الله العلم البراهين (3)

العلم الحليف الجديد للإيمان

مقدمة

     وحين نعرض لمعطيات العلم التجريبي المادي، يلزم التأكيد على أن النظريات العلمية، في الفيزياء والفلك وعلم الأحياء تتسم بالنسبية وبالتطور والتغير. ذلك أنه بالنظر للوسائل التقنية المتوفرة، يبني العلماء نظريات وتوقعات تغذيها الاكتشافات وترسخها لدرجة اعتبارها معرفة مطلقة، إلا أنه بتطور الوسائل التقنية، يتوصل الباحثون لمحدودية النماذج السالفة، وبالتالي ضرورة تطويرها وتعديلها لتنسجم مع البيانات والمعطيات الحديثة. وأوضح مثال على ذلك فيزياء نيوتن، التي اتسمت بيقينية غير قابلة للشك على مدى قرنين من الزمان، إلى أن جاءت نظرية النسبية التي أتمتها وعدلتها دون أن تلغيها نهائيا. فالأدلة والنماذج والنظريات التي نقدمها في هذه الحلقات هي آخر ما توصل إليه العلم التجريبي، وحتما سيتمكن العلماء من تعديل وتطوير وتكميل وربما إلغاء بعض هذه النظريات في قابل الأيام، مع تسارع الاكتشافات والتقدم الهائل للوسائل المستعملة في البحث العلمي المتسارع.   
     ولقد جاء على لسان بول ديفيس Paul Davies، بروفيسور الفيزياء في جامعة ولاية أريزونا الأمريكية: “أنا من بين أولئك الذين لا ينتسبون إلى أية ديانة تقليدية، ولكن يرفضون النظرية التي ترى أن الكون ناتج عن حادث عشوائي. الكون الفيزيائي منظم بإتقان يجعلني لا أقبل أن يكون هذا الخلق ناتجا عن الصدفة. يجب أن يكون هناك حسب رأيي، تفسير ذو مستوى أعمق. وتبقى تسميته “الله” مسألة ذوق وتعريف”.
     ترتكز الفلسفات الإلحادية على ركيزتين اثنتين، أولاهما الزعم أن الكون أبدي وثابت وغير مخلوق. ولقد ثبت بالدلائل المادية العلمية، كما رأينا في الحلقة الماضية تهافت هذا الزعم، وذلك انه أصبح من المتواتر والثابت أن المادة والزمان والفضاء، كل له بداية وأنه مخلوق.
     الركيزة الثانية اعتبار نشأة هذا الكون عن طريق المصادفة، وأن الإتقان والإبداع اللذين ما فتئت الاكتشافات والتجارب تؤكدهما، إنما يعطيان انطباعا عن الحكمة والإرادة والعلم، ولكنه في حقيقة الأمر تضافر الصدف السعيدة التي كانت وراء ظهور المجرات والنجوم والحياة، كما سماها ريشارد داوكينز Richard Dawkins: صانع الساعات الأعمى The blind watch maker، معتبرا أن الصدفة العمياء وراء التصميم والإبداع للكون والحياة.
     والسؤال المطروح والذي سأحاول الإجابة عنه في هذه الحلقة الثالثة، من خلال القراءة في كتاب “الله، العلم، البراهين”، هو كالتالي: هل تقود المعطيات العلمية المادية المكتشفة طيلة القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين إلى ما ذهب إليه داوكينز أن الصدفة العمياء هي من وراء التصميم المشاهد في الكون؟ أم أن هذه المعطيات تؤكد لمن كلن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أن هذا التصميم وهذا الإبداع وهذه الدقة إنما هو من لدن حكيم خبير، قادر، عليم، مريد؟
     وللإجابة على هذا السؤال أقترح عليكم عرضا لما توصل إليه الإنسان من حقائق ثابتة حول ظهور المادة وتطور الكون من جهة، وحول ظهور المادة الحية وتنوعها بما فيها ظهور هذا الإنسان العاقل المريد المستخلف على هذه الأرض.
ظهور الكون، ضبط دقيق أم صدفة عمياء؟
     في البداية لا يمكن الحديث لا عن مادة ولا فضاء ولا زمان، من وجهة نظر الفيزياء كان هناك فقط معلومات على شكل قوانين فيزيائية وثوابت محددة بدقة تذهل العقول، بحيث لو تم تعديلها بنسب غاية في الضآلة، كجزء من المليار لاستحال ظهور الكون والحياة بالشكل الذي نعرفه الآن.
     ولا أدلة مادية، تجريبية أو رصدية عن هذه الفترة، إن جاز تسميتها بالفترة حيث لا زمان ولا مكان. بل حتى النظريات الفيزيائية والحسابات الرياضية تفشل فشلا نهائيا عن التعبير عن هذا الجزء من قصة الكون، بل يعتقد كثير من العلماء المرموقين، أن ما قبل البيغ بانغ big bang، تكون النظريات العلمية كفيزياء الكم أو النظرية النسبية، معطلة بشكل كامل، ولا تستطيع التعبير عما قبل البيغ بانغ.
     عند زمن يوافق (10-43) جزء من الثانية أو ما يسمى زمن بلانك Planck time كان الكون بحجم (
10-35) متر أي أصغر ملايير المرات من نواة الهدروجين، وكانت حرارته تبلغ (1032) درجة مطلقة، وبلغت طاقته 1019 GeV، هذه أرقام مهولة، وهي مستنتجة من حسابات رياضية مع استحالة رصدها مباشرة، لكن كل الأدلة المتوفرة حاليا ترجح صدقيتها.
     ويرى معظم الفيزيائيين أن زمن بلانك هو بداية الزمان والمكان، أما المادة فلم توجد بعد، بل كان الكون عبارة عن طاقة هائلة، سيتحول جزء منها إلى جزيئات مادية مع انخفاض الضغط ودرجة حرارة الكون عبر مراحل تحكمها معادلات غاية في الدقة، وثوابت بقيم لو تغيرت بجزء من الترليونات، لاستحال وجود الكون بالشكل الذي نعرفه ناهيك عن الظروف التي تسمح بالحياة (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية، 13]. ويمكن اعتبار الكون في مرحلته هاته تعبيرا لما سماه القرآن الرتق، ومنه انبثقت المادة بما فيها المجرات وبما فيها شمسنا والأرض التي نعيش عليها والذرات التي خلق منها آدم عليه السلام ومنها خلقت أجسادنا، ما يعني أن الله فعلا سخر لنا ما في السموات والأرض جميعا منه.
     قبل 10-38 جزء من الثانية كانت القوى الأربع التي تتحكم في الكون: الجاذبية، الكهرومغناطيسية، النووية الضعيفة والنووية القوية، مجتمعة ولم تتفرق بعد، ولكن بعد هذه اللحظة بالغة الضآلة، أدى انعزال القوة النووية القوية عن أخواتها إلى تمدد هائل في الكون، وهذه الظاهرة هي ما يسمى بمرحلة التضخم. ويقدر العلماء أن توسع الكون تضاعف 1035 مرة، في مدة قدرها 10-36 ثانية، هذا التوسع الذي أدى إلى انخفاض سريع وهائل في درجة حرارة الكون، مع انخفاض هائل أيضا في كثافة وطاقة الكون. وإلى غاية هذه اللحظة لم تتشكل المادة بعد، بل كان محتوى الكون على شكل طاقة.
     10-35 جزء من الثانية بعد ذلك، تشكلت أولى الجزيئات على شكل كواركات، ونيوترونوات وإلكترونات Quarks, Neutrinos et électrons. واستمر بعد هذه الفترة ظهور واختفاء الجزيئات والجزيئات المضادة Particules et antiparticules، اللتان تشكلان المادة والمادة المضادة، طبقا لنظرية النسبية التي تبين تحول الطاقة إلى مادة وتحول المادة إلى طاقة.
     ما بين 10-6 إلى 10-4 جزء من الثانية، هذه الفترة التي تسمى زمن الهادرونات Temps des hardons، تم تشكل الهادرونات أو البروتونات والنوترونات من تجمع الكواركات. وبما أن النوترونات غير مستقرة، بل تتحول إلى بروتونات 15 دقيقة بعد ظهورها، والوسيلة الوحيدة للحفاظ عليها، أي الوسيلة الوحيدة لظهور الذرات والعناصر الكيماوية التي تكون المجرات والنجوم والأرض وعناصر الحياة، هو التئامها مع البروتونات لتشكيل نواة الدوتيريم، المكونة من بروتون ونوترون. هذا يعني أنه كان لدى الكون فقط أقل من 15 دقيقة لتشكيل الأساس المادي الجزيئي لتكوين كل العناصر الكيميائة باستثناء الهيدروجين المكون أصلا من بروتون واحد والذي يشكل 90 في المئة من جميع ذرات الكون. كما أنه خلال هذه ال15 دقيقة، تم إنشاء عناصر خفيفة أخرى مثل الهيليوم والبيريليوم واللليثيوم. وانخفضت درجة حرارة الكون عند ذلك إلى أقل من مليار درجة مطلقة.
     ما بين 15 دقيقة و380000 سنة، استمر التوسع الكوني السريع، وكانت الفوتونات ذات طاقة مرتفعة جدا، مانعة بذلك انضمام الإلكترونات إلى البروتينات، مما يحول دون تكون الذرات خلال هذه الفترة، ويحول كذلك دون تسرب الفوتونات، أي الأشعة الضوئية، مما جعل رصد هذه الفترة من الكون عبر التليسكوبات مستحيلة.
    بعد 380000 سنة، كما توقع غاموف Gamow، انخفضت درجة الحرارة مع التوسع الكوني إلى 1000 درجة مطلقة، مما مكن الإكترونات من الانضمام إلى البروتونات، لتشكيل الذرات. وذلك لأن طاقة الفوتونات انخفضت ولم يعد بإمكانها تفريق الإلكترونات والبروتونات. ومع تشكل الذرات، استطاعت الفوتونات أن تتبع مسارت مستقيمة مما جعل الكون شفافا ومرئيا، وكانت هذه الفوتونات الأولى هي مصدر أشعة العمق الكوني، التي رصدها بينزياس وويلسون Penzias et Wilsonسنة 1964، وكانت الدليل القاطع والحاسم لصالح نظرية البيغ بونغ، تأييدا لتوقعات فريدمان ولوميتر وغاموف، نال على إثرها بينزياس وويلسون جائزة نوبل سنة 1968.
     ما بين 380000 سنة ومليار سنة، ونتيجة للتفاوت الدقيق بين أجزاء الكون، حرارة وضغطا، تمكنت الأجزاء الأكثر كثافة وحرارة من التأثير على الغازات المجاورة لها عن طريق الجاذبية، فبدأت الغازات تهوي في اتجاه هذه المراكز الجذابة. ونتج عن ذلك بعد حوالي 150 أو 200 مليون سنة من البيغ بونغ٬ تكون وإضاءة النجوم الأولى للكون. بعد ذلك يظن العلماء أن النجوم الناتجة عن هذه الظاهرة، تجمعت لتشكل أولى المجرات التي رصدتها التليسكوبات والتي يزيد عمرها عن 13 مليار سنة.
     وتعتبر النجوم مراكز لإنتاج العناصر الكيماوية التي تتكون منها المادة عامة بما فيها المادة الحية. فنتيجة للارتفاع الهائل للضغط وللحرارة في قلب النجوم، يتم الإندماج النووي بين العناصر الخفيفة، كالهيدروجين والهيليوم لإنشاء عناصر أثقل كالكربون والنيتروجين والأوكسجين، التي تشكل بالإضافة للهيدروجين العناصر الأساسية لنشأة المادة الحية وتكون الماء الضروري للحياة كذلك. وفي النجوم الأضخم والأكثر كثافة يستمر الاندماج ليعطي عناصر أثقل، حيث تتوقف هذه العملية عند نشأة الحديد الذي يكون قلب هذه النجوم، ذلك أن الضغط والحرارة في قلب النجوم لا يكفيان لإدماج الحديد وإنتاج العناصر الأثقل. وعندما يتم نفاد العناصر التي يمكن دمجها، يصل النجم إلى وضعية غير مستقرة، مما يؤدي إلى انفجاره موزعا العناصر الكيميائية التي أنتجها في الفضاء الكوني، والتي ستتجمع لتكون نجوما أخرى وكواكب أي مجموعات شمسية كمجموعتنا، يتم إمدادها بهذه العناصر الكيميائية. ويشير القرآن إلى هذه الظاهرة في سورة الحديد عند قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحديد، 25]. وتبين هذه الآية في وصف معجز أن الحديد الموجود على الأرض، لم يتم إنتاجه في الأرض، بل نزل إليها من السماء، وهذا ما أثبته العلم بشكل يقيني. فقد ثبت أن الحديد نشأ في قلب النجوم ذات الكثافة والحرارة المرتفعتين٬ وعند موت وانفجار تلك النجوم يتم توزيع ما أنتجته من العناصر على المجمعات الشمسية الناشئة بما فيها الكواكب كالأرض. لأن الكواكب كالأرض لا تملك الحرارة والضغط الكافيين لدمج العناصر الخفيفة وتحويلها لعناصر ثقيلة.
     فبعد 9 ملايير سنة من البيغ بونغ، ونتيجة لغبار وغازات ناتجة عن انفجار نجوم سابقة، بدأ انهيار هذه الغازات والمادة المصاحبة لها، لتكون شمسنا، التي أحاط بها قرص من الغازات، تخلل هذا القرص مراكز مرتفعة الكثافة، مما جعلها تجذب إليها مزيدا من المواد والغازات لتشكل الكواكب التي تتكون منها مجموعتنا الشمسية بما فيها كوكب الأرض الذي يعتبر فريدا في تكوينه وفي موقعه من الشمس، هذه الخواص المنعدمة في كل الكواكب المكتشفة إلى يومنا هذا، والتي تجعل منها كوكبا صالحا للحياة. ورغم ادعاءات العلماء منذ غاليليو إلى يومنا هذا أن الأرض كوكب عادي يدور حول نجم عادي في مجرة عادية٬ وأن الظروف الموجودة في الأرض هي نتيجة لتطور عادي محكوم بقوانين كونية ثابتة٬ وأنه نظرا لوجود ملايير المجرات في الكون٬ وفي كل مجرة توجد ملايير النجوم و بالتالي ملايير الكواكب٬ فيلزم أن يوجد كذلك على الأقل ملايين الكواكب التي تشبه كوكبنا٬ حيث تحتوي على الماء وعلى العناصر الضرورية لنشأة الحياة. علي الرغم من كل هذه الادعاءات٬ فقد أثبتت كل الاكتشافات أن كل الكواكب التي توصل العلماء إليها٬ لا توفر الظروف الملائمة لنشأة الحياة، وأن الأرض تتميز بخاصيات فريدة قد تجعلها استثناء من بين كل الكواكب من حيث تكوينها ومسافتها من نجمها.
     والآن، بعد الاستعراض المبسط تبسيطا قد يكون مخلا٬ لتاريخ نشأة الكون، دعونا نستعرض مدى دقة وصرامة القوانين الفيزيائية والثوابت الكونية التي يلزم ضبطها ضبطا صارما لا ينبغي أن تزيغ عنه مثقال ذرة، وإلا لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن، بل لاستحال وجودهما أصلا. فما هي هذه الثوابت التي تتحكم في ظهور الكون وتطوره واستمراره؟
     لقد اكتشف العلماء عشرين ثابتا محددا تحديدا صارما منذ بداية الكون، لا تتغير لا في الزمان ولا في المكان. منها قوة الجاذبية، القوة الكهرومغناطسية، وزن وشحنة البروتون، وزن وشحنة الإلكترون، سرعة الضوء، سرعة التوسع الكوني، الثابت الكوني، وزن بلانك، حرارة بلانك، طول بلانك وزمان بلانك.
     فبواسطة حواسيب فائقة السرعة، باستطاعتها إنجاز بلايين التريليونات عملية في الثانية، يقوم العلماء بإجراء محاكات لأكوان بثوابت مختلفة عن ثوابت الكون الحقيقية، فتبين لهم أن هذه الثوابت محددة بشكل صارم لا ينبغي لها أن تتزحزح عنها ولو بمقدار جزء من تريليونات الأجزاء، وإلا استحال الكون واستحال وجود كوكب ككوكب الأرض صالح للحياة. ولقد صدق الباحث الأردني محمد باسل الطائي، الذي سمى هذا الضبط بمبدأ التسخير، معتبرا بأنه بمقتضى هذا التحديد لهذه الثوابت الكونية، قد سخر الله للإنسان خصائص المادة التي خلقه منها وأنشأ له الأرض التي يعيش عليها والشمس التي توفر له الطاقة وتمسك الأرض في مدارها والبحار والأنهار والنبات والحيوانات التي يقتات منها ويركبها، وكل ما تحصل به مصلحة الإنسان في هذه الحياة الدنيا.
     ولإدراك أهمية هذه الثوابت ودلالتها على أن منشئها وواضعها عليم حكيم قدير مريد، نورد أقول علماء مرموقين منهم من حاز على جائزة نوبل ومنهم مؤمنون وملاحدة، لتكون شهادتهم حجة عليهم وعلى الخلق أجمعين.
     يقول الفيزيائي المادي لي سمولين Lee Smolin: “كيف يمكن للعوامل التي تتحكم في الجزيئات البسيطة والتفاعلات فيما بينها، أن تكون مضبوطة من خلال توازن دقيق بحيث مكنت من ظهور كون بهذا التعقيد وهذا التنوع. إن احتمال نشأة هذا الكون عن طريق الصدفة أقل من 1 على10229
     ويضيف ريشارد فينمان Richard Feynman الحائز على جائزة نوبل للفيزياء، “إننا نستعمل أعدادا في كل نظرياتنا، رغم أننا لانفهمها، ولاندري طبيعتها ولا من أين جاءت”
     أما بو ديراك Paul Dirac الحائز كذلك على جائزة نوبل وصاحب الإنجازات الكبيرة في ميدان الفيزياء فيقول: “إذا كانت القوانين الفيزيائية بهذا المستوى من الدقة، بحيث لا يمكن تصور ظهور الحياة عن طريق الصدفة، إذا لا شك أن هناك إلها”
     ويضيف عالم الكون الأمريكي ألان سانداج Allan Sandage، الحائز على جائزة كرافورد القيمة: “أرى أنه يستحيل أن ينبعث كل هذا النظام من الفوضى. لا بد أن هناك مبدأ للتصميم. بالنسبة لي، الله لغز، إلا أنني أعتبره التفسير الوحيد للوجود، لماذا يوجد شيء بدل اللاشيء”.
     ويؤكد العالم الغني عن التعريف، ماكس بلانك، مؤسس فيزياء الكم:“إن أصل كل المادة ووجودها، رهينان بقوة واحدة، ولا شك أن خلف هذه القوة، وجود روح متصف بالعلم والحكمة”
     كما صرح جيمس غاردنر James Gardner أحد كبار المنظرين للتعقيد: “تصور ظهور الحياة عن طريق الصدفة لا يقل سخافة من الاعتقاد بأنه يكفي أن ننتظر طويلا ليتجمع الغبار الموجود في حزام الكويكبات، ليشكل طائرة من نوع بوينغ 747”
     ويقول روبرت ديك ٌRobert Dicke: “إن سرعة التوسع الكوني، عند ثانية واحدة بعد البيغ بانغ، كان ينبغي لها ألا تتزحزح عن قيمتها ولو عند العدد الخامس عشر بعد الفاصلة، وإلا لانهار الكون على نفسه أو بالعكس لانتثرت أجزاؤه بسرعة أكبر مما يمنع ظهور أية مكونات للكون (كالمجرات والنجوم والكواكب)”   
     ويمكن أن نسهب في سرد أقوال العلماء الكبار في جميع المجالات، والذين حاز معظمهم قصب السبق وكثير منهم حاز على جائزة نوبل، أو جوائز مرموقة أخرى، كلهم يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن الدقة والصرامة اللازمتين لظهور الكون، وتطوره والظروف اللازمة لنشأة الحياة، كل ذلك لا يمكن تفسيره بتاتا، إلا بأن وراءه عليما قديرا مريدا. إلا أنه لابد من الإشارة مع ذلك، أن منهم من يؤمن بالله وبالأنبياء بعضهم أو كلهم، وهؤلاء هم يهود أو نصارى أو مسلمون، إلا أن كثيرا منهم، ونظرا لتاريخ الأوروبيين، والصراع المرير بين الكنيسة والفلسفات الإلحادية التي كانت تتستر برداء العلم، فإن كثيرا من العلماء يعتقدون جازمين أن وراء الخلق إلها خالقا، إلا أنهم يرفضون الإيمان بالله رب إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، بل يؤمنون بقوة أو روح ذكية قادرة، لا تطلب من الإنسان شيئا وما على الإنسان أن ينتظر منها شيئا. إذا تبقى عقيدتهم هذه، أو ما يسمى بالربوبية كعقيدة مشركي قريش، الذين يومنون أن الله خالق كل شيء، لكن متنصلين من أي التزامات وتسليم وخضوع لله، معتبرين الأنبياء مفترين على الله حاشاهم ذلك، وأن الله لم يرسل رسولا ولم ينزل كتابا ولا أحل حلالا ولا حرم حراما، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
     كما يجب التذكير أن نشأة الكون على مراحل متدرجة، تفصل بينها ملايير وملايين السنين، لايعني بأن الله يعجزه خلق الكون ضربة واحدة، وبدون هذا التدرج البطيء، فهو سبحانه يقول للشيء كن فيكون، لكن لعل حكمة الله من هذا الخلق المتدرج، هي إفساح المجال للإنسان ليفكر ويدرس ويبحث ويكتشف، ويواجه شح المعلومات لحقب مديدة، ولا يفرغ أبدا من البحث المضني، الذي قد لا يوصله إلا إلى علم ظني، يظل احتماليا على درجات متفاوتة، ويكون دوما مثار فهم وتفسير، يتجه بالنفس صوب التسليم بعظمة الخالق والكثير من كمالاته، كما قد يتجه بها صوب الشك والحيرة والجحود، مما يؤكد ابتلاء الإنسان بما يبلغه من العلم، في كل مجال وعلى امتداد الزمان والمكان، ويبقى الحسم بناء على نتائج المعرفة الممكنة رهنا بإرادته ومسؤوليته الذاتية، التي قد تتجه إلى الإيمان بالله أو جحود حقيقته.
     وإذا كان ظهور الكون وتطوره يشكلان تحديا معجزا أمام الملاحدة، فإن المادة الحية وظهورها بهذا التعقيد المبهر، تشكل تحديا أكبر، ذلك أن العلم المادي استطاع إلى درجة ما أن يحدد القوانين والثوابت التي من خلالها يبسط الله سطوته وجبروته على الكون كله، بينما تبقى العوامل والقوانين والسنن التي كانت وراء ظهور الحياة وتنوعها، وظهور الإنسان المخلوق الفريد، القادر على الكلام والتفكير والإبداع، تبقى هذه القوانين مستعصية على العقل البشري لا يستطيع لها سبيلا، مما دفعه إلى وضع نظريات غاية في السذاجة بغية فك هذا اللغز المحير، وهذا ما سنكتشفه بإذن الله خلال ما تبقى من هذا الجزء الثالث، لقراءتنا في كتاب الله العلم البراهين.
المادة الحية: تصميم حكيم أم صدفة عمياء؟
     هناك احتمالان لا ثالث لهما، لتفسير ظهور المادة الحية، وظهور جميع الأنواع الحية باختلافاتها الكبيرة، وأشكالها وألوانها البديعة، وقدراتها على التكيف مع مختلف الظروف والبيئات، من القطب الشمالي حيث الحرارة تصل 50 درجة تحت الصفر، إلى الصحاري حيث الحرارة تبلغ 60 درجة فوق الصفر، ومن قمم الجبال إلى أعماق البحار. هل وراء هذا الإبداع علم وحكمة وإرادة، أم صدفة عمياء؟
     قبل الإجابة عن هذا السؤال، نذكر بأن المادة الحية، كما الجمادات مكونة من نفس العناصر الأساسية بنسب مختلفة، وإذا، لإنشاء المادة الحية كان يلزم تسخير الكون كله، من البيغ بانغ، إلى النجوم والمجرات، ثم النظام الشمسي بما فيه الأرض وعناصرها التي تنشأ منها المادة الحية. فالمادة الحية تتكون من الهيدروجين، الذي نشأ خلال اللحظات الأولى من البيغ بانغ، وكان يلزم الوصول إلى درجات حرارة تصل إلى ترليونات الترليونات التريليونات حتى تتكون الكواركات التي تكون منها البروتون، أو ذرة الهيدروجين.
     أما المكونات الأخرى للمادة الحية، فهي الأكسجين والكاربون والنيتروجين والكالسيوم، والفوسفور والكبريت والماغنيزيوم والبوتاسيوم والصوديوم والحديد وغيرها. وكل هذه العناصر يتطلب تكوينها حوالي مليار درجة حرارية، وهو مالا يتوفر إلا داخل النجوم الأعلى درجة والأكثر ضغطا من الشمس. والمادة الأساسية لتكوين هذه العناصر هي الهيدروجين والليثيوم والدوتيريوم والبريليوم المكونة خلال البيغ بانغ.
     كما أن تكوين الحياة، كان يتطلب تشكيل النظام الشمسي بمواصفاته الدقيقة، وخاصة الأرض مع وجود الماء عليها، المكون كذلك من الهيدروجين والأوكسيجين. ولازال ظهور الماء يشكل لغزا وتحديا أمام العلماء، حيث أننا لا نتوفر لحد الآن على تفسير يقيني لأصل الماء الموجود على الأرض، بل كل ما هنالك نظريات لم تستطع الاستطلاعات والاستكشافات إثبات أي منها. ولقد تشكل النظام الشمسي منذ حوالي 4.5 مليار سنة، ولم تظهر أولى الكائنات الحية المكتشفة إلا بعد 800 مليون سنة، أي منذ 3.7 مليار سنة. كما يجب التذكير بأن المادة الحية تتكون من كربوهيدرات ودهون، المكونة من الكاربون والهيدروجين والأوكسيجين، بالإضافة إلى البروتينات والأحماض النووية المكونة من نفس العناصر بالإضافة إلى النيتروجين.
     ويعتقد العلماء أن اللبنات التي تتشكل منها هذه المكونات، كالأحماض الأمينية والسكريات والدهون البسيطة، كل هذه المكونات وصلت الأرض في قلب كويكبات اصطدمت بالأرض قبل 4 ملايير سنة، كما أن هناك نظريات أخرى تظن أو بالأحرى تتوهم، أن هذه اللبنات نشأت في حساء بدائي حار في أعماق البحار.
     والآن بعد أن توفرت على الأرض جميع العناصر المكونة للمادة الحية، لنا وقفة مع الماديين لابد منها. ذلك أن مكونات المادة الحية أصبحت معروفة بأدق التفاصيل ومتوفرة بكثرة، بالإضافة للوسائل التكنولوجية والمعلوماتية الفائقة الكفاءة، فإننا لا نطالبهم بإنشاء العناصر المكونة للحياة من لا شيء، ولا أن ينشؤوا المادة الحية عن طريق الصدفة وذلك باستعمال العناصر الكيميائية المتوفرة بكثرة، إنما نطلب منهم فقط أن يستعملوا ما لديهم من حواسيب وتكنولوجيا متطورة لإنشاء أبسط خلية حية، قادرة على التكاثر. كما أن الله سبحانه وتعالى تحدى العالمين بأن يأتوا بكتاب مثل القرآن، مؤلف من حروف متوفرة لديهم، ولم يطلب منهم إنشاء حروف أخرى مثلها وموازية لها، وقد تحداهم كذلك أن يخلقوا ذبابا وأن يجتمعوا له من نفس العناصر التي هو خالقها، وكان من العدل أن يطالبهم بإنشاء الأوكسيجين والهيدروجين والنيتروجين والعناصر الأخرى، من لا شيء ثم ينشئوا من هذه العناصر بروتينات وسكريات ودهون وأحماض نووية، على غير التصميم الذي أبدعه الله سبحانه وتعالى، ثم ينشؤوا من ذلك ذبابا يطير ويسعى ويأكل ويتكاثر.
     والآن بعد هذه الوقفة، نتساءل عن الفرق بين المادة الحية والجمادات، بما أن كلتا المادتين مكونة من نفس العناصر، ما الذي يجعل المادة الحية تشكل كائنات حية، تأكل وتشرب وتتحرك وتتوالد وتخاف وتفرح وتموت، بينما الجمادات لا تتصف بهذه الصفات؟ لا يوجد جواب مادي علمي عن هذه الأسئلة.
     كما يلزم كذلك التذكير أنه كما أن الكون قد صمم على أساس ثوابت دقيقة ومعادلات صارمة، فالكائنات الحية نشأت كذلك على أساس معلومات أو كود لا يقل صرامة، بل قد يتجاوز دقة القوانين التي أسس عليها الكون. فهذا التصميم مبني على المادة الوراثية المكونة من أربعة حروف، حسب نص من بلايين الحروف، لو زال حرف واحد من مكانه، أو أضيف حرف، أو غير حرف بحرف آخر، لربما استحال التطور الجنيني، أو أصيب المخلوق الناتج عن هذا الكود المغير، بعاهات وأمراض خطيرة، كما نرى ذلك في الأمراض الجينية.
     من أين جاء هذا النص المعجز، الذي على أساسه تنشأ ملايين الأنواع من المخلوقات؟ هذا النص الذي يشتغل كبرنامج حاسوب دقيق، يمد خلايا الجنين بالتصميم والبرنامج، بينما تشتغل هذه الخلايا كطابعات ثلاثية الأبعاد، مستعملة مادة ميتة على شكل العناصر الكيماوية، وتنشئ منها خلايا وأعضاء متنوعة تؤدي جميع وظائف الأحياء كإفرازات، وتنفس ودورة دموية وإبصار وحركة وفرح وحزن وأمل ورجاء ويأس الى آخره.
     ويعتبر الحمض النووي، أو الدنا DNA أكبر تجميع للمعلومة في الكون عرفه الإنسان. ولو أردنا كتابة مجموعة المعلومات المخزنة في الدنا، والموجودة داخل نواة لا يتعدى قطرها 6 أجزاء من مليون جزء من المتر، لاحتجنا لمليون صفحة. وبهذه التكنولوجيا، يمكن جمع كل الكتب التي كتبتها البشرية، أي ما يعادل 30 مليون مرة دائرة المعارف البريطانية، فقط في مقدار ملعقة صغيرة من الدنا DNA.
    ولذلك يقول بيير سونيغو Pierre Sonigo وهو مدير مختبر بالمعهد الوطني للأبحاث الطبية الفرنسي: “يبدو الدنا DNA كالسبب التاريخي، بداية قصة، إلا أنه لا أحد يعلم من أين أتى ولا كيف يتمكن من إنتاج الحياة؟ “
    ويؤكد دانيال كوهين Daniel Cohen، بروفيسور الوراثة بجامعة إيفري الفرنسية، وأحد الأوائل الذين ساهموا في تحديد التسلسل الجيني البشري: “الجينوم برنامج مكتوب بلغة معلوماتية بالغة التعقيد. هل يمكن لبرنامج كهذا أن ينتج عن الصدفة؟ قد نتوهم ذلك، لكن يستحيل إثباته. شخصيا، تحولت خلال سنة واحدة، من الإلحاد إلى اللاأدرية. لأنه إن لم يكن هذا البرنامج ناتجا عن الصدفة، فحتما سنتمكن يوما من إثبات ذلك. هل تتصورون حجم التغيرات (الإيديولوجية) التي ستنتج عن ذلك؟”
     وهذا فرانسيس كريك Francis Crick، مكتشف الدنا DNA، والحائز على نوبل سنة 1962، يؤكد حاسما الجدل: “إن جزيئا مثل الدنا DNA يستحيل أن يظهر عن طريق الصدفة”.
     لا يتوقف التعقيد والضبط الصارم عند الدنا DNA، بل يتجاوزه إلى كل مكونات الخلية، ولعل الريبوزومات ribosome تشكل تحديا آخر أمام العقل البشري من حيث أصله وتكوينه ووظيفته. لذلك يقول جورج شورشGeorges Church، الملحد والبروفيسور في جامعة هارفارد ومعهد MIT، اللذان يعتبران من أكبر صروح ومعابد العلم والتكنولوجيا: “يعتبر الريبوزوم أعقد مكون على الإطلاق الموجود في الكائنات الحية…، ولو كنت من مناصري التصميم الذكي، لكان هو الإشكال الذي كنت سأركز عليه:كيف ظهر الريبوزوم إلى الوجود؟ أليست ال 53 بروتين و3 نيكليوتدات المكونة له تعتبر الحد الأدنى لتكوينه؟ إن هذا لمدهش، لم يستطع أحد أن يصنع ريبوزوما فعالا دون الاستعانة بالبروتينات” هذه البروتينات التي يستلزم إنتاجها للريبوزومات، يضيف مؤلفا الكتاب الذي نحن بصدده.
     ويعتبر الريبوزوم آلة نانو Nanomachine ذات كفاءة عالية بكل المقاييس، فهو من إنتاج الخلية حسب كود مودع في الدنا DNA الذي يمكن من إنتاج ال53 بروتين المكون للريبوزوم، ولإنتاج هذه البروتينات تحتاج الخلية للريبوزومات، في حلقة مفرغة مثل سؤال أصل الدجاجة والبيضة لا يمكن حلها. ويتم تجميع هذه البروتينات داخل الخلية التي لا يتعدى قطرها بعض الميكروميترات. كيف يتم جمعها؟ وكيف لها أن تتعاون على أداء وظيفة لا يمكن للحياة أن تكون بدونها؟ لا أحد يعلم ذلك إلا خالقها. بعد تجمعها بشكل دقيق وصارم، يضاف إليها النيكليوتيدات، وهي أجزاء من الحمض النووي ثم تبدأ بالاشتغال. ووظيفة الريبوزوم هي ترجمة لغة الحمض النووي التي تشكل كودا من أربعة حروف، إلى لغة البروتينات عن طريق ربط الأحماض الأمينية ببعضها لتشكيل كود آخر من 22 حرفا، في تسلسل معجز وسرعة تقدر بحمضين أمينيين في كل ثانية. علما أن في كل خلية مئات البروتينات، يجب إنتاجها بالتزامن، داخل هذا الفضاء البالغ الضآلة، بالتوزاي مع التفاعلات البالغ عددها الآلاف، كلها تجري في نفس الوقت عن طريق الأنزيمات التي تشكل بدورها آلات النانو بالغة الكفاءة والدقة.
     واللغز الثالث هو البروتينات وتشكلها ووظائفها وتعقيدها.لإعطاء لمحة عن كفاءات الأنزيمات، التي هي بروتينات، نسرد المثالين التاليين:
ـ لإزالة الكاربوكسيل من الأورتيدين وحيدة الفوسفات décarboxylation de l’orotidine monophosphate، وهذا التفاعل ضروري لإنتاج الأحماض النووية، يجب انتظار 78 مليون سنة بدون أنزيمات، أما بواسطة الأنزيمات، فالتفاعل يتم خلال 18 ميللي ثانية، أي 0.018 ثانية، مضاعفة سرعة التفاعل ب 1017 مرة.
ـ كما أن تفاعلا ضروريا لتشكيل الهيموغلوبين، يستلزم 2.3 مليار سنة دون أنزيمات، بينما يتم هذا التفاعل بواسطة الأنزيمات خلال عدة ميللي ثانية millisecondes.
     تشكل البروتينات روبوتات، يَنْتُجُ شكلها ثلاثي الأبعاد عن تسلسل الأحماض الأمينية، حيث لو غير مكان حمض أميني واحد من أصل مئات الأحماض الأمينية لتوقف عمل البروتين، مما يشكل خطرا على الكائن الحي، خاصة حين يتعلق الأمر ببروتين أساسي كالهيموغلوبين، أو البروتينات اللازمة لإنتاج ال ATP، مصدر الطاقة الحيوية في الخلية. وقد قدر العلماء أنه لإنتاج بروتين واحد بتسلسل صحيح للأحماض الأمينية من بين ترليونات التسلسلات الممكنة عن طريق الصدفة، يلزم الانطلاق من كمية مادة تساوي أضعاف كل المادة الموجودة في الكون، وانتظار زمن مضاعف لعمر الكون عدة مرات. كيف وأن أبسط كائن حي، يحتاج إلى 150 بروتين على الأقل.
     وكما شكلت القوانين الصارمة وراء خلق وتطور الكون، تحديا يلزم بوضع نظرية العشوائية في سلة المهملات ومزابل التاريخ، فإن السنن التي تحكمت في ظهور الحياة، وتنوعها واستمرارها، تشكل تحديا أكبر، ولغزا محيرا، يقضي نهائيا على آمال الماديين، باعترافهم رغم المكابرة والعناد مصداقا لقوله سبحانه وتعالى “وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ” [النمل، 14].
     ونورد فيما يلي أقوال كبار العلماء الماديين، ويأسهم وخضوع أعناقهم لآيات الله الباهرة، في خلق الحياة، إقامة للحجة على من دونهم من المتحذلقين ومن الجاهلين، الذين لا يعلمون عما يتكلمون حين يتحدثون عن الصدفة وظهور الحياة. 
     فهذا جاك مونو، الملحد Jaques Monod، الحائز على جائزة نوبل في علم الوراثة يصرح متأسفا: “المعضلة الكبرى، تتمثل في أصل الكود الوراثي وكيفية ترجمته إلى بروتينات. في الواقع، نحن لا نتحدث عن معضلة، بل عن لغز حقيقي. ليس للكود أي معنى إذا لم يترجم. الآلة التي تقوم بترجمة هذا الكود تتكون من 50 بروتينا على الأقل، والكود اللازم لهذه البروتينات موجود كذلك في الدنا ADN، يعني أن ترجمة الكود تستلزم بروتينات ناتجة بنفسها عن الترجمة. إن هذا هو التعبير الحديث عن معضلة الدجاجة والبيضة. متى وكيف أغلق هذا الدور؟ إن من الغاية في الصعوبة تخيل ذلك”
     وكما بين روبرت يوكاي Robert P. Yockey: “المعلومة الوراثية تمثل نظاما مجزءا، خطيا ورقميا. إنه لمن المذهل أن تكون نظرية المعلومة ونظرية التشفيرthéorie de l’information et théorie du codage، قد وضعت في الخلايا الحية منذ 3.8 مليار سنة”
     أما فرنسيس كريك Francis Crick، مكتشف الدنا ADN، والحائز على نوبل للكيمياء سنة 1962، فيضيف:“إن رجلا شريفا، مسلحا بكل العلوم التي أدركتها البشرية حاليا، عليه أن يؤكد أن أصل الحياة لا يمكن تفسيره حاليا إلا بالمعجزة، نظرا للعدد الكبير من الظروف التي يلزم توفيرها لإيجادها”.
     ويؤكد لين مارغوليس Lynn Margulis، عالم الأحياء الدقيقة في جامع مساشوسيتس، وعضو أكاديمية العلوم بالولايات المتحدة “إن الانتقال من البكتيريا إلى الإنسان لهو خطوة أصغر من الانتقال من الأحماض الأمينية إلى البكتيريا”
     ويتساءل مايكل دونتون Michael Denton، الرئيس السابق لمركز الوراثة بسيدني، وأستاذ البايوكيمستري بجامعة أوطاغو ومتخصص في التطور: “هل فعلا من المصداقية أن التحولات العشوائية تمكنت من بناء كائنات يمتاز أصغر عنصر فيها، وهو البروتين أو الجين، بتعقيد يتجاوز قدراتنا الإبداعية، كائنات على النقيض من العشوائية، والتي تتجاوز على جميع المستويات، ما يمكن إنتاجه من طرف الذكاء الإنساني؟”.
     ويعترف أوجين كونين Eugene Koonin، مدير مختبر الجينوميك التطوري بالمركز الوطني الأمريكي للبيوتيكنولوجيا: “البحث (في أصل الحياة) فاشل. ليس لدينا حتى نموذج ممكن ومتماسك، ولا أي سيناريو مقبول، فيما يخص انبثاق الحياة على وجه الأرض. وهذا راجع للصعوبة الفائقة والتعقيد الذي يتسم به الإشكال. تتابع مراحل ذات احتمال بالغ الضآلة، كان وراء ظهور الحياة…مما يجعل الاستنتاج في نهاية المطاف أن الحياة أشبه ما تكون بالمعجزة”.
     ويعتبر أنطوني فلو Anthony Flew، من أكبر فلاسفة القرن العشرين، وقد تحول إلى الإلحاد في سن 15 سنة، وظل مقاتلا شرسا مدافعا عن الإلحاد حتى بلغ 81 سنة، حيث تخلى عن الإلحاد واعتنق مذهب الربوبية، وفي عرض تبرير هذا التحول، يصرح، “لقد أماطت الاكتشافات للدنا والرنا DNA et RNA، اللثام عن تعقيد لا يكاد يصدق، كان لازما لخلق كائن بشري، مما يدل أن ذكاء ما، كان وراء تشغيل بشكل متناسق، جميع هذه العناصر الكيميائية الرائعة”
     شندرا ويكراماسينغ Chandra Wickramasing، أستاذ الرياضيات التطبيقية وعلم الفلك في جامعة كارديف، وزميل لفريد هويل المشهور، يضيف: “يقدر الاحتمال لظهور الحياة عن طريق الصدفة بحوالي،10-4000، رقم متناه الضآلة يتم بموجبه قبر داروين ونظرية التطور. لم يوجد قط ما يسمى بالحساء البدائي، لا فوق الأرض ولا فوق أي كوكب آخر. وإذا لم تكن العشوائية خلف ظهور الحياة، فلا بد أن يكون خلف هذا الظهور حكيم مريد”
     ونختم هذه التقريرات من قبل كوكبة من خيرة ما أنتجته البشرية من علماء أفذاذ، كل في ميدانه بتصريح كرستيان دو ديف Christian de Duve طبيب وباحث في البايوكيمستري، والحائز على جائزة نوبل سنة 1974،“لقد تبنيت الإيمان بوجود ذي معنى وليس فارغا من الحكمة. لا لأنني تمنيت أن يكون كذلك، بل لأنني هكذا أفسر المعطيات العلمية التي بحوزتنا”.
     التصريحات من أهل العلم والاختصاص، لا حصر لها، والتي تنضاف لما قدمناه من تصريحات متعلقة بخلق وتطور الكون، والمنسوبة لمؤمنين وملاحدة، كلهم يتفقون على ألا مجال بتاتا للحديث عن الصدفة والعشوائية، وأن وراء الخلق، كونا كان أو أحياء، خالقا عليما حكيما مريدا. فالحمد لله الذي أقام الحجة، وأتم النعمة، وأظهر الحق وأزهق الباطل، ولن يهلك بعد هذا كله على الله إلا الهالك. وتمَسُك الملاحدة بإلحادهم ليس غريبا رغم الحجج والبراهين الساطعة. ألم يقل الله تعالى في كتابه الكريم:” وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ[الأنعام، 111]، وقال تعالى:” وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۚ وَيَجْعَلُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ”) [يونس، 110]، إذا، فقلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقبلها كيف يشاء. والقلوب التي يعلم الله فيها خيرا يؤتها خيرا، والأخرى يكلها إلى نفسها وإلى الشيطان. عندها لا يتوان الشيطان عن مد هذه القلوب بالشبهات والشهوات التي تجتمع عليها حتى تطمئن لما تعتقده من عقائد وما تشرعه من شرائع وما ترتضيه من أخلاق. فتصير القلوب إلى قلبين كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم “حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ “[1].
     تطور الحياة على وجه الأرض: من بين الانتقادات التي يمكن أن توجه للكتاب إعراضه عن نقد نظرية التطور والداروينية. ربما يرجع ذلك لطبيعة المجتمع الفرنسي، مقارنة بالمجتمعات الأنغلوساكسونية، خاصة بريطانيا والولايات المتحدة. ففرنسا دولة ومجتمعا أكثر وفاء للعلمانية والفلسفات المادية كالداروينية والتحليل النفسي. ومن الصعب جدا أن يحتفظ المثقف أو الباحث بمصداقيته إذا أبدى اعتراضا على هتين النظريتين، رغم أن هناك اتجاهات فلسفية وعلمية كبيرة توجه انتقادات عميقة لهتين النظريتين. فلكي يبقى الكتاب مقبولا لدى المثقفين والعموم كان عليه أن يتلافى الحديث عن هتين النظريتين، وإلا سيقصى مباشرة ولن يلقى إقبالا كما هو الحال دون التعرض لهتين النظريتين.
     وسنرى من خلال هذه الفقرة، هل تتوافق المعطيات التجريبية والاكتشافات العلمية مع النظرة الداروينية لتاريخ الحياة على وجه الأرض، أم أن هذه النظرة، قاصرة عن تفسير هذه المعطيات.
     وبداية، أود أن أشير أن التقييم الذي سأقدمه، ليس انطلاقا من النصوص الشرعية، قرآنا وسنة، بل بالاحتكام إلى ما توصل إليه العلم التجريبي، وبناء على ما يعترف به علماء البيولوجيا، حتى التطوريون منهم. وسأتفادى الاستشهاد بمناصري التصميم الذكي والخلقويين. لا لأن أدلتهم لا تصلح للاستشهاد، بل لأن حججهم تُرْفَضُ جملة وتفصيلا بحجة أن لها خلفية إيديولوجية مناهضة لمبادئ العلم التجريبي، رغم أن آراءهم تنطلق من معطيات هذا العلم في كثير من الأحيان.
وقبل تقييم مصداقية الداروينية، لا بد من تقديم مختصر لأهم المبادئ التي بنيت عليها هذه النظرية:
1ـ الأصل المشترك: يعتقد داروين وأتباعه، أن الحياة نشأت منذ حوالي 3.7 مليار سنة في حساء بدائي، تكونت فيه اللبنات اللازمة لتكوين المادة الحية، مع إمكانية قدوم هذه اللبنات من الفضاء الخارجي أيضا. ثم بناء على قواعد الفيزياء والكيمياء، تجمعت هذه اللبنات لتشكل الجزيئات الأكثر تعقيدا، كالبروتينات والدهنيات والسكريات والأحماض النووية، حيث شكلت خلية بدائية، لها خاصية التكاثر الذاتي، وقابلية التطور والتعقيد.
2ـ الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي: يعتقد الداروينيون، أن الانتخاب الطبيعي هو مهندس التطور. فهو ينطلق من الشيفرة الوراثية للكائنات الحية، التي تتكاثر وتتوالد، ويصاحب هذا التكاثر والتوالد طفرات غاية في الصغر، من بين هاته الطفرات، توجد طفرات تعطي بعض الكائنات الحية ميزة تنافسية، تمكنها من البقاء، حيث تجعلها أكثر كفاءة للوصول للغذاء، أو أكثر كفاءة في تجنب الأعداء، أو أشد مقاومة للظروف الطبيعية القاسية، كالبرد والحرارة المفرطة والجفاف ونقص الموارد الغذائية. وهذه الكفاءة العالية، تجعل الانتخاب الطبيعي، ينتخب هذه الكائنات الأكثر كفاءة وتكيفا مع الظروف، ويستبقيها، بينما تتعرض الكائنات التي لم تستطع أن تطور ميزات تنافسية، للانقراض. وهكذا، بناء على هذه الميكانيزمات، حدثت طفرات وتغيرات طفيفة جدا مع الزمن، أي مليارات السنين، ومكنت من ظهور الكائنات الحية، المتسمة بالتعقيد خلال الزمن، بحيث مرت شجرة الحياة من البكتيريا، للكائنات وحيدة الخلايا، ثم للكائنات المتعددة الخلايا، بما فيها الفقريات والثدييات والأوليات Primates وأنواع القردة والإنسان.
     ومن بين الدلائل التي يقدمها التطوريون للبرهنة على صحة نظريتهم، التقارب الجيني بين الأحياء المتشابهة، وكلما زاد الاختلاف بين الكائنات الحية، كلما زاد التباعد والاختلاف الجيني. والنظرية لكي تكون صحيحة، يلزم أن يبرهن العلم التجريبي المادي على مستلزماتها. ومن بين هذه المستلزمات:
     من المادة الكيميائية الميتة إلى المادة الحية: المرحلة الأولى، حسب نظرية التطور، تتجلى في تجمع العناصر الكيميائية لتكون لبنات الحياة، ثم تتجمع هذه اللبنات في الماكروجزيئات، كالدهون والبروتيدات والكاربوهيدرات بالإضافة للأحماض النووية. ثم بعد ذلك تخلق الخلية الأولى القادرة على التكاثر الذاتي، لتنطلق عملية الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي، لتشكل كافة الأنواع من البكتيريا إلى الإنسان. وقد سبق ان تحدثنا عن استحالة إيجاد تفسير مادي كيميائي لظهور الخلية الأولى. ونذكر بما قاله فرنسيس كريك Francis Crick، مكتشف الدنا ADN، والحائز على نوبل للكيمياء سنة 1962: “إن رجلا شريفا، مسلحا بكل العلوم التي أدركتها البشرية حاليا، عليه أن يؤكد أن أصل الحياة لا يمكن تفسيره حاليا إلا بالمعجزة، نظرا للعدد الكبير من الظروف التي يلزم توفيرها لإيجادها”. ويرجى الرجوع لما فصلناه أعلاه، من استحالة تحول المادة الغير حية إلى كائن حي بطريق الصدفة والعشوائية، كما يدعي ذلك التطوريون.  إذاً فالعلم التجريبي المادي ينسف أحد أسس الداروينية، حيث ثبت وباعتراف العلماء الماديين والتطوريين، استحالة تكوين الخلية، التي تعتبر الأصل المشترك لجميع الكائنات عن طريق الصدفة والعشوائية حسب زعمهم، وأن الانتقال من المادة الميتة إلى المادة الحية يستلزم معجزة وإلها مدبرا حكيما، رغم أن أغلبهم يستنكف عن الإيمان بالله، متبنين مذهب اللاأدرية أو مذهب الربوبية.
     وجود كائنات انتقالية تبين التحولات بين مختلف الأنواع في شجر حياة دون فجوات: إن من مستلزمات نظرية التطور كذلك، وجود مستحثات أو أحافير، تقدم انتقالا متواصلا وغير متقطع للأنماط الحية، بين البكتيريا حتى الإنسان. وكما توقع داروين، إن كانت نظريته صحيحة، فإن طبقات الأرض، يجب أن تحفل بأعداد هائلة من الأحافير، تجلي بوضوح، الانتقال التدريجي والمتواصل وغير المنقطع، من أشكال بسيطة إلى أشكال أكثر تعقيدا. فهل فعلا، يقدم العلم التجريبي، وخاصة علم الأحافير Paleotology هذه الصورة التي توقعها داروين، أم أن المعطيات تنبئ عن قصة مختلفة عن توقعات داروين. هذا ما سنكتشفه فيما يلي:
ـ قبل 3.7 بليون سنة، ظهور أولى الخلايا، وهي على شكل بكتيريا مكونة من خلية واحدة بدون نواة Procaryotes. وكما رأينا لا تدل الأحافير على وجود كائنات انتقالية بين الجماد والخلية، بل وجدت الخلية متكاملة وبنفس التعقيد الذي توجد عليه الخلايا الحالية، دون مراحل انتقال تذكر. وقد بذل العلماء الجهود الممكنة، وأنفقوا أموالا طائلة لعلهم يصلون إلى مراحل أبسط من الخلية في المختبر. وأقصى ما توصلوا له هو إنتاج بعض الأحماض الأمينية أو سكريات وقواعد بسيطة. والفرق بين هذه المكونات والخلية أعظم أضعافا مضاعفة، من الفرق بين قطعة معدن وأسرع حاسوب وجد على وجه الأرض.
ـ وخلال 3 بلايين سنة، لم يحدث تغير يذكر إلا ظهور الكائنات الوحيدة الخلايا الأعقد من الباكتيريا، Eucaryotes وغياب كامل لكائنات انتقالية، بين الباكتيريا وهذه الخلايا، كما كان يزعم داروين.
من الانفجار العظيم إلى الانفجار الكامبري Cambrian explosion:
    بعد مرور 3 بلايين سنة على ظهور الخلايا الأولى، أي قبل ما بين 530 و520 مليون سنة، وبشكل مفاجئ، ودون أسلاف، انفجر في وجه الداروينية ما بات يعرف بالانفجار الكامبري، حيث ظهرت معظم الشعب Embranchement  المعروفة اليوم وهي شعبة الديدان المسطحة Platyhelminthes، شعبة الحلقيات، Annelida، شعبة المفصليات: Arthropoda، التي تصنف ضمنها الحشرات، شعبة الرخويات:Mollusca، شعبة شوكيات الجلد: Echinoderma، شعبة الحبليات:Chordata.
     وتتميز هذه الشعب بتعقيد بالغ وباختلافات كبيرة فيما بينها، دون أن يوجد لها أسلاف، مخالفة بشكل جذري تنبؤات داروين. وهذه الشعب كانت معروفة زمن داروين، وشكلت له تحديا كبيرا في حياته، إلا أن أمله أن الاكتشافات الأحفورية اللاحقة، ستعثر حتما في الطبقات ما قبل الكامبري على أعداد كبيرة من بقايا أسلاف هذه الحيوانات. إلا أنه بعد أكثر من 160 سنة من نشره لكتاب أصل الأنواع، تأكد العلماء أنه لا توجد أية أسلاف لهذه الكائنات المعقدة، وأن الانفجار الكامبري، كما ظهور الخلايا الأولى، يشكل ضربة قاضية للداروينية وللتطور العشوائي المبني على الطفرات العشوائية والتدريجية، أي وجود مراحل انتقالية كثيرة بين مختلف أنواع الأحياء، ناتجة عن الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي.
     إذا كان داروين يعلم أن مجموعات الحيوانات الرئيسية ـ التي يسميها علماء الأحياء الحديثون “phyla” ـ أو الشعب ظهرت بشكل كامل فيما كان في ذلك الوقت أقدم الصخور الحاملة للأحافير المعروفة، والتي ترسبت خلال فترة جيولوجية تُعرف باسم الكمبري. لقد اعتبر هذه صعوبة “خطيرة” بالنسبة لنظريته، لأنه حسب داروين: “إذا كانت النظرية صحيحة، فلا جدال في أنه قبل ترسب الطبقة الكمبري الأدنى انقضت فترات طويلة… وخلال هذه الفترات الشاسعة كان العالم مليئًا بالكائنات الحية.” و“على السؤال عن سبب عدم العثور على رواسب أحفورية غنية تنتمي إلى هذه الفترات المبكرة المفترضة قبل النظام الكمبري، لا يمكنني إعطاء إجابة مرضية.” لذلك “يجب أن تظل القضية في الوقت الحاضر غير قابلة للتفسير؛ وقد يتم استعمال ذلك كحجة صالحة ضد الآراء المطروحة هنا (يقصد في كتابه أصل الأنواع)”. كما أن داروين وأتباعه العصريين، برروا عدم وجود حيوانات انتقالية في الطبقات قبل الكامبري، أنها تحللت بسبب صغر حجمها وبسبب الضغط والحرارة، ربما لأن أجسامها كانت رخوة لا تملك أنسجة صلبة. إلا أنه منذ 1859، اكتشف علماء الآثار، عددا كبيرا من الحفريات، كثير منها صغير الحجم، وأجسامها رخوة. وفي هذا يقول عالم الحفريات الأمركيي، ويليام شوب، William Shopf، “إن الادعاء بأن الحيوانات ما قبل الكامبري، لم تحفظ لأنها صغيرة جدا، أو رخوة جدا، قد ثبت الآن خطؤه”. وحسب عالم الحفريات، جيمس فالانتاين James Valentine، وزملائه “الانفجار الكامبري حقيقي، ولم يعد مجديا إخفاؤه بذريعة وجود عيوب في الحفريات”. ومع التقدم في اكتشاف الحفريات، يتضح أن الانفجار الكامبري “أكثر اتساعا وأكثر فجائية مما كان يعتقد من قبل”. ولو ذهبت تسأل تلاميذ الثانويات، بل حتى طلبة الجامعات تخصص بيولوجيا أو جيولوجيا، فلن تجد لديهم أي علم أو إلمام بهذا الانفجار. وحسب تجربتي الشخصية، فلقد درسنا علم الحفريات، والتطور، وعلم الأحياء المقارن، ولا أذكر أن أساتذتنا الأجلاء عرضوا لهذا الإشكال حتى من أجل نقضه ودحضه. بل يتم تجاهله بالكلية، والانطباع لدى الطالب أن شجرة الحياة، كما وصفها داروين، متصلة ومتكاملة وأن الاكتشافات تظهر جميع الكائنات الانتقالية دون انقطاع. فعلى أساتذة الثانوي وأساتذة الجامعات، أن يعيدوا النظر في المقررات، وأن يتأكدوا من صحة المعلومات الواردة في المناهج الدراسية، واقتراح تعديلها حتى تتماشى مع الحقائق العلمية الثابتة، دون تحيز إديولوجي مسبق. وأنا على يقين أنهم لو بحثوا عن الأدلة بتجرد، فإن كثيرا من المعلومات التي تمرر في المناهج التعليمية سيتم تعديلها.
     وحول الانفجار الكامبري، يقول العالم التطوري جان بيرغستروم Jan Berstrom  أحد المتخصصين في دراسة أحفورات العصر الكامبري وباحث بجامعة أولم، ULM الألمانية:“ليس هناك علامة على الإطلاق لالتقاء الشعب، عندما نتبعها إلى الوراء إلى بداية الكامبري، لقد كانت متباعدة عن بعضها منذ البداية كما هي عليه اليوم.”
     ويستنتج ستيفان جاي غولد: Stephen Jay Gould، وهو من أكبر التطوريين، وعالم الأحفوريات وبروفسور بجامع هارفارد، بخصوص نظرية التطور “تلك النظرية ولدت ميتة فعليا بالرغم من بقائها كعقيدة في الكتب المنهجية”
     ولمثل ذلك ذهب ستيوارت نيومان: Stuart Newman بروفسور البيولوجيا الخلوية بجامعة نيويورك:“ما لم يفتح النقاش حول التطور للرؤى العلمية في ما وراء الداروينية، فإننا سنضحي بمستقبل التعليم لأجيال قادمة، من أجل نظرية تحتضر”.
     أما روبرت كارول: Robert L.Carrol، الخبير في علم الحفريات والمتخصص في تطور الفقريات، فيصرح: “أشهر حادثة في تطور الكائنات عديدة الخلايا، هي الظهور الدراماتيكي والخرائط الجسمية الجديدة الرئيسية، التي وثقها الانفجار الكامبري في أقل من عشرة ملايين سنة، ظهرت تقريبا جميع الشعب بما فيها شوكيات الجلد…. إن السرعة الفائقة في التغير التشريحي والانفجار التكيفي خلال هذه الفترة القصيرة من الوقت، تحتاج تفسيرات وراء تلك التي تقدم لتفسير تطور الأنواع في المجتمعات الأحيائية الحديثة”.
     ولذلك يقول ستيفين م ستانلي: Steven M. Stanley، بروفسور علم المتحجرات والأحياء التطورية، بجامعة هوبكينز الأمريكية: “في الحقيقة، السجل الأحفوري لا يوثق بصورة مقنعة، ولا يدعم تحولا واحدا من نوع إلى نوع آخر”.
     وكخلاصة لهذه الحلقة، يتبين بما لايدع مجالا للشك، أن المعطيات المادية، وبيانات العلم المادي كلها تشير إلى أن خلق الكون وخلق الحياة، يستلزمان تصميما وحكمة وإرادة وقدرة، وكل ما يدل على أن الله العليم الكريم القدير أبدع هذا الكون وما يحويه من مجرات وكواكب ومخلوقات. ونحن نعتقد جازمين أن ما توصل إليه البشر ليس إلا جزءا يسيرا، من خلق الله. فحتى هذا الكون الذي يتعاطى معه العلماء، لا يرصدون فيه إلا جزءا ضئيلا من المادة المعروفة، والتي لا تمثل في مجموعها سوى 4 % من مكونات الكون، أما الباقي فهو عبارة عن مادة مظلمة بنسبة 20 % وطاقة مظلمة، مسؤولتان عن التسارع في التوسع الكوني، وتمثلان 76 % من الكون، ولا يدري العلماء ماهية هذين المكونين، لأنهم توصلوا إليهما عن طريق الحسابات الرياضية، ولا دليل رصدي لهما على الإطلاق.
     ويبقى من حق المخالفين اعتقاد ما يشاؤون من عقائد، وحتما ستتمكن عقولهم من تطويع أدلة العلم التجريبي لتسعف نظرياتهم وعقائدهم، وسيكون لهم أتباع ومؤيدون، طبقا لسنة الله في خلقه، أن الناس سيظلون مختلفين ولذلك خلقهم. إلا أن الجدال يجب أن يتم بالحسنى، وأن لا يضجر المؤمن ولا يتبرم مما يسمعه من رواج الإلحاد، ومن أذى لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا من سنة الله الجارية، بل عليه أن يبلغ وينشر النور وأن يعرض عن الجاهلين، مصداقا لقوله تعالى “قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ” [سبأ، 25]، وقوله تعالى:  وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون” [يونس، 41].
   والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] حديث صحيح من حديث حذيفة ابن اليمان، البخاري رقم: 1435 ومسلم رقم: 144.

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى