التزكية تربية على الأمانة

عبد السلام محمد الأحمر

مقدمة:

أولا: مستويات التزكية:
      الغالب على معنى التزكية في كتابات العلماء؛ هو كونها تطهر من الأرجاس والآثام والذنوب، والقيام بالطاعات والعبادات وتحسين السلوك، لكن التمعن في مواردها من القرآن يبين أنها تدل على مستويات متدرجة من اختيار نهج الإيمان، إلى الالتزام بمقتضياته الاعتقادية وممارساته العملية، مع إدامة مراقبة الله تعالى واستشعار المسؤولية بين يديه.
1) الإيمان أساس التزكية
      وهذا ما نستنتجه من النظر في قوله تعالى {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (فصلت:6-7)، حيث المقصود بالزكاة هنا ليس زكاة الأموال وإنما زكاة النفس بالإيمان؛ وإلى هذا التفسير ذهب ابن عباس والجمهور فرأوا بأن الزكاة في هذه الآية هي التوحيد لا إله إلا الله، كما قال موسى لفرعون: {هل لك إلى أن تزكى} ويرجح هذا التأويل أن الآية من أول المكي، وزكاة المال إنما نزلت بالمدينة، وإنما هذه زكاة القلب والبدن، أي تطهيرهما من الشرك والمعاصي.[1]
      وكذلك الأمر في الآية التالية: “عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى” (عبس: 1-7)
      فعندما “كان رسول الله ﷺ يوماً يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام، وأُمية وأُبَيَّاً ابني خلف، ويَدْعوهم إلى الله تعالى، ويرجو إسلامهم، جاء ابن أم مكتوم الأعمى، فقال: علِّمني يا رسول الله مما علَّمك الله.. فأعرض عنه ﷺ، وأقبل على القوم يكلِّمهم، فنزلت هذه الآيات.. وذهب قوم، منهم مقاتل، إلى أنه إنما جاء ليؤمن، فأعرض عنه النبي ﷺ اشتغالاً بالرؤساء، فنزلت فيه هذه الآيات”[2].
      فحسب الذين ذهبوا إلى كون ابن أم مكتوم جاء يريد الإيمان، بعد التعرف على ما يدعوه لذلك من بيان رسول الله ﷺ، يكون المقصود بالتزكية الإيمان الصادق والإسلام التام لله بنية الالتزام العملي بهديه، ويؤكد هذا المعني قوله تعالى لنبيه عن المشركين الذين أقبل عليهم يدعوهم للدخول في الإسلام “أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى” فواضح أن التزكية هنا أخذ ت مفهوم تحمل أمانة الانخراط في الإسلام عن رضى واقتناع. كما في قوله تعالى:” وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ وَإِلَى الله المصير” فعندما يتزكى الإنسان، يفعل ذلك بدافع الحرص على مصلحة نفسه وخشية الحساب أمام الله، الذي إليه ينتهي مصير كل آدمي، قال سيد طنطاوي في تفسير هذه الآية “أي ومن تطهر من دنس الكفر والفسوق والعصيان. وخص نفسه بالإِيمان، والعمل الصالح، والتوبة النصوح، فإن ثمرة تطهره إنما تعود إلى نفسه وحدها”[3].
      وأول ما تتزكى به النفس إعلانها الخروج من حال الغفلة والضلال والكفر والشرك والعبثية، إلى الاعتقاد في الله الخالق بإرادة صادقة وعزيمة ثابتة، كما أن أول دنس يجب أن تتطهر النفس وتتزكى منه؛ هو دنس الجهل بالله والإعراض عن هديه وحكمته من خلق البشر وتكليفهم بأمانة الاستخلاف في الأرض، قال تعالى:” إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا” (التوبة: 28) فإذا حصلت هذه التزكية على وجهها الصحيح صح ما يأتي بعدها من التزكيات التفصيلية اعتقادا وعبادة وأخلاقا.
2) مكانة التزكية من الدين
      يمكن بيان مكانة التزكية من الدين بعبارة وجيزة، وهي أن التزكية غاية الدين كله، وتوضيح ذلك في النقط التالية:
ـ التزكية أساس الاستخلاف الإيماني
      عندما نتأمل نشأة الاستخلاف نقف على حقائق ساطعة، تبرز المكانة التي ستحتلها التزكية في الممارسة الاستخلافية على الأرض سواء في جانبها المحمود أو المذموم، فالمحمود يكون بتنمية اتجاه الاستقامة والصلاح في النفس بما يجعلها على نهج الإيمان بالله، ومقتدرة على التزام الحق والعدل واكتساب الفضائل وفعل الصالحات ونشر الخير والسلام بين الأنام، والمذموم يكون بالسير في الاتجاه المعاكس بإخضاع النفس للهوى والرذيلة والانحراف بها عن هدي الوحي ومقتضى الفطرة السليمة.
      فقد قدم الله لنا من خلال مشهد الاستخلاف نموذجين تأسيسيين للتزكية الصالحة ممثلة في آدم وحواء والتزكية الفاسدة ممثلة في إبليس. فآدم وحواء وقعا في مخالفة نهي الله لهما بالأكل من الشجرة، والركون لإغواء إبليس بذلك في لحظة غفلة وعدم إدراك لخطورة عصيان أمر الله، وتحذيره لهما من كيد إبليس العدو المتربص بهما لإيقاعهما في معصية الله وإخراجهما من الجنة، فما إن انكشف لهما هول زلتهما حتى بادرا بالاعتراف بظلمهما لأنفسهما بالزيغ عن طاعة الله وتصديق عدوهما إبليس، فسارعا لسؤال ربهما المغفرة والرحمة.
      فلم يتذرعا بأن إبليس هو الذي غرر بهما واستدرجهما للوقوع في المعصية، رغم أن ذلك حاصل ومؤثر معتبر بصريح القرآن[4]، وإنما أقرا بمسؤوليتهما الكاملة عن جرمهما واعترفا بافتقارهما الشديد لأن يتوب الله عليهما ويتجاوز عن سيئتهما الشنيعة.
      وهذا الحدث يؤسس لمعنى التزكية المطالب بممارستها بنو آدم على الأرض، اقتداء بأبيهم أدم وأمهم حواء، والتي تقوم على أساس تنمية الإحساس بثقل المسؤولية عن الأفكار والأفعال والمواقف والاختيارات الاعتقادية والسلوكية، ونبذ الدفاع عن زلات النفس ومحاولة تبرئتها من أخطائها وانحرافاتها الثابتة.
      وبالفعل كان ذلك هو ديدن عباد الله الموفقين في تزكية أنفسهم، من الأنبياء والصالحين ومن سار على نهجهم وتخلق بأوصافهم. فمعظم الرسل حكى لنا القرآن عن اعترافهم بأخطائهم، رغم أنهم ثبتت لهم العصمة فيما يبلغونه عن الله من الوحي المبين. ونسوق مثالا من سلوك موسى عليه السلام عندما وجد رجلين يختصمان، فاستغاثه الذي من شيعته على من هو من عدوه، فوكزه موسى ليزجره فقتله ولم يكن في نيته قتله، وكان حينئذ لم يوح إليه بعد، ومع ذلك لم يتعلل بانعدام نية القتل، وإنما نسب نفسه لفعل عمل الشيطان وإلى الظلم والضلال[5].
      وهذا أبو بكر الصديق الذي لا يخفى قدره ولا ينكر فضله، يوصيه رسول الله ﷺ بأن يكثر من هذا الدعاء، لما سأله قائلا: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال له رسول الله: (قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)[6]
أما إبليس فأسس للتزكية الانحرافية الفاسدة، عندما امتنع عن امتثال أمر الله له بالسجود لآدم، بدعوى أنه لا ينبغي له فعل ذلك، وهو يرى نفسه خيرا وأفضل من آدم، لأنه مخلوق من نار وآدم مخلوق من طين، وهكذا زكى نفسه بما لا يستقيم ولا يصح تجاه أمر الله الواجب التنفيذ دون تأويل،{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ  قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 12 – 17].
      فإبليس في هذا المشهد يؤثر التشبث بأفضليته المزعومة على آدم، معرضا نفسه لغضب الله وعقابه الشديد، وهو يعلم بيقين تبعات تمرده وعصيانه، فلم يتدارك نفسه بالتوبة من ذنبه الفظيع، بل اختار أن يظل صامدا على تزكية نفسه والاستماتة في غيه، ولما أخبره الله بجزائه المستحق في نار الجحيم تمادى في ترفعه على بني آدم، بدعوى أنهم سيقعون جميعا في شباك غوايته، ولن يشكر الله منهم إلا القلة القليلة.
      فهذا النوع من التزكية لا ترى إلا ما للنفس من مزايا موهومة على الآخرين، وتعمى عن إبصار خطاياها ونقائصها الكبيرة وعيوبها الجلية. وإذا دققنا في أسباب هذا الانحراف، وجدناها ترجع إلى ضعف أو انعدام تقدير أمانة صيانة الذات وحمايتها من المهالك والأخطار التي تتهددها، نتيجة سوء استخدام حرية التصرف والاختيار. فعصيان إبليس يجسد بوضوح ممارسة حريته ومسؤوليته، على نحو عرضه للعنة والطرد من رحمة الله وجنته، واستحقاق عذاب جهنم المقيم لمجرد إثبات أفضليته على آدم، وتزكية نفسه بالتمرد على طاعة الله والتكبر عن امتثال أمره.
      ولقد اقتضت حكمة الله النافذة، أن يمنح الشيطان إمكانية دعوة من اختار الزيغ عن هدي الله وشرعه من الإنس والجن، ليسيروا على نهج التزكية المذمومة والخاسرة دنيا وأخرى، برفض الانقياد لدين الله والسير على صراطه المستقيم. وانتحال صفات طاغوتية استكبارية، فيكون حالهم كحال إبليس الذي اعتد بنفسه، وعاند مراد الله مع وعيه التام بفداحة جرمه وبمصير العصاة إلى نار الجحيم.
ـ التزكية مسؤولية صلاح النفس
      إن النفس البشرية هي مجال التكليف الأهم، الذي يمارس فيه الإنسان مسؤوليات الدين الأساسية وأصوله الإيمانية الاعتقادية، التي هي منطلق غيرها من الأعمال القلبية الباطنية والسلوكية الظاهرية، فإذا نجح في تزكيتها لم يعجزه بعد ذلك صلاح ولا فلاح في الدنيا والآخرة، فتزكية النفس هي المدخل الطبيعي لكل عمل خارجها ومتوقف عليها، مما يخص الفرد في ذاته أو يتعداه إلى غيره.
      وكل خطوة يخطوها الإنسان على الأرض، باتجاه أي إنجاز اجتماعي أو حضاري يلزم دينا وعقلا وتجربة، أن تسبقها خطوات ضرورية مناسبة لها على مستوى النفس؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81].
      وقد أكد هذا الاتجاه قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس: 7 – 10]، فهنا بيان ما ركب في نفس الآدمي من قابليتي التقوى والفجور، وتحمله مسؤولية اختيار أحد الاتجاهين، اتجاه الارتقاء في مدارج الكمال والجمال والجلال، والذي سماه القرآن تزكية لأنها تستوعب كل معاني القوة والتنمية، والزيادة والصعود والتطهر والاستقامة والتضحية والإيجابية، والاتجاه الآخر المقابل وهو اتجاه الانتكاس والانحطاط، والتردي إلى دركات الدونية والخسران والعجز والبشاعة والوضاعة، والذي سماه القرآن التدسية، والتي تشمل كل معاني النكارة والعماية والكبت والنقصان والتراجع والانحدار والسلبية.
      قال ابن قتيبة في هذه الآية: “يريد أفلح من زكى نفسه، أي نماها وأعلاها بالطاعة والبر والصدقة واصطناع المعروف، وقد خاب من دساها أي نقصها وأخفاها بترك عمل البر وركوب المعاصي، والفاجر أبدا خفي المكان.. غامض الشخص ناكس الرأس، فمرتكب الفواحش قد دس نفسه وقمعها، ومصطنع المعروف قد شهر نفسه ورفعها”[7].
      ولقد أوضحت الآية أن ترقي الإنسان وفلاحه وسعادته، لا يدرك شيء منه إلا بسلوك مسلك التزكية على هدي القرآن والسنة، وأن أي اتجاه آخر غير اتجاه التزكية يؤدي حتما إلى انطماس النفس وانحرافها وشقائها وخيبتها.
ـ التزكية مهمة الرسل عليهم السلام
      فقد أكد القرآن هذه المهمة لخاتم الرسل عليهم السلام فقال:”لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُومِنِينَ إِذ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ”. (آل عمران: 164). فورود التزكية بعد تلاوة آيات الله مباشرة، وقبل تعليم أحكام الكتاب العملية وكذا الحكمة، وهي أسرار تلك الأحكام ومقاصدها، دليل على أنها في هذا السياق لا تعني إلا إعطاء النفس ما يلزم من أساسيات الاعتقاد في وحدانية الله وأنه الخالق المدبر لكل أمر، والملك المحاسب للخلق والمثيب للمحسنين والمعاقب للمسيئين.
      وهكذا يتضح أن التزكية تنطلق مع الإيمان في حالته الاعتقادية وتنمو معه عبر مقتضياته العملية، وليست دائما تالية له أو متحققة ضرورة بعده، عندما يسعى المكلف إلى ذلك ويجاهد نفسه عليه. فهذه الصورة الثانية هي ما ترسمه الآية الموالية:”رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” (البقرة 129)، والذي يتبادر إلى الفكر من هذه الآية حسب موقع التزكية فيها بعد تلاوة الآيات وتعليم الكتاب والحكمة، أن المقصود بالتزكية هو نفخ روح الإخلاص ومراقبة الله واستشعار جسامة الأمانة أمامه والافتقار إليه، في قلب المؤمن إزاء جميع مشمولات الدين من عقيدة وعبادات ومعاملات وأخلاق. وهذا المفهوم الأخير هو الغالب في معنى التزكية وهو لبها وغايتها، وليست تصورات تسكن الذهن فحسب أو أفعال لها ظاهر العبادات والذكر والطاعات المشروعة، وهي خالية من صدق القصد وإخلاص التوجه إلى الله، واستشعار الرهبة من عذابه في النار، والرغبة في نعيم الخلد ونيل الفوز بحياة الجنان الباقية.
      ولقد كان مشركو قريش يرفضون النطق بالشهادتين ليقينهم بما تعنيه من انقلاب شامل في معتقداتهم وسلوكهم ونظرتهم إلى الوجود. ومما يؤكد هذا الفهم أن بعض الناس تعلموا الإسلام الصحيح، وما ينطوي عليه من انقياد تام لأمر الله وإدراك صحيح لمراده من العباد، وتطهر كامل من المعتقدات الباطلة والأخلاق الجاهلية، والاستمساك بهدي الوحي المبين، واستعداد كبير للتضحية بالنفس والنفيس في سبيل الله، وكل ذلك حصل ضربة واحدة مع إعلان الدخول في دين الله عن اقتناع ويقين بأنه الحق والرشد.
      فهؤلاء سحرة فرعون أدركوا لب دين الله من حادث المواجهة مع موسى،  واكتشفوا أن انقلاب عصاه حية ليس من السحر في شيء،  وإنما هو معجزة مؤيدة من الله لصدق رسالته، فأعلنوا إيمانهم بدين موسى ولم يعبئوا  بتهديد فرعون وتعذيبه إياهم، “وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى  فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى  قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى  قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا  إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى” (طه 69 ـ 73)
      فتزكية نفوسهم من عمل السحر، ومن تأليه فرعون والخنوع والخضوع لجبروته وضلاله، حصلت دفعة واحدة مع تبين الحق وجلائه أمام أنظارهم، كما أن استشعارهم ثقل الأمانة بين يدي الله ارتفع إلى أعلى مستوياته، فحملهم على النطق بالحق صريحا مجلجلا وإبداء الاستعداد للالتزام به، وتحمل كل النتائج المترتبة على ذلك بإصرار وثبات.
ـ التزكية غاية جميع أوامر الشرع ونواهيه
      لقد تضافرت النصوص الشرعية على استهداف تزكية النفس، من وراء الائتمار بجميع الأوامر مفروضها ومندوبها، والانتهاء عن جميع المنهيات محرمها ومكروهها، وبيان ذلك:
أـ الإيمان الذي هو أصل الإسلام وأول أركانه، هو أعظم ما يزكي القلب من رجس الشرك والضلال والجهل بالله ومراده من الخلق، وتعريفه بمسؤوليته بين يدي الله تعالى.
ب ـ والصلاة التي هي عماد الدين، تعد بعد ذلك خير ما يزكي النفس ويطهرها من الأدران والنزوع إلى المناكر، قال تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] وقال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]، قال ابن عطية: وعندي أن المعنى ولذكر الله أكبر على الإطلاق، أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك، وكذلك يفعل في غير الصلاة، لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر لله مراقب له، وقال الرسول ﷺ “أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا”.[8]
ج ـ وأما الزكاة وغيرها من النفقات التطوعية، فمقصدها الأول هو تزكية النفس وتطهيرها لقوله تعالى: “خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها”. (التوبة103).
د ـ والصوم المفروض والمسنون يزكي النفس ويزيد من تقواها، كما هو منصوص عليه في القرآن الكريم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]
ھ ـ والحج والعمرة يشتملان على مناسك متعددة، ذات أثر عميق في تزكية النفس وتنمية إيمانها واستقامتها، {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ } [البقرة: 197]، وكل الطاعات والعبادات المشروعة والأخلاق الحميدة المطلوبة، تعتبر وسائل متكاملة لتحقيق تزكية النفوس واكتسابها الكمالات البشرية المتاحة.
ثانيا: التزكية بين المفروض والمرفوض
تنقسم التزكية إلى نوعين: نوع مفروض يجب السعي لتحقيقه قدر المستطاع؛ من خلال ممارسة الأمر والنهي الشرعيين، ومفهوم مرفوض يجب التفطن للوقوع في صوره العديدة، والتي تؤدي إلى الاستئناس بالرضى عن النفس واستحباب مدحها والذهول عن معايبها.
1) التزكية المفروضة
      يدور مدلول التزكية حول معاني النماء والطهر والبركة والصلاح، وإذا أطلقت التزكية قصد بها في الغالب تنمية ذات الإنسان في شقها النفسي، حيث القلب المخاطب بتربية الرسائل السماوية وهديها، والتدرج في مراتب الإيمان والإحسان باكتساب أوصافهما الحميدة وأخلاقهما العالية.
      ويدل على فرضية التزكية أن الله ربط فلاح الإنسان بحصولها، وخيبته وخسرانه بتركها في قوله تعالى:”وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا” (الشمس7- 10) وجاء ذكر الفلاح مرتبطا بالتزكية إلى جانب أداء أركان الإسلام ومفروضاته، في مواضع عدة من القرآن منها “قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى” (الأعلى14 ـ 15)
      أورد ابن الجوزي: في قوله تعالى: {مَنْ تزكى} خمسة أقوال: أحدها: من تطهَّر من الشرك بالإيمان، وهو قول ابن عباس، والثاني: من أعطى صدقة الفطر، والثالث: من كان عمله زاكياً، والرابع: أنها زكوات الأموال كلّها، والخامس: تكثَّر بتقوى الله.
      وأما في قوله تعالى: {فصلَّى} فذكر ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الصلوات الخمس، وهو قول ابن عباس، والثاني: صلاة العيدين، والثالث: صلاة التطوع. ثم قال:”والقول قول ابن عباس في الآيتين، فإن هذه السورة مكية بلا خلاف، ولم يكن بمكة زكاة، ولا عيد” [9].
      فالتزكية التي تتم عند التسليم بأصول الدين الاعتقادية، متبوعة بأداء مفروضاته ومسنوناته تعد من أولى تكاليف الدين وأهمها، وليست أمرا تكميليا أو مندوبا إليه غير ملزم، كما قد يتبادر إلى الذهن في غياب التحقيق والتدقيق.
      ويرتبط  فلاح المكلفين بعد الإيمان،  بفعل المفروضات المختلفة وإتقانها، كما هو واضح من الآيات:”قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ  الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ  وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ  وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ  وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ  إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ  فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ  وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ  وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ  أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ  الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ” (المومنون1- 11)
      فقد اشتملت هذه المفروضات على الإيمان والعبادات (الصلاة أساسا التي ذكرت مرتين لأهميتها في تحقيق التزكية ثم الزكاة) والأخلاق (الإعراض عن اللغو والعفة عن الفواحش) والاستشعار الدائم لمراقبة الله وممارسة مختلف المسؤوليات (الوفاء بالأمانات والعهود ورعايتها)، “والعهود: جمع عهد. ويتناول كل ما طلب منك الوفاء به من حقوق الله – تعالى – وحقوق الناس”[10].
      وبين القرطبى بأن الأمانة والعهد يجمعان كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه، قولاً وفعلاً، وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك. وغاية ذلك حفظه والقيام به. والأمانة أعم من العهد[11]، ويقول سيد طنطاوي: “من صفات هؤلاء المفلحين. أنهم يقومون بحفظ ما ائتمنوا عليه من أمانات، ويوفون بعهودهم مع الله – تعالى – ومع الناس، ويؤدون ما كلفوا بأدائه بدون تقصير أو تقاعس، وذلك لأنه لا تستقيم حياة أمة من الأمم. إلا إذا أديت فيها الأمانات، وحفظت فيها العهود، واطمأن فيها كل صاحب حق إلى وصول هذا الحق إليه”[12].
      فالذين يحرصون على أداء العبادات والإكثار منها، ثم إذا أقبلوا على غيرها من الأمانات مثل البيع والشراء ومزاولة الحرف، والنصح فيما وكل إليهم من مهام ضيعوها وتقاعسوا في النهوض بها، لا يصنفون في عداد المتزكين وبالتالي لا يعدون من الفالحين؛ لكونهم راموا أشكال الطاعات ولم ينفذوا إلى لبها ويستوعبوا غايتها، فربما تكاثرت صلواتهم وزادت أذكارهم، لكن قلوبهم لم تنم فيها مراقبة الله وخشيته واستعظام حقوقه وواجباته.
      يقول ابن قيم الجوزية: (فيتغذى القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويقويه ويؤيده ويفرحه ويسره وينشطه ويثبت ملكه، كما يتغذى البدن بما ينميه ويقويه، وكل من القلب والبدن محتاج إلى أن يتربى فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح، فكما أن البدن محتاج إلى أن يزكو بالأغذية المصلحة له والحمية عما يضره، فلا ينمو إلا بإعطائه ما ينفعه ومنع ما يضره، فكذلك القلب لا يزكو ولا ينمو ولا يتحقق صلاحه إلا بذلك، ولا سبيل له إلى الوصول إليه إلا من القرآن، وإن وصل إلى شيء منه من غيره، فهو نزر يسير لا يحصل له به تمام المقصود).[13]
      فنماء القلب إنما يكون بفعل الطاعات واجتناب المعصيات، وزيادة خشية الله ومحبته، والحذر من مخالفته فيما دق أو جل من أمره، والمداومة على ذلك بوتيرة ثابتة، حتى يتخلص من أدرانه وعيوبه المعيقة لحيويته، ويكتسب تعظيم الأمانة الملقاة على عاتقه، والرهبة من هول يوم المحاسبة عليها في الدار الآخرة.
     والنفس لها قابلية التحول والتسامي والتنمية بالإيمان والعمل الصالح، كما لها قابلية التردي والانحطاط والتدني بالكفر وفعل القبائح والسيئات، أكثر مما للجسد قابلية النمو بالتغذية الجيدة والعناية الصحية، وقابلية الضعف والسقم والضمور بتناول الأغذية الفاسدة، وإهمال الوقاية والنظافة والعلاج.
      والمسلم مطالب بتحصيل التزكيتين لما يوجد بينهما من الارتباط القوي، حيث كل منهما تعين على تحقيق الأخرى، وتتضافران وتتوحدان لإخراج الإنسان القوي الأمين القادر على إنجاز الأعمال الصالحة النافعة له وللناس من حوله في الدنيا والآخرة.
فالاضطلاع بمهام الاستخلاف الإسلامي على أحسن حال تتطلب شرطين أساسيين هما:
ـ الأمانة وأخلاقها وتحصل بتزكية النفس عن طريق العلم بالله وبشرعه والعمل بهديه.
ـ والقوة وتضم سلامة البدن وصحته، واكتسابه للمهارات والقدرات والكفاءات الضرورية للعمل والإنجاز، إلى جانب ما يمكن إعداده من أسباب القوة المادية، وما يتأتى تسخيره من التجارب البشرية في ميدان الصناعة والعمران.
      وتمت الإشارة إلى هذين الشرطين في القرآن الكريم على لسان ابنة شعيب وهي تحدث أباها عما خبرته لدى موسى عليه السلام “قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ” (القصص 26). وعلى لسان يوسف عليه السلام حينما طلب إدارة مالية الدولة من ملك مصر لأنه مستوف للشرطين المطلوبين “وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ” (يوسف 54 – 55).
     ونفس الشرطين توفرا في طالوت وأهلاه للملك والقيادة في بني إسرائيل خلافا لما اشترطوه من السعة في الثروة والمال، “وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ” (البقرة 247)، فقد زكى الله قلبه بالعلم الرباني والاصطفاء لخدمة مصالح البلاد والعباد الفردية والجماعية، وزكى جسمه بما بسط فيه من القدرات اللازمة للقيادة الناجحة.
      من هنا نتبين الخلل الشائع في ممارسة التزكية في الواقع المعاصر؛ بحصرها في جانبها النفسي وإهمال تزكية الجسم بمزاولة الرياضات البدنية، حيث تراجع استخدام الناس لعضلاتهم بعد أن عوضتها الآلات والماكنات المختلفة.
      وكان رسول الله ﷺ يسأل الله التوفيق في تزكية نفسه وهو النبي المعصوم فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والهرم والجبن والبخل وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع ودعوة لا يستجاب لها)[14].
      ففي هذا الدعاء تعوذ من أحوال ضعف الذات روحا وجسدا، والتي تفضي بها إلى التدسية وما تشمله من التراجع والوهن وانحدار القدرة والعطاء، وتعوذ من نتائجها في الآخرة خاصة عذاب القبر الذي قد يكون عقابا عن تقصير في القيام بواجبات هامة، وانتهاك محظورات كبرى نتيجة العجز والكسل والهرم والجبن والبخل، والتي لا يقتصر أثرها على تدني قدرة الذات في إحراز مكاسب مادية في الحياة الدنيا، وإنما فوق ذلك تمنع من فعل مأمورات واجتناب منهيات شرعية جالبة للخسران الأخروي.
وسؤال رسول الله ﷺ التقوى والتزكية معا لأن التقوى جزء أساسي في التزكية باعتبارها قدرة النفس خاصة على مجانبة المعاصي والآثام،  مع قدرتها على فعل الطاعات والمبرات، لكن التزكية تشمل قدرات وأوصافا أخرى زيادة على التقوى، والله وحده المزكي للنفس البشرية كما هو واضح في قوله سبحانه: “بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ” (النساء 49)، ثم تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من موانع التزكية الأشد من الأولى وهي القلب الذي لا يخشع والنفس التي لا تشبع والعلم الذي لا ينفع والدعاء الذي لا يستجاب، فالتزكية ترمي إلى رفع كل هذه العوائق وإطلاق طاقات الروح لكي تخشع وتقنع وتَسمع وتُسمع من ربها حال ضراعتها له سبحانه.
2) التزكية المرفوضة
      وللتزكية مفهوم آخر مذموم وهو المدح، أي مدح النفس، المنافي تماما للأساس الذي تقوم عليه التزكية، وهو نكران الذات ومخالفة هواها، ومداومة اتهامها بمجانبة الصواب والتقصير في أداء الواجبات، قال تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 49]، ومن الانحراف الشائع في الآدميين ابتداعهم مناهج للتزكية لا أساس لها من هدي الوحي، يتبوؤون بها مكانة موهومة بين الناس تحتوي على تصورات باطلة وسلوكات مشينة ترفضها الفطرة السليمة وتحظرها تعاليم السماء، “وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشد، فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة التي لم يجئ بها الرسل فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب فالرسل أطباء القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم وعلى أيديهم وبمحض الانقياد والتسليم لهم[15]
      فتزكية النفس ولو انطلقت على نهج رباني فهي معرضة باستمرار للزيغ عن حقيقتها وغاياتها، والانزلاق إلى العلل النفسية والآثام الموبقة، التي يلزم التطهر منها مثل الكبر والعجب والغرور وكل صور الأنانية المقيتة؛ التي هي أصل كل نقيصة وخطيئة، حيث تجعل الإنسان واقعا في الزلل والانحرافات الشنيعة التالية:
ـ الميل إلى تنزيه الذات عن النقائص والعيوب أو استصغار شأن تلك العيوب، مقابل تتبع أخطاء الناس واستعظامها والاستماتة في استقباحها، وإسقاط أعذارهم في اقترافها وحسن الظن بالنفس واستقلال عيوبها، ورؤية قدرها فوق أقدار الآخرين، والتطلع إلى ثناء الناس وتقديرهم إما لعلمه أو منصبه أو عبادته. ومن علامات أهل العلم النافع أنهم لا يرون لأنفسهم حالا ولا مقاما ويكرهون بقلوبهم التزكية والمدح ولا يتكبرون على أحد.
ـ الإمعان في تبرئة النفس من مسؤولياتها القائمة، ونفي صلتها بها أو التهوين من نصيبها فيها، عند افتقاد مسوغات إنكارها واستبعادها بالمرة، “قيل لحكيم: ما الصدق القبيح: فقال: ثناء المرء على نفسه”[16] وإلى جانب ذلك يميل إلى الحرص على استعراض مسؤوليات الآخرين دون كلل أو ملل، ودون أدنى تحر أو تحقيق والحكم بتقاعسهم في القيام بها.
ـ الوقوع نتيجة الاتجاهين السابقين في الاستئناس بأحوال النفس الوضيعة لعدم إبصار وضاعتها، والعزوف بسبب ذلك عن القيام بأي محاولة جادة لإصلاحها وتطهيرها من أدرانها.
      وتزكية النفس عن طريق الرضى بما هي عليه من طاعة واستقامة، حالة معرقلة لمواصلة التزكية الحقة، وارتداد عن نهجها الذي يروم تحقيق سمو النفس، والذي لا يتأتى إلا بإدمان اتهامها وإبصار نقائصها وجوانب تقصيرها في القيام بالواجبات عينية وكفائية، والورع عن الممنوع حرمة وكراهة، وارتقاء المراتب العليا للإحسان والكمال، والتي مهما جد المرء في طلبها وتيسرت له أسبابها، ازداد يقينه بأنها غاية لا يدركها من بني البشر إلا الأنبياء والمرسلون.
      قال سهل بن عبد الله التستري: “شيئان يذهبان خوف الله من قلب العبد: أصل الدعوى والمعصية. وصاحب المعصية إذا خوفته واحتججت عليه بالإيمان ينقاد ويخضع ويقر بالخوف. وصاحب الدعوى لا يقر بالحق ولا ينقاد للخوف البتة. ولا يوجد قلب أخلى من الخير ولا أقصى ولا أبعد من خوف الله من قلب المدعي. وقال: أصل الهلاك الدعوى وأصل الخير الافتقار”[17]. ولذلك فإن الابتهاج بفعل الطاعة قد يكون أضر على النفس من ارتكاب المعصية، لما يمكن أن يتطور إليه من تزكية النفس والرضى بحالها.
3) ارتفاع مستوى التربية على التزكية تبعا لدرجات المسؤوليات المجتمعية
      إن تزكية النفس تعد غاية التربية الإسلامية، الرامية إلى التدرج بالإنسان في مراقي الإيمان والعبودية الكاملة لله الخالق العليم، وذلك بتحرير النفس من أغلال أهوائها وغوائل عيوبها، وجعلها مؤثرة لطاعة ربها متحرية لتقواه، مراقبة له في السر والعلن.
      وهذه المزايا لا يمكن اكتسابها بغير نهج التزكية، الذي يمثل لب الإسلام عقيدة وعبادة وأخلاقا، فما أن يخلو المنهج التربوي المتبع من حقيقة التزكية، حتى ينعكس في السلوك أثر ذلك ضعفا أخلاقيا، وتراخيا في العبادات، وفتورا في استشعار ثقل المسؤوليات والوفاء بالالتزامات.
      فالتزكية بهذا الاعتبار غاية كل مسلم، حريص على اتقاء شر نفسه والفوز بالجنة والنجاة من النار، ولا يمكن عدها أمرا مستحبا تمارسه الخاصة من المومنين، ولكنها أسلوب السير على درب الإيمان يتنقل المكلف في مراتبها على قدر استطاعته، وبحسب المهام والمسؤوليات العامة الموكولة إليه والواجب عليه النهوض بها دون تردد أو تهاون.
      فكلما رام المؤمن تحمل أمانات عامة داخل المجتمع اختيارا أو تكليفا، تأكدت لديه الحاجة إلى إيلاء تزكية نفسه جهدا وعناية كبيرين، ومن ثم فإن المتصدي لتربية النشء أو دعوة الناس وإرشادهم لخيري الدنيا والآخرة، أشد ما يكون حاجة لأخذ نفسه بالتزكية والإصلاح، حتى تزكو أفعاله وأقواله وأفكاره بقدر زكاة نفسه، وتستقيم بحسب استقامتها وصلاحها، ويكون مثلا يقتدي به مَن دونَه.
      وأصل ذلك في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن عبادته لله كانت زائدة عن عامة أمته، وكانت بعض الطاعات واجبة عليه وحده من دون الناس، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا  نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا  إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا } [المزمل: 1 – 6]، فملازمة التزكية فضلا عن كونها غاية الدين ووسيلة في إعداد النفوس المؤمنة والسوية، فإنها هي الأساس المتين لتسديد اتجاه كل صلاح فردي أو إصلاح جماعي شامل لأحوال البلاد والعباد، والضامن لإحكام صلته بهدي الإسلام وتوجيهاته الربانية، وإدامة الإخلاص لله ولرسوله ولدينه وللأمة الإسلامية.
ثالثا: التربية على التزكية بممارسة المسؤوليات
      إن علاقة التربية على التزكية بتحمل الأمانة وأداء ما يتفرع عنها من مسؤوليات علاقة تلازمية، فكل منهما يحتاج للآخر ويؤدي إليه، فالتزكية الصحيحة تسلم حتما إلى تنمية التوجه التكليفي في النفس، ومنحه قوة دافعة، وحماسا متجددا، وصونه من الزيغ عن أهدافه أو التراجع أمام التحديات وابتلاءات الطريق، وتوضيح ذلك:
1) إن أنجع الوسائل التربوية لممارسة التزكية هي تحمل الأمانات والاضطلاع بالمسؤوليات، والتحرك برسالة الإسلام ومن أجلها وعلى ضوء هديها، فالأنبياء عليهم السلام والصالحين من عباد الله عبر التاريخ، كانوا أصحاب رسالة متميزة، جعلتهم يحققون منجزات باهرة فيها صلاح البلاد والعباد، وعند إمعان النظر في سيرهم نجدها زاخرة بمظاهر الرسالية العميقة، ومفعمة بروح المسؤولية والأمانة العظمى.
2) إن أداء التكاليف الشرعية المتنوعة، يعود النفس الالتزام بشرع الله، والوقوف عند حدوده والتوجه وفق تعاليمه الربانية، فتكتسب به قدرات إنجازية كبيرة، وطواعية راسخة لتحمل أعباء جديدة، والانتقال من الانهماك المحصور في فروض العين إلى الانشغال بفروض الكفاية، والتدرج من إتقان المسؤوليات الفردية إلى النهوض بالمسؤوليات الجماعية، والاجتهاد في إنقاذ الناس من شقاء الدنيا وخسران الآخرة، بقدر الحرص على خلاص النفس وإسعادها.
3) مواجهة الفـتن والابـتلاءات: إن كــل فتنــة تعــرض علــى الــنفس فتتحملها بثبــــــات علــــــى الاستقامة وإيثار مرضاة االله والحذر مــن ســخطه وعذابــه، تكــسب القلب قدرة إضافية على التقـوى والعفـــة والـــورع؛ ممــــا يجعلـــه لا يضعف أمام الـشهوات ولا يلـين أمام الأطماع والمغريـات المحظـورة، وقد بين الله تعالى في قرآنه بأن صحة التزكية، والتي من ثمارها تجاوز الفتن والابتلاءات بنجاح واقتدار، غاية لا تدرك إلا بتوفيق وعون من الله، “يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” (النور: 21).
      إن الإنسان لضعيف، معرض للنزعات، عرضة للتلوث بالانحرافات. إلا أن يدركه فضل الله ورحمته. حين يتجه إلى الله، ويسير على نهجه، فنور الله الذي يشرق في القلب يطهره ويزكيه. ولولا فضل الله ورحمته لم يزك من أحد ولم يتطهر. والله يسمع ويعلم، فيزكي من يستحق التزكية، ويطهر من يعلم فيه الخير والاستعداد[18].
      وعن حذيفة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها، نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز، مجخيا لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه»[19]
      وهذه الـصفة لا تتحقــق إلا فــيمن يواظــب علــى الأمــر بــالمعروف والنهي عن المنكر، فهو إذا لم يستجب لأمـره ونهيـه من يتوجه إليهم بالخطاب، فإنه يجنـي مـن وراء ذلـك تحصين نفسه من المناكر، وحثها على فعل المعـروف وتزكية قلبه، فيتقـوى علـى مجابهـة الفـتن والخـروج منها طاهرا مظفرا.
أمــا الابــتلاءات فتحمــل الــنفس علــى توظيــف مـا اكتسبته من قوة الإيمان واليقين وحسن الظـن بالله، ومـا تحلـت بـه مـن الـصبر والرضـى بقـدر االله ورجــاء لطفه وفضله وإحسانه دنيا وأخرى؛ فــالابتلاءات والفــتن محــك فعال فــي تمحــيص النفوس وكشف مستوى ما نالتـه مـن التزكيـة، وما تتـوفر عليـه مـن ثمارهـا ونتائجهـا، فهـى مناسـبة للتعرف على ما تحقق للنفس على طريق التزكية وما لم يتحقق بعد، مما يدفع بـالمكلف لمـضاعفة العمـل وإعادة النظر في أمره وتصحيح سيره إلى االله.
4) يعد ذكر الله بمفهومه الواسع، الذي يضم التسليم بنظام الله المدبر للحياة البشرية، والموحى به للناس على أيدي الرسل الكرام، والمفصل في العقيدة والعبادات والأخلاق، إلى جانب التفكر في آيات الله المتلوة في القرآن الكريم، والمنشورة في الأنفس والآفاق ولزوم التسبيح والدعاء والاستغفار، هذا الذكر أهم وسائل التزكية لما يتولد عنه من تذكر لله وحسابه الشديد، المفضي إلى العذاب المقيم في الجحيم أو التنعم في جنات الخلود، مما يزيد النفس رهبة من العقاب ورغبة في الثواب، ويجعلها تقتنع بأن الاكتفاء بالواجبات الفردية قد لا ينجيها يوم الحشر، فتندفع إلى القيام بالواجبات الشرعية العليا، الكفيلة بتصحيح سير الأمة إلى ربها واسترجاع احتكامها إلى شرعه في شؤون الحياة كلها.
      كما ترسخ بالذكر والتذكر رسالة المسلم في الحياة، وتزداد وضوحا في الفكر وانفعالا في الوجدان، فيتواصل اقتناعه بربانيتها ومشروعيتها، وملاءمتها لواقع البشرية على مدى الزمان والمكان.
5) تتحقق التزكية في جانبها الأكبر بمجاهدة النفس المتضمنة للقيام بالطاعات المفروضة بإحسان وإتقان، والتطوع بالنوافل جهد المستطاع، واجتناب الكبائر واتقاء معظم ما يمكن من الصغائر، ثم إنها تقوم مع ذلك على منهج التخلية والتحلية، القاضي بحمل النفس تدريجيا على التخلص من أهوائها المنحرفة، وعاداتها المشينة وآفاتها المذمومة، وترويضها على الاتصاف بالمزايا الحميدة والأخلاق الرفيعة، وهو مالا مناص منه للعبد لتحقيق صلاح نفسه، قبل روم المساهمة بقدر ولو يسير في صلاح مجتمعه، لما يكون عادة في أعمال الطاعات من الارتباط الوثيق بين صلاح الفرد وصلاح الجماعة.
      لكن تحقيق الاتصاف بالرسالية يحتاج زيادة عن هذا الحد، إلى مستوى أعلى من المجاهدة على نوع خاص من التخلية والتحلية يتمكن بها من اكتساب أخلاق الأمانة، والتي نجملها فيما يلي:
ـ نبذ التملص من المسؤوليات المتعينة في حق الذات، والإقرار بها سرا وعلانية والاعتراف بالتقصير فيها إن وجد دون تردد أو تبرير، بل واعتبار حظ النفس في المسؤوليات المشتركة هو أوفى حظ، لأن هذا الأسلوب هو أنجح وسيلة لتطهير النفس وشفائها من آفات تبرئة الذات (أو تزكيتها بالمعنى المذموم).
ـ الاتصاف بأخلاق الأمانة ومنها: ارتفاع حس المسؤولية، وذلك من خلال ضبط المواعيد، الوفاء بالعهد، ترك التسويف، الوفاء بالالتزامات، الصدق في الوعد، عدم اشتراط قيام الآخرين بمسؤولياتهم للقيام بالواجبات المترتبة على النفس أو المتعهد بها، اتهام النفس دوما والتماس الأعذار للآخرين فيما أخلوا به.
ـ التأسي بالأحياء من ذوي النفس الرسالي فيما يحسنونه من المهام دون سواه الذي قد يؤدي اعتبار فشلهم فيه إلى إحباط النفس وتثبيط عزيمتها، والاعتماد في الاقتداء على الأنبياء المعصومين وأهل الصلاح والاستقامة من سلف الأمة الأبرار.
6) تأسيس التزكية على العلم الصحيح بالدين، كما هو مبين في القرآن الكريم قال الله تعالى: “إنما يخشى الله من عباده العلماء” (فاطر28) وقال أيضا: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]، فالعلم المبني على الفهم السديد والدليل الشرعي والقياس الصحيح، مانع للتزكية من التحول إلى عكس مقاصدها الحميدة، من الاسترشاد ببيانات الوحي وتوجيهاته الحكيمة، الهادية بمنطقها وروحها إلى ما يبصر الإنسان بمهامه الأساسية في الحياة، وما يندرج فيها من مسؤوليات مختلفة بعيدا عن أي تهوين أو تهويل أو تواكلية أو ابتداع من أي نوع كان، قال رسول الله ﷺ فيما يرويه ابن عمر رضي الله عنهما: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين”.[20]
رابعا: برنامج التزكية
      إن أي برنامج للتزكية المتوازنة لا بد أن يشتمل على المكونات الأساسية التالية:
1) إتقان الفرائض والاجتهاد في النوافل فمن يروم تزكية نفسه، عليه أن يبدأ بما يلح عليه الشرع ويقدمه من المفروضات التي عدها الشرع أولى درجات الفلاح في الدنيا والآخرة، وأقوى وسائل التزكية بدءا بالعقيدة الصحيحة كما هو واضح من قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 17 – 19]، وكل زيادة في النوافل المندوبة، يلزم أن تنعكس عليها بمزيد الإتقان والإحسان، كما أن النوافل داعمة للفرائض بحيث تكون المواظبة عليها معينة على حسن تقدير الفرائض، وإيلائها ما يلزم من العناية الزائدة عما يجب للنوافل، ثم إن اعتياد الجمع بينهما يقف بحالة الفتور الطارئة على عبادة الشخص عند حدود النوافل، ويحول دون تضييع الفرائض أو النزول عن الدرجة الدنيا من التزكية.
2) ملازمة ذكر الله آناء الليل وأطراف النهار والقدر المجزئ منه هو تلاوة ورد من القرآن في كل يوم مع شيء من التدبر، كما أن مدارسة سنة رسول الله ﷺ تأتي في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم، ثم التسبيح والاستغفار والأدعية المأثورة.
    وإذا كان بالقلب نبض حياة تذكر واتعظ، واعتبر بكل ما تقع عليه العين، ويستوعبه الفكر، ويجيش به الوجدان.
3) التفكر في آيات الله في الأنفس والآفاق والذي يأخذ صورا متعددة منها على سبيل المثال: مدارسة سير الأنبياء، والمعجزات التي أجريت على أيديهم، والتأمل في مصائر الطغاة والجاحدين والمعرضين عن هدي السماء والاعتبار بتاريخ ومصائر الأقوام والأمم الصالحة والفاسدة قديما وحديثا، واغتنام كل فرصة متاحة لمتابعة البرامج التلفزية والرقمية على النت، التي تبحث في عجائب الكون والمخلوقات في البر والبحر، ويحسن تسجيلها ومشاهدتها على فترات متقاربة، وأولى هذه المواد بالمتابعة تلك التي لها أثر بليغ في تقوية الإيمان بربانية مصدر القرآن، وتأكيد حقائق الإسلام وصدق رسالة النبي الخاتم وغيره من الرسل عليهم السلام.
4) تخصيص سويعات لذكر الموت والحساب وما أعد للعصاة من العذاب الأليم في نار الجحيم، وما أعد للطائعين من المتاع الأبدي في رحاب الجنان، والاعتبار بزوال الدنيا وفناء ملذاتها مع بقاء الأعمال حسنها وسيئها التي هي موضوع الحساب يوم القيامة، المفضي إلى الثواب أو العقاب، والحرص على السير وراء الجنائز وزيارة المقابر مرتين في الشهر على الأقل. قال رسولُ الله ﷺ: “أكثروا ذكر هادم اللَّذات الموت”[21].
5) تعميق المعرفة بالنفس البشرية وآفاتها ورعوناتها وطرق إصلاحها ومداواتها وتزكيتها ومجاهدتها، وفق توجيهات الشرع الحكيم واجتهادات العلماء الربانيين وأئمة الدين المهتدين، والإلمام بمداخل إبليس وتلبيساته وتزييناته، وكيفيات مواجهاتها وصون النفس من مكرها، وموازاة مع ذلك يولي اهتمام خاص لمعرفة الله تعالى بأسمائه العلى وصفاته الحسنى، كما حدثنا سبحانه وتعالى عن نفسه في كتابه، وحدثنا رسوله ﷺ في صحيح سننه.
6) مجاهدة النفس انطلاقا من الاعتراف الصادق بعللها والسعي الحثيث لكشف نقائصها وتقصيرها في تحمل الأمانات وأدائها بإحسان، والتزام محاسباتها بما يتطلبه إصلاحها من الحزم والجدية، والاعتماد في ذلك على مبادئ أصيلة في التربية الإسلامية وهي لوم النفس كلما مالت إلى الانسلاخ من مسؤولياتها، وعند محاولة إثبات مسؤولية الآخرين ومخالفة هواها الذي يشذ بها عن جادة الحق وهديه المبين؛ فلكل شخص مهما استقام سيره على الصراط المستقيم زلات وعيوب، عليه أن يحذر من اختفائها في خضم حسناته وتواريها وراء صالح أعماله وكريم خصاله، أخطرها وأخوف ما يخشى منها على العلماء العاملين والدعاة المرموقين والزهاد المتبتلين والمنتمين إلى الحركات الإسلامية الكبرى، هو تزكية النفس باستبعاد وقوعها في فهم خاطئ لقضية معينة، أو الركون إلى رأي مرجوح أو اجتهاد معلول، أو تبرئة النفس من أي تقصير في المسؤوليات المترتبة عليها، وثاني ما يخشى على من أكرمه الله بالانتماء لإحدى هذه الفئات هو استئناس النفس بما تحصله من مكاسب دنيوية من وراء تدينها وسعيها لإعلاء منهج الإسلام في الأرض، وانقلابه إلى محرك أساسي لجهادها واجتهادها.
7) طلب الزيادة من التفقه في الدين وأقل درجاته ما يصح به فهم أساسيات الدين ومقاصده العامة وروحه المتميزة، مما تكون به النفس أقرب إلى إدراك مسؤولياتها الشرعية في هذه الحياة والتي تناط بها سعادتها دنيا وأخرى، وأبعد عن الغفلة عنها أو التهاون في أدائها.
  ويستعان على ذلك بدراسة منهجية للعقيدة والعبادة والمعاملات والأخلاق وغيرها من مجالات المعرفة الإسلامية، في ضوء ما يعرفه الفكر الوضعي من تيه وخبط ومن جوانب الرشد والصواب.
8) إيجاد بيئة صالحة للتزكية، بيئة يشيع فيها نفس التطهر ومجاهدة النفس، ويعم فيها التواصل بالاستقامة على الدين والتنافس في اكتساب الأخلاق الكريمة والصفات المثلى، والتسابق إلى
فعل المبرات وإنجاز الصالحات، وهذا يتأتى باتباع الخطوات الآتية:
ـ اتخاذ سويعات إيمانية يركز برنامجها على مواضيع معالجة آفات النفس، وشحذ الهمم وتقوية العزائم لضمان الاستمرار في طريق الصلاح والإصلاح.
ـ اعتماد برنامج فردي يشتمل على مختلف الطاعات المفروضة والمسنونة؛ من صلاة وإنفاق وصيام وتلاوة القرآن وتدبره، والمواظبة على الأدعية المأثورة في أحيانها، وعلى ورد يومي للذكر الثابت في السنة الصحيحة.
ـ تنمية الأخلاق الاجتماعية وذلك بالوفاء بحقوق الناس الأقرب فالأقرب بدءا ببر الوالدين، وحسن العناية بتربية الأبناء وإكرام الزوجة إلى تعهد الجيران وصلة الأرحام، والبرور بالإخوان والأصدقاء والمعارف والإحسان إلى عامة الناس والصبر على أداهم والحلم في معاملتهم، والتضحية بالوقت والمال في سبيل الدعوة إلى الله بإخلاص وتجرد.
خاتمة
      يمكن في نهاية هذا البحث صياغة أهم الاستنتاجات كما يلي:
ـ التزكية هي الممارسة الأساس من بين جميع مهام الاستخلاف الإيماني، لأن بناء النفوس القوية الأمينة تظل شرطا أوليا لكل المهام الاستخلافية التي يزاولها الإنسان في الواقع.
ـ إن التزكية هي الغاية والوسيلة معا لكل تربية جديرة بالانتماء للإسلام، سواء كانت تربية فردية أو جماعية، أو كانت تربية مجتمعية عامة أو تربية مدرسية خاصة.
ـ إن التزكية الحقة المؤسسة على الكتاب والسنة، هي التي تمتاز عن كل أنواع المناهج التربوية، باستهداف إعداد المسلم المؤهل لتحمل الأمانات والنهوض بمختلف الأعباء والواجبات، اللازمة لتحقيق الصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة.
 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – انظر ابن عطية، أبو محمد الأندلسي المحاربي، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، المحقق: عبد السلام عبد الشافي محمد الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى – 1422هـ، ص5/ج5.
[2] – ابن الجوزي، جمال الدين أبو الفرج، زاد المسير في علم التفسير، المحقق: عبد الرزاق المهدي، الناشر: دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة الأولى – 1422هـ. ص400/4.
 [3] –  سيد طنطاوي، محمد، التفسير الوسيط للقرآن الكريم، الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الفجالة – القاهرة، الطبعة الأولى: 1418/1998، ص340/11.
[4] – قال تعالى محذرا لبني آدم من مكر إبليس، {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27]
[5] – {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [القصص: 15، 16]
[6] – صحيح البخاري، رقم 438، كتاب الأذان باب الدعاء قبل السلام.
[7] – ابن قيم الجوزية، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، المحقق: محمد حامد الفقي، الناشر: مكتبة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية، ص51/1.
[8] أخرجه البخاري (528)، كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلوات الخمس كفارة. ومسلم (667) كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا، وترفع به الدرجات.
[9]  – انظر زاد المسير مرجع سابق، ص 433ج4.
[10]  – التفسير الوسيط، مرجع سابق، ص 14 ج 10.
[11]  –  انظر القرطبي، أبو عبد الله لأنصاري، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة
الطبعة الثانية، 1384هـ / 1964 م، ص 107/12.
[12]  – المرجع السابق.
[13]– إغاثة اللهفان، مرجع سابق، ص 46 مع تصرف طفيف.
[14] – مسلم رقم 2706، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من العجز والكسل وغيره.
[15]  –  ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، المحقق: محمد المعتصم بالله البغدادي، الناشر: دار الكتاب العربي – بيروت
الطبعة الثالثة، 1416 هـ / 1996م ص2/315.
[16]  – الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين. الناشر: دار المعرفة – بيروت، ص 46/1.
[17]  –  أبو نعيم، الأصبهاني، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، الناشر: السعادة – بجوار محافظة مصر، 1394هـ – 1974م، دار الكتب العلمية- بيروت (طبعة 1409هـ بدون تحقيق). ص199/10.
[18]  – سيد قطب، في ظلال القرآ ن. تفسير سورة النور الآية21.
[19] – صحيح مسلم رقم الحديث 231 كتاب الإيمان   باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، وأنه يأرز بين المسجدين،
(تعرض الفتن) أي تلصق بعرض القلوب أي جانبها كما يلصق الحصير بجنب النائم ويؤثر فيه شدة التصاقها به (عودا عودا) (فأي قلب أشربها) أي دخلت فيه دخولا تاما وألزمها وحلت منه محل الشراب ومنه قوله تعالى وأشربوا في قلوبهم العجل أي حب العجل (نكت فيه نكتة) أي نقط نقطة قال ابن دريد وغيره كل نقطة في شيء بخلاف لونه فهو نكت (أنكرها) ردها (مثل الصفا) قال القاضي عياض رحمه الله ليس تشبيهه بالصفا بيانا لبياضه لكن صفة أخرى لشدته على عقد الإيمان وسلامته من الخلل وأن الفتن لم تلصق به ولم تؤثر فيه كالصفا وهو الحجر الأملس الذي لا يعلق به شيء (مُربادا) اختلط سواده بكدرة (مجخيا) معناه مائلا كذا قاله الهروي وغيره وفسره الراوي في الكتاب بقوله منكوسا وهو قريب من معنى المائل.
[20] – مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، بَابُ أَخْذِ الْحَدِيثِ مِنَ الثِّقَاتِ، ج1، ص140.
[21] – رواه الترمذي، والنَّسائي، وصحَّحه ابن حبَّان.

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى