تقرير ندوة: ابتلاء الإرادة بالإيمان والإسلام والعبادة

أولا: بين يدي دراسة الكتاب.
              مسير الندوة: ذ. عبد السلام محمد الأحمر.
 بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين والصلاة والسلام على رسوله النبي الأمين.
       إن ما يميز هذا الكتاب ويرفع قيمته المنهجية، هو أن صاحبه حاول أن يقدم تصورا عاما وكليا، للحكمة الإلهية من خلق الإنسان، والتي حصرها في ابتلاء الإنسان بالخير والشر، واعتبر أهم مجال هذا الابتلاء هو الإيمان والإسلام والعبادة.
       وقبل الانتقال إلى ذكر بعض الملاحظات، أريد التعبير عن تقديري البالغ للكتاب والكاتب، من حيث إنه استطاع بتوفيق من الله كما اعترف بذلك، أن يهتدي لهذا التصور القرآني الشامل لغاية الله تعالى من خلق الإنسان، والتي بين أنها ابتلاؤه  بالخير والشر، ليتميز الناس بعضهم عن بعض بفعل الحسن والأحسن، وأيضا  بفعل القبيح والأقبح، ونذكر هنا بعض الآيات القرآنية الدالة على هذا المقصد الإلهي الكلي، ومنها قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } [الملك: 2]، {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } [الإنسان: 2]، وغير ذلك من الآيات الكثيرة المعلومة في هذا المعنى.
ونجده يعبر عن التصور الكلي الشامل لابتلاء الإرادة في مقدمة الكتاب بقوله: “الحمد لله الخالق البارئ المصوّر الأزلي الأبدي، الحي القيوم العليم الحكيم، الذي بيده الْمُلْك وهو على كلّ شيءٍ قدير، خلق الموت والحياة، واللذات والآلام، والمنافع والمضار، وطريق الخير وطريق الشر، ليبلو ذوي الإرادات الحرّة أيهم أحْسَنُ عملاً، وأيهم دُونَ ذلك حتى أسفل سافلين، ثُمّ ليجزيهم يوم الجزاء على ما اختاروا في رحلة الابتلاء”.
ثم يواصل بقوله، أما بعد: فهذه منظومةٌ فِكْرِيَّةٌ تكشف الشجرة الحِكْمِيَّةَ الربانية التي تم بمقتضى أُصولها وفروعها ترتيب خطة الْخَلْقِ وفق العناصر التالية:
العنصر الأول : خَلْقُ السّماوات والأرض وما بينهما.
العنصر الثاني : خَلْقُ النَّاسِ وابتلاؤُهم في ظروف الحياة الدنيا، بعد تهيئة ما يَلْزَمُهُمْ للعيش فيها، ومَنْحِهم كُلَّ الشروط اللازمة لابتلائهم على أَحْسَنِ وجه حكيم.
العنصر الثالث: إنزال الدين المختار المصطفى، للذين يُوضَعُون موضع
الابتلاء، بحسب حاجات الناس في القرون.
ثم تحدث في العناصر الموالية عن الموت والبعث والحساب، الذي ينتهي باستحقاق نعيم الجنان أو عذاب النيران (ص5- 6).
وقد توسع في الكلام عن الابتلاء في المنظومة الفكرية، التي تكشف عما سماه الشجرة الحكمية التي سيأتي الحديث عنها في هذه الندوة.
وسأختزل الملاحظات النقدية التي تندرج في إطار تأكيد وترشيد رؤية الكاتب من خلال القضايا التالية:
أولا: أن الابتلاء الإلهي للبشر لا يقتصر على من بلغهم الوحي فحسب، وإنما يعم غيرهم على أساس الفطرة والعقل، ﴿اِنَّا خَلَقْنَا اَ۬لِانسَٰنَ مِن نُّطْفَةٍ اَمْشَاجٖ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَٰهُ سَمِيعاَۢ بَصِيراًۖ 2 اِنَّا هَدَيْنَٰهُ اُ۬لسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرا وَإِمَّا كَفُوراًۖ 3﴾[الإنسان: 2-3]، فالله سبحانه أعطى الإنسان ما يصحّ معه الابتلاء،﴿اِنَّا هَدَيْنَٰهُ اُ۬لسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرا وَإِمَّا كَفُوراًۖ 3﴾[الإنسان: 3]أي بينا له وعرّفناه طريق الهدى والضلال، والخير والشرّ، كما في قوله: ﴿وَهَدَيْنَٰهُ اُ۬لنَّجْدَيْنِۖ 10﴾ [البلد: 10]، فالهداية المشار إليها هنا عامة لكل البشر، ينزلون من أرحام الأمهات وهم مزودون بالفطرة والعقل، قبل أن يصلهم الوحي المكمل والمسدد لهما. كما أكد الشيخ ابن تيمية حين قال: “فالفطرة (أي المخلوقة في كل نفس) مكملة بالفطرة المنزلة (أي الشرع)، فإن الفطرة تعلم الأمر مجملا، والشريعة تفصله وتبينه، وتشهد بما لا تستقل الفطرة به”[1] فكل واحد من الآدميين مبتلى بما توفر له من العلم والمعرفة، الناشئين عن الفطرة وحدها، أو عنها ومعها الوحي المنزل.
ثانيا: أتفق مع الكاتب الذي جعل الإرادة هي مدار كل الابتلاءات، والتي تعم جميع الأعمال التكليفية كما أكد الرسول صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما جاهر إليه)[2] ، وحديث نية المؤمن خير من عمله[3]،  وقد قيل: النية دون العمل قد تكون طاعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة[4]” قالوا: والعمل دون النية لا يكون طاعة[5]. وما أكثر أنواع الفساد التي قد تلابس النية فتفسدها تماما، بما في ذلك الرياء عندما تنعقد في القلب، فتحول موانع دون تنفيذها، فيعبر عنها اللسان ويكشف ما كان منها بعيدا عن العمل الذي يجليها.
فالنية تعبير عن الإرادة التي تتعرض للتراجع في قوتها، وقد تنقلب إلى ما يفسدها ويبعدها عن تحقيق الإخلاص لله تعالى في القول والعمل، فهي دوما في حاجة إلى تعهد وتثبيت قبل الفعل وخلاله وبعده. قال سفيان الثوري: “ما عالجت شيئا أشد علي من نيتي لأنها تتقلب علي”[6] كما أن الإرادة ممارسة للحرية القلبية على أوسع نطاق، والتي ينشأ عنها الابتلاء بمختلف المسؤوليات العامة، والتكليفات الشرعية المشكلة للممارسة الاستخلافية في شتى أبعادها، كما أكد الفضيل بن عياض:  “إنما يريد الله منك نيتك وإرادتك”[7].
ثالثا: يبدو أن الكاتب بذل مجهودا كبيرا في الالتزام بعنوان الكتاب وهو ابتلاء الإرادة، ولم يخرج عما يقتضيه هذا العنوان إلا في حالات استثنائية؛ ومن أمثلة ذلك ما يلاحظ أحيانا خلال الشرح، من ضعف الربط بين الابتلاء والإرادة، وما يقتضيه التحليل والبيان من الكشف عن ابتلاء الإرادة على وجه الخصوص، في جميع المسؤوليات الإنسانية والتكاليف الشرعية على السواء.
والمجال المتاح لا يتسع لتتبع هذه الملاحظة على امتداد الكتاب، ومن ثم نقتصر على سوق مثال واحد يتعلق بكلامه عن أنواع حكمة الله في النعم والمصائب، والتي حددها في ثلاث حكم وهي: الابتلاء، التربية والتأديب، وأخيرا الجزاء المعجل بالثواب أو بالعقاب.
فلو انطلق الكاتب من اعتبار حكمة الله العامة من خلق الناس، هي الابتلاء في الحياة الدنيا، كما قرر في بداية الكتاب، قبل الدخول في الحكم الفرعية، وحاول النظر إلى النعم والمصائب من خلالها، لكان ذلك أكثر تحقيقا لإبراز نسقية الابتلاء بالإرادة، على نحو بديهي وميسر. فقصد الله من إيجاد النعم وتوفيرها، هو من دون شك ابتلاء للإرادة بشكرها أو كفرها، وقصده من خلقه للمصائب هو ابتلاء الإرادة بها، إما تسليما ورضى بقضاء الله وقدره، وإما تضايقا وتسخطا، وإما مدافعة مشروعة وصبرا ومصابرة.
ونفس الملاحظة يمكننا إبداؤها في حكمة التربية والتأديب، اللذين لا تتحق فائدتهما إلا بوجود إرادة للانتفاع من الابتلاء بالنعم والنقم على حد سواء.
وأما الحكمة الثالثة التي تم تحديدها في الجزاء المعجل بالثواب أو بالعقاب، فيتأتى ربطها هي أيضا بابتلاء الإرادة، هل تتجه للاستزادة من العمل الصالح المعجل ثوابه، وتقلع عن العمل القبيح المعجل عقابه، أم أنها تختار التراجع عن العمل الصالح، والتمادي في العمل القبيح؟.
فإذا كان العمل يتوقف على قصد المكلف وإجراءات التنفيذ، فإن الإرادة الباعثة عليه هي الجانب الذي يرتكز عليه الابتلاء، على اعتبار أن مراحل التنفيذ ما هي إلا أطوارا متواصلة من تأكيد الإرادة وترسيخها واكتمالها.
العرض الأول: ابتلاء الإرادة في أعمال العبادة.
 د. محمد البويسفي
مقدمة
       تعتبر العبادة من القضايا الملحة التي تعترض الشباب المسلم، في سياق الغزو الفكري، والنقاش الديني الدائر اليوم، وفي سياق سيطرة الفكر المادي المعادي للدين والتدين، والداعي إلى الحرية المطلقة، واللادينية. ولذلك كان البحث في فلسفة العبادة في الإسلام، من المباحث المهمة في وقتنا الحاضر، والذي من شأنه أن يقدم إجابات شافية لأسئلة حارقة.
ومن الكتب المهمة التي عالجت هذا الموضوع بدقة وعمق، كتاب: “ابتلاء الإرادة بالإيمان والإسلام والعبادة”، لمؤلفه عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني. العالم الرباني المعروف، رحمه الله تعالى.
أولا: التعريف بالكتاب ومؤلفه
ـ التعريف بالكتاب:
أما الكتاب محل الدراسة، وعنوانه: “ابتلاء الإرادة بالإيمان والإسلام والعبادة”، لمؤلفه عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، صادر عن دار القلم بدمشق، الطبعة الأولى، سنة 1995م.
وقد عالج المؤلف قضايا كتابه هذا من خلال تسعة فصول مترابطة ومتناسبة فيما بينها، شكلت بأفكارها ومنهجيتها نظرية متكاملة، حول فلسفة العبادة في الإسلام، من حيث منطلقاتها وأهدافها ومقاصدها. ومبينا المنظومة الحكمية الربانية الناظمة لخطة الخلق، والتي تتلخص في: خلق السماوات والأرض وما بينهما، وخلق الناس وابتلاؤهم في ظروف الحياة الدنيا وفق شروط الابتلاء، ثم إنزال الدين بحسب ظروف الناس في الزمان والمكان، ثم إماتة الممتحنين ثم بعثهم من جديد للحساب والجزاء، جزاء المتقين بالجنة، وجزاء الكفار والطغاة بالنار.
والقارئ للكتاب يجده عبارة عن دراسة، أو تدبر وتأمل فكري طويل، واطلاع عميق على التراث الإسلامي في العقيدة والفقه والأخلاق.
ويبدو أن الكتاب جاء استجابة لتساؤلات الشباب، حول علة وجود الإنسان وفلسفته، وهي من ضمن الأسئلة التي كان يثيرها الفكر المادي، الذي كان سائدا في العقود الأخيرة من القرن الماضي، وفي هذا تسليح للشباب المسلم بأدوات عقلية، تساعد على بناء العقيدة الصحيحة، وتدافع عنها بأدلة عقلية ومنطقية، تُماثل البناء والاستدلال العقلي للفكر المادي الغربي.
ـ التعريف بالمؤلِّف
والشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة عالم سوري وُلد في دمشق سنة 1927م، وقد نشأ في بيت علم ودعوة، ثم انتقل إلى مصر لإتمام دراسته في الأزهر الشريف، ثم عمل أستاذًا في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض، ثم أستاذًا في جامعة أم القرى في مكة، توفي رحمه الله تعالى سنة 2004م.
كان للتكوين العلمي الرصين، الذي تلقاه الشيخ عبد الرحمن رحمه الله تعالى، أثر في ثقافته الشاملة والجامعة بين الموسوعية والعمق، وبين الأصالة والإلمام بالعلوم الحديثة، ما مكنه من فهم الواقع الإسلامي المعاصر وعلله، ومداخل إصلاحه.
وقد أسهم، رحمه الله تعالى، إسهاما متميزا في مجال التعليم والتأليف، فقد عُرف عنه الإبداع وليس التقليد أو الحشد والجمع. والناظر في تراثه الفكري، يجده يتمحور حول إصلاح الفكر لدى الشباب المسلم، عن طريق احترام: “ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة”، وتنقيته من شبهات المستشرقين، بالحذر من “أجنحة المكر الثلاثة”، وتأهيله للنهضة والتجديد، والتخلص من قيود التخلف والجهل والتقليد، وذلك بربطه بالقرآن الكريم عن طريق الفهم السليم واحترام قواعد التدبر الأمثل للقرآن الكريم، وتصحيح العقيدة والسلوك من خلال: “العقيدة الإسلامية وأسسها”، وصفات عباد الرحمن في القرآن”، و”ابتلاء الإرادة بالإيمان والإسلام والعبادة” الذي هو محل هذه الدراسة. فالشيخ عبد الرحمن كان من رجال الفكر والإصلاح والدعوة إلى الله تعالى، وقد ترك أثرا طيبا في الشباب المسلم، في مرحلة كان الفكر اليساري هو المسيطر على الساحة الجامعية والثقافية.                                 
ثانيا: مفاهيم أساسية في الكتاب:
ـ مفهوم الإرادة:
يرى الكاتب بأنها عند البشر صفة نجهل حقيقتها التكوينية، إلا أننا ندرك آثارها، بحيث أنها إذا توجهت لاختيار أمر يتم اختياره، أو للقيام بعمل من الأعمال تحركت القوى المسخّرة لها في ذات الإنسان لتنفيذ ذلك العمل[8].
وأما الإرادة باعتبارها صفة من صفات الرب جل وعلا فلا تتعلق بمستحيل عقلا ولا بما هو مناف للحكمة، لأنه سبحانه عليم حكيم لا يريد إلا ما تقتضيه حكمته.
وتنقسم الإرادة الإلهية إلى قسمين كبيرين: إرادة تقريرية، وهي التي يتم بها تقرير مراد الله تعالى، ومن آثار هذه الإرادة ما يعرف بالقضاء والقدر، إذ القدر يتناول مقادير الشيء المراد، والقضاء يعني إمضاء المراد أو المصادقة عليه. والقسم الثاني هو الإرادة التنفيذية، وهي التي إذا تعلقت بالمراد صدر الأمر الإلهي بالتنفيذ وفق ذلك الأمر الإلهي[9]. وكل من هذين القسمين ينقسم إلى أربعة أقسام:
ـ القسم الأول: الإرادة التكوينية:
 وهي التي تتعلق بتكوين وإيجاد مخلوق مما تتعلق إرادة الله بخلقه، وذلك على مستويين:
مستوى الإرادة التقريرية فتتم بالتقرير والإمضاء على ما يُعرف بالقضاء والقدر السابقين للإيجاد، ثم ينتقل الأمر إلى مستوى الإرادة التنفيذية، التي تُعنى بالتنفيذ الفعلي في الواقع. ومن هذه الإرادة التكوينية منح الله تعالى الإنسان إرادة حرة، وسخر لها الأسباب المعينة على تنفيذها.
ـ القسم الثاني: الإرادة التشريعية:
 وهي التي تتعلق بتشريع الأحكام للمخلوقات ذوات الإرادات الحرة كالإنسان من أجل الابتلاء. وهي أيضا على مستويين، الإرادة التقريرية وتتعلق بتقرير الأحكام التشريعية التي اختارتها إرادة الله تعالى. وأما التنفيذية فتتعلق بتنفيذ التشريع الذي يتحقق في الواقع بأمر الله تعالى. ثم يكون التبليغ للناس عبر الرسل، ليُكلف الناس به.
ـ القسم الثالث: الإرادة التكليفية والإرشادية:
 وهي الإرادة التي تتعلق بتوجيه الأوامر والنواهي الإلزامية تكليفا مع اقترانها بالوعد بالطاعة والوعيد على المعصية، وبتوجيه المطالب الإرشادية التي تتضمن النصح، وأما على مستوى التقريرية من الإرادة فتتم بتقرير توجيه الأوامر والنواهي الإلزامية، وتوجيه المطالب الإرشادية النصيحة والمصادقة عليها. وأما على مستوى الإرادة التنفيذية فتتم بتوجيه هذه الأوامر والنواهي والمطالب فعلا، ويتبع ذلك إنزالها إلى الرسل لتبليغها للناس قصد الابتلاء والامتحان.
ـ القسم الرابع: الإرادة القضائية:
 وهي التي تتعلق بمحاسبة الممتحنين الذين أنهوا امتحانهم، وهذه الإرادة تعتمد على عدل الله تعالى وفضله. أما التقريرية من هذه الإرادة فتتم بتقرير الحكم والمصادقة عليه، أما الإرادة التنفيذية هنا فتتم بتوجيه الحكم وتنفيذيه.
ـ مفهوم الابتلاء:
تدل كلمة الابتلاء على معنى الامتحان والاختبار، لكشف ما لدى المبتلى من صفات كامنة، بعمل إرادي له أثر في النفس أو الجسد. أما ابتلاء الإرادة فهو امتحانها لكشف ما تختار من عمل في الحياة الدنيا، ثم يكون الحساب يوم القيامة. أما الشيء المبتلى به فهو كل ما يخضع لإرادة المخلوق من عمل سواء كان ظاهرا أم باطنا. ويشمل طلب فعل الشيء أو تركه. والمطلوب من العبد المبتلى حمد الله تعالى فيما يَسُر وفيما لا يَسُر، وفيما يُحِبه الإنسان وفيما لا يحبه من الأوامر الإلهية والنواهي. ليظهر طاعة العبد لربه أو معصيته. ومواد الامتحان والاختبار تشمل كل الحركات الإرادية في الإنسان: الجسدية، والفكرية، والنفسية، والعاطفية، والإيمانية: المصائب والنعم، الإيمان والكفر، الشهوات والغرائز، المال والبنون..
ـ ابتلاء الإرادة
ويتساءل الكاتب عن كلمة جامعة لكل مطلوب الله تعالى من عباده خلال الامتحان، ويجزم بأنها هي العبادة، وتشمل هذه العبادة الإيمان القلبي، والطاعة العملية للتشريعات السماوية.
وتتعلق إرادة الله عز وجل باختبار إرادة الإنسان الحرة، هل يختار الطاعة والامتثال لأمر الله وشرعه؟ أم ينساق وراء شهواته ونوازعه الدنيوية، وقد أهله الله تعالى لهذا الابتلاء، حيث منحه عقلا وإرادة حرة، وخلق فيه شهوات مادية، فكان مزدوج التكوين: من مادة ورح، ومن جانب روحي علوي، وجانب سفلي، يتنازعان، والاختبار كامن في الاختيار الحر، والفوز والنجاح رهين بالتغلب على الشهوات والملذات، والانقياد والطاعة لأوامر الله تعالى ونواهيه، وفي السراء والضراء، والنجاح في هذا الابتلاء يتطلب الصبر والمكابدة والمجاهدة، وفي هذه المجاهدة يتفاوت العباد، فمن جاهد نفسه حتى تخضع لأمر الله والاستسلام له، كان من الناجحين في الابتلاء، ومن فشل في المجاهدة وأطلق العنان للشهوات والرغبات، ووقف موقف العاجز أمام النفس وشهواتها، كان فاشلا خائبا في الابتلاء والامتحان.
 ومطلوب الله تعالى في هذا الامتحان من العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيأ، مصداقا لقوله تعالى: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”[10].
ثالثا: ابتلاء الإرادة في أعمال العبادة
وقد وقف المؤلف رحمه الله تعالى وقفة تأمل وتدبر، ليعطي فهما جديدا لمعنى الآية، ويصحح الفهم الخاطئ لها، والاستدلال بها غير الصحيح، ومفاد هذا الفهم الخاطئ هو أن الله تعالى أراد من العباد أن يعبدوه فلم يحققوا هذه الإرادة فيهم. لأنه لا شيء من إرادات الله ومشيئته يتوقف تحقيقه على أعمال العباد الاختيارية، ولأن إرادة الله نافذة لا محالة، والعبادة إرادة الله، وهي نافذة على خلقه، شاء من شاء وكره من كره. وتوهم الناس أن اللام في “ليعبدون” هي لام التعليل، أي لبيان الغاية من الخلق، لكنها في الحقيقة لبيان المطلوب في رحلة امتحان المخلوقين لغاية امتحانهم. وإلا لما استطاع أحد من الجن والإنس، أن يعصي الله تعالى في شيء، لأن إرادة الله يستحيل أن تتخلف.
وحينما لاحظوا أن أكثر الجن والإنس كفرة أو عصاة، توهموا أنهم عاندوا إرادة الله فيهم ولم يحققوها. وهذا القول باطل، لأن إرادة الله نافذة، ولا أحد يستطيع معارضتها أو توقيفها. ولو شاء الله لآمن من في الأرض كلهم جميعا، ولو شاء ما أشرك المشركون، ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة.
وأن المطلوب من الجن والإنس بعد أن خلقهم الله ليبلوهم، هو أن يعبدوه، وليس المطلوب منهم أن يقدموا لله الرزق أو الطعام كما يفعل أهل الشرك بآلهتهم إذ يقدمون لها الأرزاق والأطعمة والقرابين، ويعتقدون أنها تحتاج في ذواتها إلى أرواح الذبائح أو دمائها أو لحومها، فالله منزه عن كل ذلك، وتعالى علوا كبيرا.
ولأن العبادة تدل على طهارة القلب، وطهارة عمله، وصدق اعترافه بعبوديته لربه، والعابد الصادق في عبادته يدل باختياره الحر على أنه بريء من الجحود، وبريء من الشرك.
واستدل على تفسيره للآية بأن اللام في الآية إما أنها للاستحقاق، أي وما خلقت الجن والإنس إلا مستحقا أن يعبدوني، أو تكون اللام للاختصاص، أي مختصا بأن يعبدوني، أو بمعنى الطلب، أي. ما خلقت الجن والإنس ممتحنين في رحلة امتحانهم في الحياة الدنيا إلا لأطلب منهم أن يعبدوني. ليخلص في النهاية إلى تخطئة الفهم السائد: إن الله أراد منا أن نعبده، فإذا لم نعبده لم نحقق مراد الله فينا. إنها مقولة باطلة، ولا تليق بإرادة الله النافذة.
وهذا رأي سديد وُفقَ فيه الكاتب إلى حد كبير بأن جعل الغاية من الخلق هي الابتلاء، وأن العبادة مجرد أداة هذا الابتلاء، وأن إرادة الله في خلق، وهي: الابتلاء، قد تحققت، بإظهار المطيع له تعالى وغير المطيع، أما من جعل إرادة الله هي العبادة والطاعة فغير صحيح. وإرادة الله نافذة، ولا أحد يستطيع تعطيلها.
كلمة أخيرة
بهذا الذي مر بنا خلال هذا العرض لما جاء في كتاب إرادة الابتلاء للشيخ حبنكة الميداني رحمه الله تعالى، تكون قد اكتملت فلسفة العبادة في الإسلام، من حيث المفهوم، وعلاقتها بالإرادة الإلهية والبشرية، ومن حيث أثر العبادة في النفس والسلوك، ومن حيث مقاصدها. ومن حيث ربطها بالابتلاء، والذي هو غاية الوجود الإنساني في هذه الحياة الدنيا.
وبهذا النظر العميق لفلسفة العبادة، يكون الكاتب رحمه الله تعالى، قد قدم إجابات شافية لأسئلة الشباب المسلم، الذي عاش ويعيش تحديات إيديولوجية صعبة، اتسمت بالمادية والإلحاد، ومعاداة كل ما هو ديني روحي له ارتباط بالسماء.
وإذا كان من ملاحظة حول هذا الكتاب القيم، فهي أن الكتاب في تفاصيله لم يركز على بيان وتحليل مكونات البحث في اتصالها بابتلاء الإرادة، وغلب عليه الاستطراد بما لا يخدم قضية الكتاب الرئيسة، وإذا كان الكاتب رحمه الله تعالى قد وُفق في بيان ابتلاء إرادة الإنسان، فإن الذي لم يُجليه بالشكل الكافي، هو أن أداة الابتلاء هي العبادة في معناها الشامل، بما يستغرق أعمال القلب والجوارح، فالابتلاء يطال النية والقصد والفعل، وهذا من شأنه أن يرسخ ابتلائية العبادة، ويضمن تحقق آثارها التربوية في تزكية الفرد والمجتمع، وتحقيق جزاءها الأعظم، الذي هو السعادة في الدنيا والآخرة.
العرض الثاني: الابتلاء وأمانة الاستخلاف
د. مصطفى فاتيحي
تقديم:
يشكل مفهوم الاستخلاف في التصور الإسلامي ركيزة أساسية ومرجعية محورية لاستيعاب فلسفة الوجود، ويمكن من خلاله صياغة قواعد وأسس الاجتماع الإنساني، باعتباره قيمة ناظمة لكل السلوكيات الحضارية التي تربط الإنسان المستخلف عموديا بالله، وأفقيا بعباد الله وسائر الكائنات. ويصبح ملتزما بالقيم الخلقية والمثل العليا التي يربيه الدين على احترامها، فتنضبط بذلك مطالبه من حقوقه ورغباته، حتى مع مخالفيه، مما يحقق له الصلاح في الدنيا، والفلاح في الآخرة، والأمن والاستقرار لمجتمعه[11].
ومن أهم الكتابات التي تناولت المفهوم بأبعاده المعرفية، والمنهجية كتاب “ابتلاء الإرادة بالإيمان، والعبادة والإسلام” لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، الذي عمل على الربط بين الابتلاء وأمانة الاستخلاف.
وقد استطاع بحس بيداغوجي ونفس شفافة أن يوضح أمانة الاستخلاف، من خلال تصوير عرض الأمانة عبر حوار مشوق، ومؤثر ومقرب للمقصود بشكل جيد وقاصد، منطلقا من آيتين مؤسستين ومحوريتين في الموضوع: آية الأمانة وآية الذر.
أما آية الأمانة فقوله تعالى: ﴿اِنَّا عَرَضْنَا اَ۬لَامَانَةَ عَلَي اَ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَّحْمِلْنَهَا وأَشْفَقْنَ مِنْهَاۖ وَحَمَلَهَا اَ۬لِانسَٰنُ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُوما جَهُولا﴾ [الأحزاب: 72].
وأما آية الذر فقوله تعالى: ﴿وَإِذَ اَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِے ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّٰتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَيٰٓ أَنفُسِهِمُۥٓ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَل۪يٰۖ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ اَ۬لْقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَٰفِلِينَ﴾ [الأعراف: 172] وقد استنتج من الآيتين أن: ربوبية الله مغروزة في فطر نفوس الناس، وإن نسي الناس حدث الإشهاد الذي أخبر الله عنه للتعريف به.
ومعرفة حق الأمانة والإقرار بهذا الحق، والاستعداد للوفاء به، أمور مغروزة أيضا في فطر الناس، وإن نسوا حدث عرض الأمانة، وقبولهم لهذا العرض، وتحملهم المسؤولية تجاهه، للظفر بالخلود في دار النعيم بعد رحلة الامتحان.
أما الإشهاد على الربوبية، فقد تم في عالم الذر بعد منح الله الوحدات الذرية، التي نمت منها الكائنات البشرية، بعد تلك الصفات التي تؤهلها لإدراك الخطاب، ولمعرفة معنى ربوبية الله للعباد، ولشهود أدلة هذه الربوبية، وبعد أن شهدت لله بأنه هو ربها، أي: خالقها وممدها بغذاء البقاء والنماء، مسح من ذاكرتها هذا الحدث، وأبقى في عمق فطرتها ما يهديها إلى إدراك ربوبيته والتماس عونه ومدده، والخضوع له.
وأما تحمل الإنسان الأمانة، ودخوله رحلة الامتحان طائعا غير مكره، فقد ظهر عند التنفيذ وهو في رحلة الامتحان أنه ظلوم جهول، لم يؤد الأمانة التي حملها واستعد أن يؤدي حقوقها وما يجب عليه فيها، فيحتاج شيئا من الشرح؟
يتساءل المتسائل عن الأمانة التي عرضها الله عز وجل على السماوات والأرض والجبال والإنسان، فأبت السماوات والأرض والجبال أن تحملها، وخفن من مسؤولية حملها، ومن التكليف الذي يرافقه، ومن الحساب والجزاء اللذين يتبعان ذلك، وحملها الإنسان، واستعد أن يتحمل التبعة من حساب وجزاء؟
وللإجابة عن هذا التساؤل من تحليل للصفات التي تتمتع بها هذه الكائنات، ولعناصر الأمانة لإدراك الأمور التي جعلت السماوات والأرض والجبال تأبى حملها والتي جعلت الإنسان يقبل حملها، ويستعد لتحمل التكليف المتعلق بها، وتبعة الحساب والجزاء بعد ذلك.
إن العرض يستلزم إدراك المعروض عليه حقيقة معنى ما يعرض عليه، أي فهمه والعلم به، إذا كان الأمر على الحقيقية لا على المجاز، وهو الأمر الذي يستدعيه ظاهر البيان القرآني.
والفهم لشيء ما يستلزم وجود أداة الفهم، أو جهاز الفهم لدى الفاهم، والاستعداد لإدراك وسيلة التفهيم. والإدراك قد يكون صفة للمخلوق، دون أن تكون له صفات الشهوة والإحساس باللذة والألم ونحو ذلك، ودون أن تكون له إرادة واختيار وقدرة على تنفيذ شيء مما يريد.
وهل يشترط أو لا؟ هذا أمر من أمور الغيب عنا، ومن الصعب البت فيه.
وقد أخبرنا الله عز وجل أن كل شيء يسبح بحمده، ولكن لا نفقه تسبيحهم، فهل هو بدلالة الحال، أو هو تسبيح معه نوع إدراك خلقه الله للأشياء؟
الاحتمالان قائمان، والثاني منهما غير مستحيل، والله على كل شيء قدير، والعلوم الحديثة قد كشفت لنا من خصائص الخلايا وأعمالها ووظائفها، وما تؤديه من أعمال متقنة ما يدهش العقول، وكأن لها إدراكا، وتحمل إنذارات ورسائل، وترجع بالمطلوب على أحسن وجه، فسبحان الخالق العليم الحكيم، الذي هو على كل شيء قدير.[12]
وهذا مسلك في الاستدلال بديع ومقنع عند الميداني، متوسلا في ذلك باستحضار الإمكانات الهائلة التي زود بها الإنسان، ومتوسلا بضرورة توسيع المدارك وعدم الركون إلى مجرد المادي المحسوس.
وبناء عليه يقول: حين عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال وعلى الإنسان الأول وفيه ذريته، أو على الإنسان الشامل لكل أفراد النوع وهو في عالم الذر، لابد أن يكون هؤلاء قد أدركوا ما عرض عليهم وفهموه، حتى أبى حمل الأمانة من أباه، وقبل حملها من قبله.
ويمكن أن نصور هذا العرض والحوار الذي جرى حوله تخيلا، واستنباطا من وجيز البيان:
العرض: أتريدين أيتها السماوات والأرض والجبال أن تحملي الأمانة؟ أتريد أيها الإنسان أن تحمل الأمانة؟
المعروض عليهم: ما هي الأمانة التي نحملها؟
العرض: تجعل لكم إرادة حرة، وسلطة على بعض ما يوضع في ذواتكم من قوى وطاقات وأشياء أمانة عندكم، على سبيل الإعارة للانتفاع أو الوديعة، ويؤذن لكم بالتصرف فيها بإرادة حرة لكم، وبالتصرف فيما حولكم من الكون، مما تصل قدراتكم إليه أو إلى مفاتيحه.
المعروض عليهم: هذا التصرف من صفات الخالق الملك، وكيف نتصرف وليس لدينا رغبات ولا شهوات، ولا حاجات ولا أهواء، ولا نستطيع أن تكون لنا صفات الرب الحكيم؟
العرض: تخلق فيكم رغبات وشهوات، وحاجات وأهواء، ولذات وآلام.
المعروض عليهم: وهل يباح لنا أن نتصرف بإراداتنا الحرة، وفق رغباتنا وشهواتنا وحاجياتنا وأهوائنا دون مسؤولية؟
العرض: يعطى لكم التمكين من التصرف، لكن لا على سبيل إباحة كل شيء.
المعروض عليهم: كيف نتصرف إذن؟
العرض: يوجه لكم التكليف لفعل أشياء وترك أشياء على خلاف رغباتكم وشهواتكم وأهوائكم، ويباح لكم أشياء لتلبية مطالب حاجاتكم وشهواتكم.
العرض: أنتم إذن ملاحقون بالمحاسبة والجزاء على اختياراتكم.
المعروض عليهم: هذا تكريم وتشريف، مقرون بتكليف ومسؤولية، وبعده حساب وجزاء، ولكن هل يبقى في ذاكرتنا هذا العرض وهذا الحوار؟
العرض: تطوى من ذاكرتكم هذه المعرفة الحاضرة بخالقكم، ويبقى فيكم ما يشدكم إلى معرفته والإيمان به إيمانا غيبيا، وإلى معرفة الغاية من وجود الأمانة الكبرى تحت سلطتكم، وترسل إليكم الرسل، وتنزل إليكم الكتب، لتعريفكم وبيان المطلوب منكم، وإنذاركم وتحذيركم، وتبشير من آمن وأطاع منكم، ويخبرونكم بما جرى في هذا العرض.[13]
يمكن تفسير يطوى من ذاكرتكم بالفطرة وبالدوار الميتافيزيقي عند بيجوفيتش حيث طرح سؤالا عميقا مفاده: لماذا أصيب الإنسان بالدوار الميتافيزيقي(الانهمام الشديد بالبحث عن المعنى)[14] ؟ لماذا توقف عن تحسين كفاءته في الصيد ليقوم ببعض الشعائر التي لا معنى لها من منظور مادي نفعي..؟ كان الإنسان يسأل عن كيفية البقاء وعن آليات الاستمرار، ثم بدأ يسأل فجأة عن المعنى والهدف من وجوده.. أي أنه بدأ يسأل لماذا..؟ لو كنا حقا من أبناء هذا العالم، فلن يبدو لنا فيه شيء نجسًا أو مقدسًا، فهذه أفكار مناقضة للعالم الذي نعرفه. نحن لا نستطيع أن نجد أثرًا لعبادات أو محرمات أو مقدسات في أكثر أنواع الحيوانات تطورًا.
إن ظاهرة الحياة الجُوّانية أو التطلع[15] إلى السماء ظاهرة ملازمة للإنسان، غريبة عن الحيوان. هذا الجانب من الإنسانية، وهذه الظواهر [الخير والشر، المقدس والمدنس، الشعور بالفجيعة، الصراع الدائم بين المفسدة والضمير، التساؤل عن وجودنا] تظلّ جميعها مستعصية عن أي تفسير منطقي. ولكن انطلاقا من الإيمان بثنائية الإنسان والطبيعة، والاختلاف الجوهري بين الاثنين، وثنائية الطبيعة البشرية، يبين علي عزت بيجوڤيتش أن أصل الإنسان لا يمكن أن يكون ماديًّا.. فهو ليس نتيجة تطور مادي، فالعنصر الروحي في الإنسان الذي يستعصي على التفسيرات المنطقية المادية لا يمكن أن يوجد إلا بفعل الخلق الإلهي، والخلق ليس عملية مادية وإنما فعل إلهي. ليس شيئًا متطورًا، وإنما هو فعل فجائي (كن.. فيكون). «فمنذ تلك اللحظة المشهودة، لم يعد ممكنا للإنسان أن يختار بين أن يكون حيوانا أو إنسانا، إنما اختياره الوحيد أن يكون إنسانا أو لا إنسان». وبذلك ربط علي عزت بيجوفيتش بين الإنسان وبين الله، بمعنى أن الإنسان لا يمكن أن يكون إنسانا إلا بوجود الله، فإن مات الله (كما يزعمون في الحضارة الغربية) مات الإنسان، أو إن نسينا الله (كما نقول نحن) فإننا ننسى أنفسنا.[16]
هذه الاستنتاجات تعجز المنظومة المادية عن تفنيدها بالأدلة العلمية، ولا يبقى أمامها إلا الحدس والتوسم، والبحث عن تبريرات متناقضة، والذهول عن الحقائق الناصعة، حيث يشيع داخل الأوساط المادية أن مجال العلم هو مجال المنطق والوضوح والاستدلال والبرهان، وأن مجال الدين هو مجال اللامنطق والغموض وغياب النسقية، لكن بيجوفيتش مساجل متمرس قادر على أن يتقدم بالدليل إلى غايته ومنتهاه، ولذلك يرى أن الخرافة ليست مرتبطة بالأديان البدائية فقط، ولكن العلم أيضًا لديه معتقداته الخرافية، وذلك عندما يترك مجال الطبيعة. فإذا كان الذكاء الإنساني قد أكد نجاحه في الأمور المتعلقة بالعالم المادي (كما في علم الطبيعة والفلك وغيرهما)، فإن هذا الذكاء نفسه بدا شاكًّا أخرق في مجال الحياة، فعندما استخدم العلم مناهجه التحليلية والكمية في مجال الحياة انتهى إلى نفي بعض الحقائق النفسية والحياتية الجوهرية، فاختزلها إلى مظاهرها الخارجية فقط. وهكذا، رأينا علم الاجتماع الديني يقضي على الجوهر الأساسي للدين، ورأينا علم البيولوجيا قضى على الحياة، وعلم النفس يقضي على النفس، وعلم الأنثروبولوجيا يقضي على الشخصية الإنسانية، وفقد التاريخ معناه الإنساني الجواني.[17]
ولقد أجاد وأفاد (محمد أمزيان) في إيضاح هذه الفكرة حين ناقش ميتافيزيقا علم الاجتماع على سبيل المثال، ووقف على ثغرات منهجية في كثير من القضايا المتناولة، بحيث هناك تعميمات بعيدة عن العلمية، فالتعميم يأتي بعد الاستقراء التام وهو ما لا يسعف الباحثين في علم الاجتماع، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار الدعوى القائمة على جعل قوانينه ومبادئه مثل القوانين الطبيعية من حيث الدقة والصرامة. وبالإضافة إلى التعميم في إطار دراسة التجمعات البشرية، هناك الإطلاقية في الأحكام وغياب النسبية. وذلك راجع إلى التعسف في الإسقاطات والتأويلات المسبقة والإصرار الجلي على المماثلة والمطابقة بين الظواهر الإنسانية والطبيعية. فلم يستطع رواد الوضعية المنطقية في كثير من تحليلاتهم الوفاء لمنهجهم الصار والحدي، مما حذا بهم في كثير من الأحيان إلى اللجوء إلى التصورات الميتافيزيقية، سواء فيما يتعلق بتطور المجتمعات، أو أصل النظم ونشأتها، ودراسة الشعوب البدائية، والظواهر الاجتماعية غير الحسية، وينابيع التدين لدى الإنسان.[18]
ثم صور الميداني الجواب كالآتي:
المعروض عليهم: وما هو نوع الجزاء؟
العرض: عذاب أليم أبدي بالحريق في دار عذاب، على الكفر بالرب الخالق والإشراك به، وجحود ربوبيته أو ألوهيته، وعذاب دون ذلك بالعدل حسب المعاصي والإساءات.
ونعيم أبدي في جنات نعيم خالدة، على الإيمان بالخالق إيمانا غيبيا، والإسلام، ودرجات من النعيم بعضها فوق بعض، بقدر ما يقدم كل واحد منكم من صالح الأعمال، مع احتمال غفران أو عفو عن سيئات دون الشرك بحسب مشيئة بارئكم.
السماوات والأرض والجبال: هذه مخاطرة مخيفة نأبى قبولها، ما دام الأمر عرضا لا جبر فيه، فنحن نأبى حمل هذه الأمانة.
الإنسان: قبلت هذا العرض، فأنا أحمل هذه الأمانة الكبرى، وأتحمل تبعتها، وتحلو عندي هذه المخاطرة، ويشدني إليها الطمع بمقام التكريم، وببلوغ المجد العظيم.
العرض: خذ الأمانة أيها الإنسان، وستدخل رحلة الامتحان في الوقت المقدر لدخولك عبر الحياة الدنيا، منذ بلوغك سن التكليف حتى وفاتك، ثم تكون لك حياة أخرى لمحاسبتك ومجازاتك.[19]
خلاصة واستنتاج:
إذا كانت العقيدة الإسلامية هي مجموعة من المفاهيم والتصورات، المستنبطة عبر جهد اجتهادي من مصادر الوحي، فلا يصح اعتبارها مكافئة في محتواها المعرفي، للتصور الكلي الثاوي في نصوص الوحي، بل يجب النظر إليها على أنها مقاربة للتصور الإسلامي الكلي للوجود، قابلة للتطوير والتعديل والتصحيح والتدقيق. لقد أدرك علماء الكلام الأوائل أن الاجتهاد الفكري المبذول لتحديد أسس العقيدة الإسلامية لا يرقى إلى مستوى التصور الثاوي في نصوص الوحي، فنسبوا العقيدة لا إلى القرآن أو الإسلام، بل إلى المجتهد الذي حدد أسس العقيدة وفصّل مسائلها.  ومن هنا نُسبت المنظومات العقدية المتحصلة من اجتهاد علماء السلف إليهم فدونت العقيدة الطحاوية والعقيدة الوَاسطية والعقيدة النسفية وغيرها.[20]
ومن صور تجديد الدرس العقدي المعاصر ما قام به عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني الذي استبطن أسئلة العصر، ومشكلاتها ليجيب عنها انطلاقا من أساليب العصر لكن تحت مظلة الوحي وفي تربة الوحي، وما أحوجنا إلى هذا المسلك من أجل تحقيق كسبنا الذاتي من نور الوحي وهادياته وبصائره دون أن نبقى عالة على كسب غيرنا.
العرض الثالث: تجليات الشجرة الحِكمية من خلال المنظومة الفكرية في كتاب: ابتلاء الإرادة بالإيمان والإسلام والعبادة.
      د. محمد لهوير[21]             
            يقول عبد الرحمن حبنكة الميداني (ت2004م) في مقدمة الكتاب: “أما بعد؛ فهذه منظومة فكرية تكشف الشجرة الحِكمية الربانية التي تم بمقتضى أصولها وفروعها ترتيب خطة الخلق وفق العناصر التالية… “[22].
          ثم ذكر الكاتب ستة عناصر بمثابة أغصان لشجرة ابتلاء الإرادة، وامتحان إيمان المسلم وإسلامه وعبادته. وهذه الأغصان الستة هي:
الغصن الأول: خلق السماوات والأرض وما بينهما من شجر وحجر وكواكب وعوالم، تعكس الكتاب المنظور، وآيات الله في الآفاق الواسع، في مقابل آيات القرآن الكريم أو الكتاب المسطور.
        الغصن الثاني: خلق الناس وابتلاؤهم في ظروف الحياة الدنيا. فبعد أن خلق الله تعالى السماوات والأرض، خلق الناس/البشر /الإنسان / ثم ابتلاهم وامتحن إرادتهم وحريتهم في: الإيمان – الإسلام – العبادة


       وهذا الابتلاء بدأ مع آدم عليه السلام عندما اختبره الله تعالى في الأكل من الشجرة.
       الغصن الثالث: إنزال الدين المختار للذين يوضعون موضع الابتلاء بحسب حاجات الناس إلى الدين والوازع الرباني، والحجة القائمة على الناس لقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّيٰ نَبْعَثَ رَسُولاٗۖ 15﴾ [الإسراء: 15]
       الغصن الرابع: إماتة الممتحنين، وإقامة برزخ فاصل بين الموت والحياة الأخرى التي تعود فيها الأجساد بعد فنائها في الحياة الأولى. فهناك ثلاث حيوات: الحياة الدنيا، ثم حياة البرزخ، ثم الحياة الأخرى. والبرزخ حياة تندرج ضمن الغيبيات التي ينبغي أن يسلم بها المؤمن.
       الغصن الخامس: البعث لحياة أخرى يكون فيها الحساب وفصل القضاء، ومجازاة الذين امتُحِنوا حسب أعمالهم. ومن باب العدل الإلهي أن يجازي الله كل من نجح في رحلة الابتلاء ورحلة الامتحان.
الغصن السادس: إعداد دارين عظيمتين وهما الجنة والنار، باعتبارهما حقيقة غيبية ترتبط بمفهوم الجزاء.
       إن هذه الأغصان الستة التي سماها الكاتب رحمه الله بالشجرة الحِكمية، يقصد بها: ترتيب خطة الخلق وفق هذه العناصر ترتيبا ربانيا وفق حكمة إلهية وهي ابتلاء “ذوي الإرادات الحرة أيهم أحسن عملا”[23]،  وأيهم أقبح عملا، ثم يجازيهم على اختيارهم في رحلة الابتلاء.

ولكي يُجلِّي هذه الشجرة الحِكمية ويوضحها، فقد رسم لها منظومة فكرية عدَّها فصولا للكتاب.
والجميل في هذا الكتاب، أن الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني، يبوح لنا بفكرة التأليف في هذا الموضوع، وهي فتحٌ من الله تعالى عليه، يقول في هذا الصدد: “إن الشجرة الحكمية التي كشفتها بيانات هذه المنظومة الفكرية التي اشتمل عليها هذا الكتاب، قد فتح الله عليَّ بها من خلال تدبري بأناةٍ وتفكرٍ طويل لنصوص كتاب الله عز وجل، مع ما كان لدي من مخزون علمي حول أسس العقيدة الإسلامية ومفاهيمها، وأسس الفقه الإسلامي، ومفاهيمه… ” [24].
نلاحظ أن هذا الفتح الرباني الخالص للكاتب امتزج برصيده المعرفي المتنوع، وتدبره في القرآن الكريم، وكتب العقيدة والفقه والأخلاق، وفلسفة الدين. إذن ما هي هذه المنظومة الفكرية التي أثتت هذه الشجرة الحكمية وأطرتها؟
لقد قسم حبنكة الميداني هذه المنظومة إلى تسعة عناصر جعلها فصولا للكتاب وهي:
الفصل الأول: نظرات الناس إلى الكون والحياة، ما طابق منها الحق وما انحرف عنه.
الفصل الثاني: إرادة الله وإرادات العباد، والمطلوب منهم في ابتلائهم.
الفصل الثالث: الابتلاء والتسخير، والعلاقة بينهما.
الفصل الرابع: كل ما يُمكِنُ العلم به إما طاهر وإما نجس، وإما خليط بينهما.
الفصل الخامس: الربوبية، والعبودية الاختيارية والحرة.
الفصل السادس: السمع والطاعة.
الفصل السابع: العبادة “أسسها وفلسفتها، ومفاهيمها وذِكْر الله فيها”.
الفصل الثامن: أثر العقيدة في تطبيق الشريعة.
الفصل التاسع: خصائص الشريعة الإسلامية (الربانية، العالمية، اليسر، الشمول…).
والجميل أيضا في هذه المنظومة وهذه العناصر أنها متكاملة فيما بينها، ويعانق بعضها بعضا، ويجيب لاحقها عن سابقها. وهذه المنظومة الفكرية هي التي سماها الكاتب “ابتلاء الإرادة بالإيمان والإسلام والعبادة” وهو عنوان الكتاب. فلماذا اختار الكاتب هذا العنوان بالضبط؟
الجواب أن العبادة أعم من الإيمان والإسلام؛ إذ تشملهما معا، وطالما أن هذا التكامل بين العبادة والإيمان والإسلام غير واضح في أذهان عامة الناس، فقد ذكرها جميعها في عنوان الكتاب، وأخَّر عبارة العبادة لأنها أعم من الإيمان والإسلام.
وخلاصة القول فإن “هذه المنظومة الفكرية تمثل عناصر فكرية تجيب عن أسئلة مهمة، حول حكمة الله من خلق الناس وهي ابتلاؤهم في الحياة الدنيا، واختبار إرادتهم وحريتهم بالإيمان بالله والإسلام العملي والعبادة الخالصة [25].
 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ                          
[1] – مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية
1416هـ/1995م، (4/ 45).
[2] – صحيح البخاري
[3] – رواه البيهقي في الشعب وضعفه الألباني في ضعيف الجامع.
[4] – رواه مسلم.
[5] – انظر شعب الإيمان، البيهقي، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند الطبعة: الأولى، 1423 هـ – 2003م، 9/176.
[6] – جامع العلوم والحكم، لابن رجب البغدادي، مؤسسة الرسالة، ط2، 1412/1991. ص70.
[7] – نفسه، ص 71.
[8] – ص 35
[9] – ص 36
[10] – سورة الذاريات، الآية 56
[11]  انظر، محمد عبد الفتاح الخطيب، قيم الإسلام الحضارية كتاب الأمة، قطر، عدد 139، 1431هـ، ص 35.
[12] ابتلاء الإرادة بالإيمان بتصرف، ص 17- 18.
[13]  ابتلاء الإرادة بالإيمان ص، 23.
[14]  لفكتور فرانكلViktor Frankl  كتاب تحت عنوان ( الإنسان يبحث عن المعنى يناقش فيه العوالم العميقة واللامحدودة لقدرات الإنسان خارج الماديات والمحسوسات).
[15]  إن التأمل في النفس الإنسانية وما جبلت عليه من الأحاسيس والطبائع، وقراءة آفاق الكون وما ركبت عليه من نظام وتناسق ليفضي كله إلى الاعتقاد بالوجود الإلهي. فالنفس الإنسانية تنطوي على توق فطري إلى كائن عظيم تنسب إليه صفات الكمال، وتنشد عنده الحماية والأمن والطمأنينة، وهذا شعور يجده كل إنسان في نفسه في لحظات الضعف والفزع، وعند مشارف الهلاك، مهما اشتط به الغرور في أوقات السعة، وزمن الهدوء. خلافة الإنسان بين العقل والوحي، بحث في جدلية النص والعقل والواقع، عبد المجيد النجار، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط 2- 1993 ص 43.
[16]  رحلة الإنسانية والإيمان، عبد الوهاب المسيري. ص، 138.
[17]  الإسلام بين الشرق، ص 365.
[18]  منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، محمد أمزيان، ص 66 وما بعدها.
[19]  ابتلاء الإرادة بالإيمان، ص 20.
[20]  العقيدة والسياسة ص 58.
[21]- طالب باحث بسلك الدكتوراه، مختبر العلوم الدينية والانسانية وقضايا المجتمع، كلية الآداب سايس، فاس.
[22]- ابتلاء الإرادة بالإيمان والإسلام والعبادة، ص5.
[23] – ابتلاء الإرادة بالإيمان والإسلام والعبادة، ص5.
[24] – ابتلاء الإرادة بالإيمان والإسلام والعبادة، ص7.
[25] – ابتلاء الإرادة بالإيمان والإسلام والعبادة، ص 114 .

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى