بالجنة أو العقاب بالنار. وأشار في صدر الكتاب إلى مقومات التكليف، التي سطرها واضحة مفصلة في الفهرست وهي: الكون والعقل والفطرة والتشريع، والشهوة وحرية الاختيار والزمن. وقد أورد بعد ذلك آية الأمانة: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]. والتي دلت على أن الإنسان هو المخلوق المكلف بحمل الأمانة، وحمل الأمانة يقتضي التكريم، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] ويقتضي التسخير {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الجاثية: 13]، كل ذلك من أجل العبادة التي تؤسس على معرفة الله (الكلية المعرفية) ثم طاعته (الكلية السلوكية)، وصولا إلى الإسعاد بقربه (الكلية الجمالية) حسب اصطلاحات المؤلف. فبين بأن الكلية المعرفية هي الأصل، وهي سبب الكلية السلوكية، والكلية الجمالية نتيجة للكلية السلوكية، أي يتعرف المكلف إلى الله، فيطيعه، ثم يسعد بقربه في الدنيا والآخرة. ومضمون الكتاب الذي بين أيدينا يتصل بالقضية المركزية في وجود الإنسان، التي هي الأمانة العظمى، والتي يعد التكليف جوهرها وحقيقتها، فالتكليف هو الركن الركين للأمانة، ولا أمانة بدون تكليف. وقد بدأ الحديث عن المقومات بشكل مجمل ثم قام بتفصيلها تباعا. المقوم الأول: الكون بدأ المؤلف هذا المقوم بالقول إن في القرآن الكريم ما يزيد على ألف وثلاثمائة آية كونية. ثم أردف ألم يسأل أحدنا نفسه لماذا جاءت هذه الآيات في القرآن الكريم لو لم نكن مكلفين أن نتفكر فيها؟ فمادام هناك آيات كونية فهذا يعني أن هناك عبادة اسمها التفكر. ومعلوم أن أول عبادة قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم هي التفكر في غار حراء. والتي تعد من أرقى العبادات، إذ بها تدرك عظمة الخالق، ولا شك أن هذا هو سر العبادة، وقد يتحقق بعبادة التفكر ما لا يتحقق بصلاة النافلة. فعن الحسن البصري تفكر ساعة خير من قيام ليلة. وقال بشر: “لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل”، وأكد بأن أساس المعصية عدم الخشية، وعدم الخشية أساسه عدم العلم. فالأمر يدور بين علم فخشية فطاعة، أو جهل فعدم خشية فمعصية، وهذه العبادة شبه معطلة في العالم الإسلامي. والأدلة عليها كثيرة ومنها قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، وحين أنزل الله هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى وقال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها، فالتفكر في مخلوقات الله فريضة من أرقى الفرائض. ويرى بأن التفكر هو أوسع باب ندخل منه إلى الله، وأسرع طريق للوصول إليه. إنه يعني أن يعرف الإنسان ربه بالتفكر في آياته المنشورة في الكون والمسطورة في القرآن، وكلما ازدادت معرفته بالله، ازدادت طاعته له وزادت خشيته، وازداد إقباله عليه… والتفكر يرفع مستوى المعرفة. ويتساءل المؤلف حول كيفية قراءة الكون لأنه يقر بأن الكون قرآن صامت في مقابل الكون الناطق وهو القرآن. وهذه القراءة ترتكز على ثلاثة أصول: قراءة الإيمان وتنتهي إلى الاعتقاد في الله موجودا وواحدا وخالقا ومسيرا، وقراءة الشكر، وأساسها شكر المنعم على نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد ونعمة الهدى والرشاد، ثم قراءة الوحي والتلقي عنه، لمعرفة الماضي السحيق والمستقبل البعيد، ومعرفة حقيقة الدنيا والآخرة، وحقيقة الإنسان وسر وجوده، ومن لم يلتزم بهذه القراءات يقع في الطغيان والعدوان. ولأسباب التقصير في التكليف علاقة باختلال النظر في الكون، لأن علة خلق السماوات والأرض وما بينهما هي أن يعلم الإنسان بأن قدرة الله تطوله، فيجازيه على الإحسان ويعاقبه على الإساءة، وعندها لن يعصيه. المقوم الثاني: العقل وأما كون العقل مقوما من مقومات التكليف، فيكفي فيه قاعدة “العقل مناط التكليف”، فلا تكليف إذن بدون عقل، وقد تحدث القرآن عن العقل في مئات الآيات تقترب من الألف، ويجب أن يتوافق العقل مع الشرع، لأنهما معا من الله تعالى. ولا شك أن العقل المهتدي هو سبيل الوصول إلى الحق، فالاستقامة على الدين أو إن شئنا قلنا الاستجابة للتكليف، لا تستقيم إلا بكمال العقل ورجحانه، وبذلك يسلم الإنسان من الضلال والعذاب كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]، ولذلك يبين المؤلف مهمة العقل بأنه خلقه الله لنا كي نعرفه به، فإن عرفناه أطعناه فسلمنا وسعدنا في الدنيا والآخرة، وفي اللذات الحسية والعقلية، استطاع المؤلف أن يبرز أهمية مقوم العقل في التكليف، حيث أعطى أمثلة تدل على حسن استخدام العقل في استقبال التكليف. يقول: “هناك لذات حسية ولذات عقلية، فلو أن الإنسان في رمضان ترك الطعام والشراب يجوع ويعطش حسيا، ويتمنى أن يأكل ويشرب، لكنه يشعر بلذة عقلية لأنه مطيع لله عز وجل”. ص79، وإنفاق المال فيه خسارة مادية لكن معه لذة عقلية، فكلما ارتقى الإنسان بحث عن لذة عقلية. وعلى الرغم من أهمية العقل، فقد وضع الله له حدودا تكريما له، لأنه عاجز عن إدراك أمور زوده الله فيها بالوحي، وهنا عليه أن يستسلم ويذعن، وذكر بأن العبد لو كان لا يطيع الله إلا فيما عقل وفهم لكانت طاعته لعقله وفهمه، وليست لخالقه ومولاه وحينذاك لن يكون عبدا لله وإنما لهواه ولذاته، وقد قدم الأنبياء المثال الأعلى في الإذعان للخالق فيما يخالف العقل أداء للأمانة، ولم يصل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، إلى ما وصل إليه من إمامة الدين إلا لأنه أُمر بأوامر إلهية تخالف المعقول فنفذها. {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124]، فالأمر التعبدي كلما وضحت حكمته ضعف فيه وصف التعبد وثوابه، وكلما غابت حكمته عنا ارتفعت فيه خاصية التعبد وازداد ثوابه. المقوم الثالث: الفطرة ويقصد المؤلف بالفطرة، ذلك الحس الذي تميز به النفس الخير من الشر، وتدرك به فضائل الأخلاق ورذائلها. وهذا ما يجعل الناس يشعرون بقبح العمل المحظور وينفرون منه، ويشعرون بحسن العمل المشروع ويرتاحون إليه، وبذلك يمدحون فاعل الخير ويذمون فاعل الشر، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10]، ويشير إليه الحديث: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه» (صحيح مسلم (4/ 1980، وكرهت أن يطلع عليه الناس. فالطمأنينة علامة البر، والتردد والاضطراب وخوف اطلاع الناس علامة الإثم، وقد يختلف الأمر في بعض الأعمال، وطريقة المسلم في هذه الحالة هي اتقاء الشبهات، وإلى هذا يشير الحديث الصحيح: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ» صحيح البخاري (1/ 20)، وفي الحديث تقسيم ثلاثي: حلال صرف وحرام صرف ومشتبهات يستطيع الإنسان بحسه الفطري أن يمتثل الأول ويجتنب الثاني ويتقي الثالث. وهذا هو الدين في عمومه. المقوم الرابع: التشريع على الرغم من أهمية العقل، وأهمية الفطرة في معرفة الحق والباطل، وتمييز الخير من الشر والحسن من القبيح، إلا أنهما قد يعجزان فيأتي دور الوحي. فالعقل قد يزيغ وينحرف، والفطرة قد تطمس وتشوه، أما الوحي فإنه {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]. فالوحي هو الحق الصرف، وهو الميزان، وهو القيمة المطلقة، وعلاقته بالتكليف كعلاقة الجار والمجرور. فهو مجموعة الأوامر والنواهي التي وردت في الكتاب والسنة. والقرآن الكريم هو المصدر الرئيسي لمعرفة الله عز وجل، ولأن الإنسان بجسده يعد أعقد كائن في الكون، فالأعلم به هو خالقه الذي خلقه وخاطبه بهذا القرآن، الذي يفصل الحقائق التي تهمه، والتشريع الذي يليق به. ومن ثم فإنه من المستبعد أن يضل امرؤ يقرأ القرآن، والقرآن يقدم له من لدن الخالق العليم، تفسيرا صحيحا متماسكا لحقيقة الكون والحياة والإنسان. والسنة النبوية هي المنهاج الذي يفصل المجمل، ويخصص العام ويقيد المطلق، أو إن شئنا قلنا هي التطبيق العملي للقرآن، حتى يكون المكلف على بينة من أمره، ولولا السنة لما عرفنا كثيرا من أحكام الإسلام. المقوم الخامس: الشهوة أن تكون الشهوة مقوما من مقومات التكليف قد يبدو الأمر غريبا، وقد نبه المؤلف إلى هذا في مطلع حديثه عن هذا المقوم لأن البعض قد يفهم أن هذه الشهوات أساس فساد العالم، والحقيقة أنها أساس صلاحه أيضا إذا أحسن توظيفها. فبها يبتلى الإنسان في الحياة فيحسن تارة ويسيئ تارة أخرى، {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 59، 60]، فقال الكاتب: “فإياك أن تتهم الشهوات، فلولاها لما ارتقيت إلى رب السماوات والأرض ولولاها لما دخلت الجنة ولما تقربت إلى الله”، بل ذهب المؤلف إلى طرح السؤال الذي قد يستغربه كثيرون فيقول: “هل من طريق آخر تتقرب به إلى الله غير طريق الشهوات؟”، وهو سؤال مشروع لمن تدبر وتأمل. فالمال شهوة وبه قد ترتقي إلى الله إذا أنفقته فيما يرضي الله. والمرأة شهوة وكلما غض الإنسان بصره عن امرأة أجنبية عنه ارتقى إلى الله. والشهوة ربما أخطر طريق في التكليف إذ بها يتم اختبار المكلف، ومن صرفها في الحلال فقد فاز، لأن الإسلام لا يريد كبت الشهوات وإنما يريد ضبطها وتنظيمها. ومن أجمل ما قال المؤلف عن الشهوة أنها يرتقي بها المرء إلى الله مرتين: صابرا وشاكرا، فإذا نظرت إلى ما يحل لك ترقى شاكرا، وإذا غضضت عما لا يحل لك ترقى صابرا، وهذا معنى قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14]، وقد استطاع نبي الله يوسف عليه السلام، أن تكون له مكانة في الأرض بفضل امتناعه عن الاستجابة للشهوة المحرمة، لما دعته امرأة العزيز ذات المنصب والجمال فاستعصم، فالإنسان يؤخذ من منزلقين خطيرين بسبب شهوتي المال والجنس وبهما يختبر المكلف أيما اختبار. المقوم السادس: حرية الاختيار وهذا المقوم مثل سابقه أيضا، قد يستغرب كثيرون عده مقوما من مقومات التكليف في الوهلة الأولى. لكن بقليل من التأمل والتدبر يزول الاستغراب، بل يصبح من المقومات الأساسية في التكليف. فأصل التكليف كان اختيارا كما تشير الآية الكريمة: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72]، فحمل الإنسان للأمانة التي هي لب التكليف، إنما جاء عن اختيار. ثم بعد هذا الأصل العام يأتي أصل التكليف الذي هو العقيدة، والآيات الدالة على حرية اختيار العقيدة متعددة منها، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]، {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، ثم إن عموم التكليف قائم على الاختيار، فمن شاء صلى ومن لم يشأ لم يصل. ومن شاء صام ومن لم يشأ لم يصم. ومن شاء شرب الخمر ومن شاء أمسك، لقد قيل: “لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب ولو تركهم هملا لكان عجزا في القدرة”. المقوم السابع: الزمن وأما كون الزمن مقوما من مقومات التكليف فباعتباره وعاء له، أي أن الشعائر التعبدية والتكليفات عموما، لا يمكن أن تؤدى إلا ضمن وعاء زمني هو هذا العمر، الذي يعيشه الإنسان المكلف، وهو أغلى وأنفس ما يملك، ولذلك جاء في الحديث الصحيح المشهور أن من السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله شاب نشأ في عبادة الله. وفي حديث آخر: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيما أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه”، المعجم الكبير للطبراني (20/ 60)، ولا غرابة أن يقسم الله تعالى بالزمن في أكثر من مناسبة، والله لا يقسم إلا بما له قيمة واعتبار، وفي حديث ابن عباس قال صلى الله عليه وسلم: «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» الآداب للبيهقي (ص:327)، والمتأمل لهذا الحديث المشهور يجد أن هذه الخمس كلها ذات علاقة بالزمن ومن فاته الزمن فاتته هذه الغنائم، ولأهمية هذا الزمن في حياة الإنسان المسلم المكلف، سيتحسر عليه أيما حسرة في ساعة الاحتضار، ويتمنى لو ضاعف الجهد على سبيل الاستقامة، قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 10، 11]، وسيندم عليه في الآخرة حيث لا ينفع الندم الكافرون والفاسقون: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ. وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِير} [فاطر: 36، 37] خاتمة حين أجلت النظر لأول وهلة في تلك المقومات السبع للتكليف، حسبتها نوعا من التكلف والتمحل من طرف المؤلف. لكن عندما تدبرتها وفحصتها تبين لي سلامة المنهج ومدى العمق في التحليل. فأنعم به من كتاب جدير بالقراءة المتأنية وجزى الله خيرا صاحبه.