أنثروبولوجيا الإعلام ـ نحو بناء وعي إعلامي

مقدمة 
مدخل عام
     تعتبر أنثروبولوجيا الإعلام Media Anthropology فرعا من فروع علم الاجتماع الإعلامي، ويعد الإعلام المرتبط بعلم الإنسان، أو بما يسمى أيضاً علم الإنسان الإعلامي،  مجالًا للدراسة داخل علم الإنسان الاجتماعي أو الثقافي، والذي شدد في بدايات اهتمامه على وصف الدراسات العرقية كوسيلة لفهم المنتجين والجمهور، والجوانب الثقافية والاجتماعية الأخرى لوسائل الإعلام، وميز استخدام الأساليب النوعية، وخاصة العرقية منها، ففي الدراسات المختصة بعلم الإنسان، اهتمت في البدايات بوسائل الإعلام التي تشكل مجالاً فرعياً متميزاً من الأساليب العرقية، ثم انتقل اهتمامها إلى الدراسات الإعلامية والثقافية في شتى المجالات، فالإعلام المرتبط بعلم الإنسان هو مجال متعدد التخصصات إلى حد ما،  مع مجموعة واسعة من التأثيرات المتنوعة والمتعددة،  و تتراوح النظريات المستخدمة في الإعلام المرتبط بعلم الإنسان، من مناهج الممارسة التي ترتبط بالمنظرين أمثال: بيير بورديو Pierre Bourdieu، ونظريات كمعالجة المعلومات والإثراء الإعلامي،  وكذلك مناقشات حول تخصيص وتكييف التقنيات والممارسات الجديدة،  كما تم تبني مناهج نظرية من علم الإنسان المرئي ومن نظرية الأفلام،  وكذلك من دراسات الطقوس، ودراسات الأداء (مثل الرقص والمسرح)،  ودراسات الاستهلاك، والإشباع والاستخدامات واستقبال الجمهور في الدراسات الإعلامية، ونظريات الشبكات والإعلام الجديدة، ونظرية سوق الولاءات، ونظريات العولمة، ونظريات المجتمع المدني الدولي، ومناقشات حول الاتصالات الاشتراكية  والجهد الحكومي في دراسات التنمية، وتتناول أنثروبولوجيا الإعلام أيضا  دراسة  ثقافات الاتصال من خلال الوسائط الإلكترونية والراديو والتلفزة والأفلام والموسيقى المسجلة والانترنيت والوسائط المطبوعة، ولغة الإعلام، والثقافة  الإعلامية الموهمة والجاذبة للمتلقي، وإقناعه بشتى الطرق بتوظيف علم السيميوطيقا والسيميائيات  sémiotique لتحويله إلى مجرد مستهلك للبضاعة الإعلامية رغم أنفه “اللاوعي الصوري”،  فالأنثروبولوجيا واهتماماتها بوسائل الإعلام  ظهرت مع مدرسة كولومبيا بمقاربتها لوسائل الإعلام التقليدية التي سادت فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، ولازالت إلى يومنا هذا، وإن تضاءل تسليط الأضواء عليها كالراديو والسنيما…، لأنه في أواخر القرن العشرين شهدت ثورة عارمة في مجال وسائل الاتصال الجماهيري باكتساح وسائل تقنية ذكية للساحة الإعلامية كمواقع التواصل الاجتماعي المعاصرة، وشبكات الانترنيت والويب والهواتف الذكية، فلم تعد الأنثروبولوجيا تدرس تأثير وسائل الإعلام التقليدية على الجماهير فقط، بل انتقلنا إلى الوسائل الحديثة، وكيفية تشكيلها للعقول وصناعة رأي العامة لما يخدم أجندات النخبة الحاكمة، ودراسة عادات وطرق التعامل الجماهيري مع هذه الوسائل الذكية “ثورة الإنفوميديا”، ويهدف مقالي إلى تسليط الأضواء على مدى تأثيرات الإعلام على الجمهور، وتضليله بتزييف الحقائق وتشويهها وقلبها، لتعطي صورة مناقضة للواقع الحقيقي  وللدور الاصلي المعد له، وهذا الإيهام يتم بآليات ذكية، وغير مرئية يستسيغها المتلقي بوعي منه أو بدونه، وذلك  ما سأتناوله من خلال مختلف نظريات الإعلام وعلاقة الإعلام بالثقافة، ودور الدراسات الإثنوغرافية من منظور أنثروبولوجيا الإعلام، من حيث وصف مظاهر التلقي لدى المتلقي، وثقافته في التعامل مع وسائل الإعلام سواء التقليدية أو العصرية، فهو عمل يقوم به الإثنوغرافي  حيث يصف، ولا يُقوم المتلقي وعاداته والقيم التي تحكمه، بينما العمل التأويلي والتحليلي يقوم به الأنثروبولوجي، وفي التعامل مع وسائل الإعلام، وتفكيك بنياتها، يلتقي عملهما معا، فالفصل بين أدوارها مجرد إجراء ميتودولوجي، Methodology متبعا في هذه الدراسة منهج الاستقصاء والاستنباط، وتكمن أهميتها في معالجة هذا النوع من الأنثروبولوجيا، الذي أصبح متجذرا في كل ركن من أركان الحياة الإنسانية اليومية، والقيام بطرق جنيالوجية –تفكيكية –تأويلية لأدوارها، وانعكاساتها على الإنسان بتزييف الأحداث والتاريخ والمعرفة، وأدلجة القضايا وتحريفها عن مسارها، وهذا فيه انعكاس سلبي للإعلام على ثقافة وهوية الإنسان، مع ضرورة التطرق للنظريات التي طرحت الموضوع وآليات تناولها للقضية الإعلامية ووسائلها، كل هاته القضايا التي تطرحها أنثروبولوجيا الإعلام بين الامس واليوم، ودرجة  تأثيرها على  هوية الإنسان، تحتم طرح التساؤلات  التالية:  ما المسار التاريخي الذي مرت منه أنثروبولوجيا الإعلام؟ وما طبيعة علاقة الثقافة بالإعلام؟ هل الإنسان قادر على استيعاب ووعي وكشف ألاعيب وسائل الإعلام؟ وكيف تتلاعب بالعقول وتوهمها بالسعادة والرفاه ظاهريا، وفي العمق تدمر هوية وكينونة الإنسان؟ وما الدور الحقيقي الذي ينبغي أن تلعبه أنثروبولوجيا وسائل الإعلام، لخدمة الإنسان وعدم إيهامه وخداعه؟ ماذا يفعل علماء الأنثروبولوجيا لفهم ممارسات وسائل الإعلام بشكل أمثل؟  هل الأنثروبولوجيا المتجذرة في الأبعاد الصغيرة والحياة اليومية، قادرة على وصف وسائل الإعلام؟ وهل نشأت أنثروبولوجيا الإعلام كباقي العلوم الحديثة أم لها خصوصيتها واستقلاليتها؟ وهل استطاعت نظريات الإعلام دراسة الظاهرة الإعلامية بشكل علمي وموضوعي؟  وما العمل لإعادة الدور الفعال والأصيل للإعلام ليقوم بأدواره الثقافية لبناء الذات والهوية الإنسانية؟
نشأة أنثروبولوجيا الإعلام   
     تعتبر أنثروبولوجيا الإعلام جزءا من علم الاجتماع الإعلامي، الذي نشأ في فترة الأربعينات وبداية الخمسينات بفضل مدرسة كولومبيا التي وضعت أسسه العامة، وتطورت بفضل فينيس ولازار سفيلدlazar sfeild ، وتميزت بالتنوع في وسائل الاتصال الجماهيري، من تلفزيون وسينما وراديو…فمثلا  بالنسبة للتلفزيون بدأت الدراسات الأنثروبولوجية المناسبة، بنشر مقالات متفرقة بداية الثمانينات، حاول فيها علماء الأنثروبولوجيا فهم الانفجار المفاجئ للشاشة الصغيرة، في مجالات بحثهم مثل:  المقارنة النوعية قبل المشاهدة وبعدها، ثم إنتاج دراسات في محاولة فهم وتفسير تعقيد القضايا التي أثارها التلفزيون[1]، ومر هذا العلم بثلاث مراحل وهي:  مرحلة انتشار البث الإذاعي في القرن العشرين حتى 1927، حيث الدراسات الاجتماعية الإعلامية قبل الحرب العالمية الثانية، ووظف البث الإعلامي لأهداف سياسية، بينما المرحلة الثانية تميزت بالنضج في البث الإذاعي بين سنة 1927 و1940، إذ انتشرت الإذاعة وبث الأخبار والموسيقى، وأصبح الراديو أداة الإعلام والدعاية، وجاءت بعد الحرب العالمية الثانية المرحلة الأخيرة، التي اتصفت بإشباع الجمهور الإذاعي، وتحسين البرامج، وظهور التلفزيون كمنافس قوي، وحاليا اكتسحت وسائل الاتصال الجماهيري الذكية مثل وسائل الاتصال الاجتماعي(انترنيت، ويب…)، حيث أصبحت وسائل الإعلام الجماهيري جزءا أساسيا من الحياة بعد الحرب العالمية الأولى، وأثرت كذلك على حياة المجتمعات الغريبة المعزولة أو البدائية، اذ طور علماء الانثربولوجيا في ذلك العصر ذريعة مختلفة لتجنب دراسة الإعلام، لأجل التمييز بين الأنثروبولوجيا الثقافية والصحافة (اليزابيت بيرد [المقابل اللاتيني] 2009)، واعتبروا موضوع وسائل الإعلام غير جاد، وينأى عن الموضوعية والعلمية، واعتبر علماء الأنثربولوجيا الثقافية أن محرري الكتب والمجلات النخبوية،  يقبلون العمل الإثنوغرافي السيء باعتباره مجرد صحافة لا يدخل في إطار الاعتبار الأكاديمي العلمي[2]، ولقد أصبح علم الاجتماع الإعلامي يدرس كل ما يتعلق بموضوعات علم الاجتماع، وبالأخص الجانب الإعلامي فيه، فيعمل على استخدام مناهج علمية للبحث فيه وأساليب المرسل التي يتبعها، وتنوع الرسائل الإعلامية، وتطور تقنيات وسائل الإعلام، وزيادة كفاءتها وقدرة الجمهور على الاستفادة منها لتطوير سبل حياتهم والتأثير في العملية الإعلامية، وتغيير مسارها التنويري التوعوي-التثقيفي، إلى تضليل الجمهور وفق سياسات عالمية كبرى، لا تخدم سوى مصالحها البرجماتية، على حساب كينونة الإنسان.  حيث إنه تحول معها  إلى مجرد دمية تتقاذفها الثورة الإعلامية المعاصرة، التي بزغت بوادرها نهايات القرن العشرين بما يسمى الما بعد تفاعلية أو الثورة الإنفوميدية، والتي سيكون تأثير عصرها أكبر بكثير من الانتشار المتفجر للحواسيب الشخصية، والتي كذلك أطلقت صناعة الكمبيوتر والاتصالات بسرعة مذهلة في ثمانينات القرن الماضي، ومما لاشك فيه أن تكنولوجيا الوسائط المعلوماتية، وما سيواكبها من المنتجات والخدمات ستصبغ عالم اليوم[3]، ومن ثمة اكتساح ثقافة الخداع والتشويه للحقائق، وانتشار ثقافة التفاهة ورجحانها على كفة الثقافة العضوية،  فمنذ التسعينات نجح علماء الأنتربولوجيا في دراسة مجموعة من وسائل الاتصال الجماهيري والوسائل الرقمية، ولم يبدؤوا في دراسة التقنيات التي تجعل هذه الأشكال من الاتصال ممكنة إلا مؤخرا، من خلال دراسة الشبكات التكنولوجية المادية التي تسمح بتبادل السلع والأفكار والناس والطاقة عبر الفضاء[4].
      لقد أتاحت وسائل التواصل الإعلامي الجديدة الاستخدام لها بسهولة في نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة ـومن ثمة  الانفلات من السياق القيمي والاجتماعي، والاقتناع بنوع ثقافي جديد يتمثل في اللغة وأنماطها الجديدة، المستعملة  من قبل الشباب الأكثر استخداما للتكنولوجيا، ومثل هذا التطور لعناصر الاتصال أفرز العديد من النظريات الإعلامية، التي أضافت علاقات جديدة وخصائص وقدرات إلى كل من المرسل والرسالة والقناة والمستقبل[5]، حيث انتشرت وسائط تواصل اجتماعي ذكية ضمن سياق استراتيجيات  محكمة لثقافة ما،  بعد التفاعلية في الإعلام وإحكام المراقبة الصارمة عن حرية التعبير، وضمان الولاء والانتماء والتذويب للثقافة الرصينة والتعتيم عليها، والعمل على طمس البعد الهوياتي  للإنسان، وظهرت في الآونة الأخيرة تطبيقات افتراضية، تستثمرها وسائل الإعلام للترويج لبضاعة وثقافة هيمنة الاقوياء في العالم، ولخطورة القضية  يتحتم علينا الحذر والتوجس من سيادة إعلام ترفيهي استهلاكي تدجيني للإنسان، يصنع ثقافته حسب هوى ورؤية صناع وأصحاب القرار العالمي.
نظريات أنثربولوجيا الإعلام
      تعددت نظريات وسائل الإعلام، التي تناولت القضايا الإعلامية كظواهر أنثروبولوجية واجتماعية من زويا متعددة ومتنوعة، ونذكر بعض هاته النظريات ومدى تأثيرها على الرأي العام وصناعة القرار سواء محليا أو قوميا أو عالميا، وهي كالآتي:
نظرية الفيلم:
      يفرض أصحاب نظرية الفيلم الفروض، ويحققونها على الفيلم أو بعض مظاهره، ويعملون ذلك لأسباب عملية ونظرية، مجيبة عن التساؤلات التي تساعد من يشتغلون بصناعة السينما، فقد يرغب المصور السينمائي في فهم مزايا ومثالب الشاشة، أو يتبين كل ضروب عملية صناعة الأفلام ذات الأبعاد الثلاثية، أو يدرس الفنون والعلوم لمجرد متعة المعرفة، فهي لا تضمن تعميق استمتاعنا بالفيلم، بل في الواقع يرى كثير من الدارسين أن فيها انتقاص للمتعة الأصلية بغير تفكير، فهو اختصاص أكاديمي يهدف إلى استكشاف جوهر السينما، ويوفر إطارات عمل مفاهيمية لفهم علاقة الفيلم بالواقع، وبالفنون الأخرى وبالمشاهدين من الأفراد وبالمجتمع كليا[6]، ويشمل مفهوم الفيلم الأفلام بجميع انواعها، والتلفزيون والوسائط الأخرى ذات الصلة ببعض علماء وفلاسفة الفيلم، واقترح البعض استبدال لفظ فيلم لتعم فئة أوسع نطاقا كنقل الصورة أو تحريكها، ويشمل ايضا البنية المؤسسية التي يتم خلالها إنتاج الأفلام وتوزيعها، وعرضها كنمط من أنماط الفن ومجال خصب للبحث الفلسفي والاستطيقي(الجمالي)، فالجانب الأخير تلعب فيه الصورة وسيطا فنيا، وكذلك تساؤلات الفحوى التي تساهم بالتأثير على حياة المتلقي نفسيا واجتماعيا وبطريقة واعية وغير واعية، وتتضمن كذلك كيفية صنع الفيلم وأثرها على الذات المتلقية، وخدمتها للقوى المتحكمة في صناعة القرار العالمي.
      فهناك أحداث عالمية مستقبلية يتم تمريرها للجمهور في شكل أفلام كفيلم الماعز الأليف، يعرض تعليقا عن المجتمع والسياسة الأمريكية، ويستخدم رموزا خفية وتلميحات لنظرية المؤامرة والحروب التدميرية بالعالم، فهناك أيادي خفية هي المتحكمة في القرار العالمي، وتصنع الرأي العام الامريكي والعالمي  كما يحلو لها.
نظرية بيير بورديو
      يعرض بيير بورديو Pierre Bourdieu عالم الاجتماع الفرنسي نظريته، مبرزا تأثير شاشة التلفزيون من جانب ما تعرضه من برامج وصور بعيدة عن الموضوعية، وتعكس رؤية غير محايدة؛ في كتابه “التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول”، حيث أنه وجه نقدا لاذعا لوسائل الإعلام التي تعمل على تنميط المشاهد، وجعل المجتمع خاضعا لأدوات ضبط وتحكم تهدف إلى توجيهه نحو استراتيجيات محددة، والسيطرة المحكمة على مختلف جوانب المجتمع الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، بالهيمنة على البنيات الإدراكية في حقل معين،  حيث تعمل وسائل الإعلام على تسويغ ملامح الحياة وجعلها طبيعية، فبعض القضايا تتخذ شكل مسلمات بناها المجتمع، وهي موجودة فيه، حيث تتجاوز التأثير على المشاهد، بل تنتج ثقافة جديدة من خلال تشكيل عقليات متطابقة مع أجندات ورؤى أصحاب النفوذ وتوجيهها لخدمة مصالحهم”…عندما يظهر التلفزيون ذلك الذي يجب عرضه لكن بطريقة غير أمينة، أو بأن يصبح غير ذي مغزى، أوعندما يقوم بإعادة تشكيله، بحيث يأخذ معنى لا يقابل الحقيقة على الإطلاق”[7]، تخفي وسائل الإعلام سيطرة وعنفا رمزيا، وتبعية المثقفين لها بشكل خاص، حيث أنها تحتكر وتستحوذ على الخطاب، وتفرضه على المشاهد، وتملأ عقول  الناس بالتفاهات،  وتدمرهم بوعي مزيف وبحجب المعلومات، لأنها تحولت إلى أدوات للضبط والتحكم السياسي والاجتماعي بيد الطبقة الحاكمة، ممارسة بذلك عنفا رمزيا مشينا في حق الجماهير، بتقديمها لفكر جاهز من خلال برامج سريعة، والإتقان والتفنن في حجب المعلومة الحقيقية وتبديلها بأخرى مضللة، وعن طريق لعبة المنع بواسطة العرض أيضا، وهذه الأمور تتم من خلال التأثير على عقول المشاهدين، وممارسة سلسلة من آليات الرقابة والتجسس، مثل استعمالات الحواسيب والهواتف الذكية…، وتوجد تواطؤا خفيا وشفافا وغير معلن عنه بين الممارسين والخاضعين بطريقة لاشعورية، أي أنها تمارس عنفا رمزيا غير مرئي ولا محسوس.
نظرية الإشباع والاستخدامات
      تقوم هاته النظرية على الخلفية الاجتماعية للفرد، وطبيعة التجربة الاتصالية لديه، ودرجة توقعاته مسبقا، وتهدف إلى تفسير وتحليل كيفية استخدام الجمهور لوسائل الإعلام المختلفة، لإشباع حاجاتهم وتوقعاتهم، والتعرف على دوافع وأنماط وخصائص إقبال الجمهور على نوعية وسائل إعلام محددة، وقياس النتائج المترتبة على التعرض لها[8]، فوسائل الإعلام مع الثورة التكنولوجية المعاصرة، خرقت كل وسيلة مألوفة إعلامية -تقليدية وتجاوزتها، حيث أصبحت تشبع أذواق وميول الجمهور، لتتجه بهم إلى بعد أحادي استهلاكي، يفقدون معه الحس النقدي والذوق الجمالي، بل استعبدت الأدوات الذكية  القلوب والعقول، فلا يكاد المستهلك يستطيع أن يفارق الهاتف الذكي على سبيل المثال، وتحول إلى مدمن عليه، فهو لا شعوريا ينتظر رناته والقنوات المعروضة عليه وألعابه، فأصبح مستعبدا ومغزوا رغم أنفه، وظهرت هاته النظرية مع أعمال لازارسفيلد LazarSfeld وستاتون stastoun وبيرلسون   berlssoun  وريليزriliz ، وغيرهم في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، وتركز على أن هناك على الأقل ثلاث مصادر لإرضاء الجمهور وإشباع فضوله، وهي محتوى وسائل الإعلام والتعرض لهاته الوسائل بحد ذاتها، والسياق الاجتماعي الذي يجسد حالة التعرض لوسائل الإعلام المختلفة [9]، فاختيار وسائل الإعلام من المتلقين تبدأ من الدوافع المبدئية، واستخدامها مرتبط بسمات الوسيلة والأهداف المتوخاة منها، وأجريت دراسات حول نفسيات الجماهير، لإشباع احتياجاتها واكتشاف توجهاتها وميولها، ومن ثمة إرضاؤها إعلاميا، وفي نفس الوقت تخديرها وتضليلها من خلال الصورة والمادة الإعلامية المقدمة.
نظرية سوق الولاءات
      هي نظرية تستند إلى الاقتصاد الكلاسيكي الجديد، الذي يصف سبب احتكار الحكومات وأصحاب السلطة، للراديو والأقمار الصناعية والأنترنيت ووسائل الإعلام الأخرى، من خلال الرقابة باستخدام التكنولوجيا المتقدمة، طورها في التسعينيات مونرو وبرايس،  وتركز أيضا على  تنظيم وسائل الإعلام لسوق التبادل، وللهوية والكينونة والبعد القيمي للإنسان، من أجل الولاء لذوي النعمة، الذين يتحكمون في القرارات والسلع من شركات متعددة الجنسية وعابرة للقارات، فمفهومها المحوري هو الثمن المعنوي، حيث تقدم وسائل الإعلام خدماتها لهاته الجهات، التي تتحكم فيها كواجهة وأداة تختفي خلف كواليسها واجهات بعيدة الطموح والأهداف، بتوفير خدمات مجانية للجمهور مقابل فقدان الهوية والروح العقدية والأنطولوجية في الإنسان، وأن يبقى تابعا ومقدسا لهاته الجهات دون درايته، بأنهم يستثمرون في الإعلام كجهاز يروج الإشاعات والأوهام، ويعزل الناس، ويشحنهم من أجل الاستهلاك بدون تفكير، ولاحس تساؤلي نقدي للواقع، وما يحدث فيه، ولكي يؤدي التضليل الإعلامي دوره بفعالية وقوة، يتم إخفاء شواهد وجوده عندما يشعر المتلقي أو الجمهور، أنه  يستهلك المنتوج الإعلامي بشكل طبيعي وحتمي، أي يزيف الواقع ويقلبه بأساليب شفافة وهادئة[10]، فالخدمات المجانية المنقولة للإنسان عبر قنوات التواصل الاجتماعي وعبر شبكات الأنترنيت، لها ثمن رمزي تتم تأديته على حساب القيم الاستخلافية الوجودية والمعرفية، والأخلاقية والعقدية والهوياتية للإنسان على ظهر الكوكب.
نظرية الثراء الإعلامي
      هي نظرية تركز على ثراء القنوات المختلفة القابلة للاستخدام، والتي تعتمد الخصائص الموضوعية للوسيط، وعلى ثروة المعلومات التي يتم نقلها أثناء مهمة يتعين القيام بها، تعتمد الثروة على عدم اليقين والغموض الملحوظ، وتتميز بالوصفية لاعتمادها على تصنيف الوسائط المختلفة، وفقا لسلسلة متصلة من الأفقر إلى الأغنى، وسرعة رد الفعل ومجموعة متنوعة من القنوات والتخصيص، وثراء اللغة والرسائل المراد نقلها.[11]
علاقة أنثروبولوجيا الإعلام بالإثنوغرافيا
      أنثروبولوجيا الإعلام: هي فرع من الدراسة داخل حقل الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، حيث تظهر الأبحاث الإثنوغرافية كطريقة لشرح المنتجين، وفئات الجمهور والأشكال الثقافية والاجتماعية من  حيث تعاملها مع وسائل الإعلام، وتستخدم العديد من المنهجيات، ومن أهمها الطرق النوعية وخاصة الإثنوغرافية، وعرف الأخيرة هيرز كوفنتر hirz kofintess بأنها الدراسة الوصفية  للحضارات، وبحث مشاكل وقضايا متعلقة بتحليل العادات البشرية للمجتمعات الإنسانية المتباينة في كيفية وسبل التعاطي مع وسائل الإعلام، من أقدم فروع المعرفة في علم الأنثروبولوجيا، وتعرف أيضا بأنها وصف لثقافات وحياة الشعوب، وذلك عن طريق الملاحظة “كتابه الإنسان وأعماله” فالإثنوغرافي تقتصر دراسته على الناحية الوصفية، بجمع البيانات ووصفها وصفا تفصيليا: “وصف حياة الشعوب”، فهي  طريقة للدراسة وجمع البيانات، تتضمن مراقبا مدربا يوثق حياة مجموعة، أو أشخاص موجودين باستخدام استراتيجية مشارك/مراقب، كما يشير إلى نتاجه في مسار البحث، الذي يتخذ شكل دراسة تنظم البيانات التي تم جمعها، وتصفها وتحللها، فهي الطريقة الأكثر شيوعا، التي يستخدمها عالم الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، لجمع البيانات النوعية، والتي تستخدم من قبل عالم الآثار، والأنثروبولوجيا البيولوجية لأنواع معينة من المشاكل، التي تتطلب بيانات من أشخاص أحياء، أو أشخاص يعيشون في بيئة طبيعية.
      أما الأنثروبولوجيا فهي النظام العلمي الذي يركز على الجنس البشري وأصوله، وتطوره وتوزيعه، والقواسم المشتركة  والتنوع في طريقة تنظيم الإنسان والتكيف مع الحياة عبر الزمان والمكان، يقول بول رادين: “ليس المهم الحصول على تاريخ الشخص ذاته، وإنما المهم هو وصف طريقة حياة الأشخاص، وعلاقاتهم بالجماعة الاجتماعية التي عاشوا فيها “(دراسته لهنود دينباجو)،  فهي اندماج لحركة العلوم الاجتماعية التي بدأت أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، عندما بدأ المجتمع الغربي في تطبيق نموذج العلم لدراسة نفسه، وهنا بدأت الفلسفة الاجتماعية في التحول، من التركيز الذاتي إلى التركيز الموضوعي فيما يتعلق بالبشرية، وتناولت مشكلة دراسة الشعوب غير الأوربية وغير المتعلمة، التي واجهتها أوروبا في توسعها الاستعماري، فأصبحت الإتنوغرافيا هي الطريقة المعتمدة لجمع المعلومات المباشرة، لتوثيق حياة ومجتمعات وثقافات الشعوب التي واجهتها، فيمكن لعالم الأنتربولوجيا من خلال الإتنوغرافيا اكتساب فهم أعمق لموضوعه، فالأنثروبولوجيا علم تخصصي، والإثنوغرافيا طريقة يلجأ إليها الباحث الأنثربولوجي في الوسائط الإعلامية لتحليل وتفسير وتأويل الظاهرة الإعلامية، من حيث أساليب وكيفيات التعامل معها من لدن الجمهور، فأنثروبولوجيا الإعلام إذن، هي إثنوجرافية تطبيقية مستندة للبحث الإثنوغرافي، من حيث إيجاد مبادئ عامة للثقافة  الإعلامية ووسائطها، وشرح ماهيتها في علاقتها بالمتلقي فردا كان أو جماعة.
      اكتشف علماء الأنثروبولوجيا الوسائط الإعلامية التقليدية والحديثة، من حيث مساهمتها الفردية في أنواع مختلفة من الممارسات، وتوظيف الوسائط ودراسة الأشخاص الدارسين لوسائل الإعلام (باحثين إعلاميين، دراسات علماء الإعلام ببلدان مختلفة…)، ويحدد علماء أنثروبولوجيا الإعلام دراساتهم الإثنوغرافية  داخل مجتمع الدراسة، حيث يختار بعضهم مجتمعا افتراضيا أو واقعيا، فالأول قام بدراسته توم بولستورف Tom Bolstorff “منصة الواقع الافتراضي”، أي كيف يستخدم مجتمع جغرافي (بلدة منطقة)، أو يتكيف أو يتحول تحت تأثير نوع معين من الوسائط أو التكنولوجيا، ويدرسون أيضا الطرق التي بها تستخدم وسائل الاتصال الجماهيري والوسائط الرقمية مثل: مجتمعات الشتات، والمجتمعات الثقافية المشتتة من أوطانهم الأصلية[12] مثل: اللاجئين والأقليات الإثنية والعرقية …، وركزت بعض الدراسات على أسئلة المعنى للمعلومات المنقولة،  التي يتم تفسيرها بنفس الطريقة، بغض النظر عن كيفية إيصالها واستقبالها، مثلا:  كيفية تفسير المسلسلات المصرية المتلفزة من قبل المشاهدين، والمعاني التي تعطيها الوسائط المختلفة، وإمكانية التحكم فيها من المنتجين والقيم التي تحملها[13]، واليوم تعد وسائل الإعلام هدفا أكثر شيوعا للتحليل في الأنثروبولوجيا الثقافية الأمريكية، وتقدم أبحاث الإعلام مسارا وظيفيا وهاما، للعديد من علماء الأنثروبولوجيا الشباب، بتعيينهم في شركات الاتصال والإعلام قصد ابتكار تقنيات جديدة، والقيام بأبحاث تصب في تطوير استراتيجيات الاتصال والإعلام والبرمجة الخاصة بالثقافة، موظفين النظرية الاجتماعية والأساليب الإثنوغرافية للمساعدة في إنشاء تطبيقات وتقنيات وسائط المستقبل[14]، ومن الشركات التي توظف هؤلاء العلماء مثلا: شركة انتيل وميكروسوفت،  Intel و Microsoft  وهي تمارس شكلا جديدا من الغزو الفكري للعقول البشرية، وترويضها لاستهلاك منتوج هاتين الشركتين العملاقتين، اللتين توظفان أحدث وسائلهما التكنولوجية كوسائط إعلامية، وتستعمل أنثروبولوجيا الإعلام للتسويق لمنتوجاتها، وفي نفس الوقت استعباد الجمهور، ورهن مستقبله ومصالحه بالخضوع للتنويم الإعلامي، الذي هو وسيلة بيدها توظفه لرسم خطط المستقبل العالمي، وبالطبع هاته الشركات تتحكم فيها جماعات ضغط مالكة للبنوك العالمية، وبالتالي السياسات العالمية التي تتحكم في دواليبها وتسييرها عن طريق الآلة الإعلامية المتطورة الغازية للقلوب والعقول، ومالم تعد أنثروبولوجيا الإعلام لتقوم بأبحاثها الأصلية لتنوير الوعي العالمي، وكشف الحجب عن هاته الجهات التي تسير العالم بوسائطها المتعددة الأشكال، ومنها الإعلام، سيبقى الإنسان عالميا مغشوشا ومتلاعبا به، تحت نير الاستغلال والعنف، الممارس عليه بحيل ذكية وغير محسوسة، ولا يمكن إدراكها بالملموس، ومن بين الدراسات التي يمكن تسليط الضوء عليها من لدن أنثربولوجيا الإعلام، وتسلحا بالطريقة والمنهج الإثنوغرافي، مثلا دراسة “عادات المشاهدة التلفزيونية لدى الأسرة في منطقة التارقي  بالجزائر” (بوغراري شيخة)، و”دور وسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل بعض القيم لدى المرأة الريفية المغربية”، ويدعو الوهم الذي تبثه الوسائط الإعلامية إلى التسلح بقيمة الوعي الشعبي لمواجهة التضليل والإيهام الذي يقوم به التلفاز، إن هذا التحليل يسعى إلى تقديم إمكانية للتحرر للواحد وللآخر، عن طريق استعادة الوعي بهيمنة هذه الآليات، وربما اقتراح برنامج للعمل المشترك بين الفنانين والكتاب والعلماء، وأيضا الصحافيين الحائزين على احتكار كل أدوات ووسائل التوزيع فقط، مثل هذا التعاون وحده يسمح بالعمل بكفاءة على انتشار المكتسبات الأكثر علمية للبحث”[15].
      بعدما سيطرت البحوث الكمية على دراسات جمهور وسائل الإعلام، والتي همشت في مجملها دور المتلقي ومختلف تفاعلاته وتأويلاته للمنظومة الإعلامية، ولم تعط معلومات وافية لتفسير السلوكيات والممارسات الفردية في حد ذاتها (دانيال سيفي  daniel sifi ودومينيك باسكيي dominic paskié)، برز الاهتمام بالمقاربة الإثنوغرافية في دراسات جمهور وسائل الإعلام، حيث نشأت أبحاث الاتصال والإعلام  في أحضان التخصصات العلمية للعلوم الاجتماعية، فكانت حاضنة لدراسة الظاهرة الإعلامية، كما أن الباحث الإثنوغرافي هو من النوع المشاهد والمشارك والمعايش لمجتمع الدراسة، وكيفية تقبل المشاهد للوسائط الإعلامية، وعادات وتقاليد وقيم ترتبط بسلوك وفعل المشاهدة،  ومن بين خطوات المنهج الذي يتبعه الإثنوغرافي لوصف الظاهرة الإعلامية في تنوع أشكالها الواقعية والافتراضية هناك: الملاحظة بالمشاركة-العملية-الوصف – التحليل، وعندما ينتهي عمل الإثنوغرافي الوصفي، يبدأ دور الأنثروبولوجي في الإعلام ليحلل ويفسر ويؤول، ويُقَيم ما توصل اليه الباحث الإثنوغرافي، وبالتالي فعملهما تكاملي وتداخلي أثناء تناولهما للظاهرة الإعلامية.
علاقة الإعلام بالثقافة
     يسمى الإعلام الذي يتخصص، ويدرس الثقافة بالإعلام الثقافي، ويندرج ضمن مجالات الحياة الاقتصادية والأمنية والرياضية.. ويتناول الأحداث والظواهر والتطورات في هذا المجال ضمن سياقات اجتماعية واقتصادية عامة، وما تقوم به المؤسسات والمنابر الإعلامية المختصة، برز نتيجة تطورات متسارعة عرفتها تكنولوجيا الاتصال، وجاء تلبية لاحتياجات الجمهور المتعدد الاهتمامات، ووسيلة تتبع هاته المؤسسات لمواجهة متغيرات العصر والمنافسة بينها، كما أن نجاح هاته المؤسسات متوقف على تراكماتها الثقافية، لاستقطاب الجماهير وإيصال رسالتها بنعومة وسلاسة، فكل ارتباط في الجهاز العصبي يؤثر في الشخصية مهما تكون قوتها، و كل ما يتصل بتدفق الإعلام، له انعكاسات على نظرة الفرد إلى مقومات المجتمع الثقافي، التي يستمد منها أصوله ويثبت بها انتسابه إلى هذا المجتمع.
      فمن وظائف الإعلام التربية والتكوين والتثقيف، ونشر المعلومة الصحيحة والخبر الصادق لا المزيف، هذا هو أصل العمل الإعلامي، وتنمية الطاقات والكفاءات وإشباع حاجات الإنسان المتعطش للمعلومة من مصادرها الموثوقة، مخاطبا عقول الناس لا غرائزهم وشهواتهم، وتنمية الحس النقدي والذوق الفني الرفيع، والعمل من خلال برامج هادفة لزيادة المعرفة والإقناع، فعلاقة وسائل الإعلام والثقافة تفاعلية وتواصلية، فالإعلام امتداد ودعم للنشاطات الثقافية وقدراتها، إلا أن التدفق الإعلامي حاليا، يُبث بسرعة متناهية من العالم المتقدم إلى العالم النامي، مما يهدد الثقافة المحلية، ويصهرها ويذيبها في “النحن الغربية “على حساب “هوية انسان دول العالم النامي”، فالإعلام يشكل الجانب العملي للفكر والسياسة، وتجسيدا للثقافة العامة، يجعلها تعي ذاتها وكينونتها، لكن الإعلام في الجوهر تحول إلى أداة، تستعملها القوى المالكة لزمام السياسة العالمية في جميع المجالات، بما فيها مجال الثقافة لتروج لثقافتها العابرة للقارات مدجنة للإنسان، حيث أصبح غريبا عن ذاته وانتمائه، لأن المجتمع الصناعي المتقدم، استخدم وسائل الإعلام كأداة لخلق حاجات زائفة، من خلال الإعلان والدعاية والصورة والصوت، والخيال الافتراضي، لإنسان ذو بعد واحد، مستهلك وخاضع للإمبريالية الاستعمارية في صورتها الثقافية، بالسيطرة على العقل الإنساني واختزاله في قالب أحادي، مع إيهامه أنه حر في اختيار المنتوجات الإعلامية المعروضة عليه، فبدون وعي منه تحول الإنسان إلى مجرد مسمار في آلة ضخمة، جعلته يقدس الآلة الذكية “ثورة الإنفوميديا”، وغير قادر على التحكم فيها والوعي بخطورتها على حياته ككل. وغالبا ما تعتبر الثقافة الإعلامية مع انحباسها في الإعلان والعلاقات العامة، نظاما يركز على التلاعب بالجمهور[16]، وتستخدم وسائل الإعلام المؤسسية في المقام الأول، لتمثل الأيديولوجيات المهيمنة وتعيد إنتاجها، وربط ثقافة الإعلام بالنزعة الاستهلاكية “ثقافة الاستهلاك”، وتوفيرها في شكل خدمات إعلامية مجانية، كمواقع وصفحات التواصل الافتراضي، من أجل التمويه وإيصال وتمرير خطاباتها المسيسة، والخادمة لأصحاب النفوذ والقرار العالمي، ويبقى أصحاب القرار المحلي والقومي والقاري، مجرد شماعات وواجهات تختفي وراءها جهات تسير دواليب العالم بجميع أطيافه، بامتلاكها للقوة المالية والاستراتيجية، وهذا لا يعني رفض الانفتاح على الثقافة الإعلامية، وحسن استثمار التكنولوجيا في الثورة الإعلامية الجارية، من خلال حس نقدي ينتقي الأكثر فائدة والأنفع، ولا يسمح بذوبان الشخصية، فالثورة الجديدة مع الجيل الرابع والخامس مهمة ونافعة، إن تسلحنا بفكر إعلامي واع، وتمرسنا على قوة التفكير النقدي، والتمحيص في المعلومة الإعلامية وأداتها، وغربلتها بمصفاة الفحص والنقد والشك، للوصول إلى ما يصلح للذات العربية المسلمة، وما لا يصلح لها، فالهدف من التبادل الثقافي هو إثراء الثقافة الوطنية وسوقها نحو التكامل، أما الغزو الثقافي فهو يهدف إلى استئصال الثقافة الوطنية واجتثاثها، فالتبادل الثقافي الحذر أساسي، لأن الدول الكبرى تقود غزوا ناعما وغير مرئي، ثقافي شفاف وغير ملحوظ”، وهوما ينطبق على المواد والرسائل التي تقدم إلينا من خلال بعض القنوات العربية والأجنبية، فهي تخدم الأجندات الخارجية بأدوات عربية، وبالإمكان مقارنة بين تأثير قناة الحرة الأمريكية ..وبين أي قناة إعلامية عربية أو إسلامية في منطقتنا، وقياس حجم التضليل والتأثير على جمهورنا، وهو ما أشار إليه جوزيف ناي بكلمته الخطيرة؛ إن أفضل الناطقين باسم الأفكار والأهداف الأمريكية هم غير الأمريكيين من الوكلاء”[17]، فالآلة الإعلامية تقوم بحرب وغزو خفي للعقول،  حيث تعمل على تبليدها من خلال نقل المعلومة المسيسة والمؤدلجة والمسمومة، وبشكل ناعم وسلس لا يرى، بل يُكره المستهلك الإعلامي ويجبره، لينغمس بجوارحه باستعمال جميع الإمكانات التقنية الحديثة، في هذا المجال لجلب واستقطاب اهتمامه وجعله منبهرا، وكأنه يعيش الحقيقة والواقع، بينما هو في عالم مزيف لا يمت للواقع بأدنى صلة، إنه “الإدمان الجديد بدل التخدير التقليدي بالمواد المهلوسة”.
خاتمة
      في الأصل أنثروبولوجيا الإعلام، تدرس الظاهرة الإعلامية من منظور علمي، وتفكك ألغازها وأبعادها، من أجل تحسين الخدمة الإعلامية للجمهور فردا كان أو جماعة، لكن تحولت البوصلة، ليصبح الإعلام وسيلة للتضليل والخداع، ورسم معالم التيه والوهم،  وقلب الحقيقة وتشويهها، خدمة لجهات وأطراف تتحكم فيه، وتوجهه لتلميع صورة شركاتها العابرة للحدود، والتسويق لمنتوجاتها المتنوعة، ولو تطلب الأمر إيهامه بأنه حر في الاختيار بين خدمات مجانية متعددة إعلامية، وفي العمق يتم استعباده وإفقاده لهويته وكينونته واستخلافيته الإسلامية، ليصبح عبدا للوسائط التكنولوجية الموظفة إعلاميا.
      ومن بين التوجيهات التي يمكن العمل عليها، لمواجهة الخطر الإعلامي ووسائطه التكنولوجية المستثمرة في تخدير الإنسان، نذكر ما يلي:
1ـ توعية الرأي العام بخطورة ما يحاك للشعوب من تفتيت وتذويب للهوية الاسلامية والعربية عن طريق تخصيص منابر إعلامية حرة ومستقلة، وبتنوير الناس بثقافة الإعلام الأصيل، الذي يكشف الحقيقة ويزيل الالتباس، ويقدم المعلومة الصادقة، لا المزيفة والقالبة للحقيقة.
2ـ تنمية الذوق والحس النقدي لدى الناس، والبدء ببرامج إذاعية تحسيسية وتوجيهية، بالمدارس في جميع مراحلها.
3ـ انتقاء برامج هادفة وتثقيفية وقنوات علمية، تنور العقل، وتفتحه على النهج الصحيح ومواجهة الخطأ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – منذ منتصف التسعينات من القرن العشرين مع الوفرة المعلوماتية بتطور الانترنيت بدأ الناس يتحدثون عن الإعلام الجديد ودلالاته وتداعياته علي الحياة البشرية.
[2]Granzberg.F (1991) ,Indegnus médium: Fanstian contrat or global village ? cultural Anthropology,6,1:92-112
[3] Bryce peake  , »Media Anthropology:Meanig ,EMBODIMENT, INFRASTRUCTURE ,And Activism,  university of Maryland ,Baltimore country
[4] – فرانك كليش “ثورة الإنفوميديا: الوسائط المعلوماتية وكيف تغير عالمنا وحياتنا؟ ”  ترجمة حسام الدين زكريا سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب-الكويت عدد 253 ص 82.
[5]-Terence Turner,the kayapa vedeo project:Aprogress Report unpublished Manuscript(Turner1990),1
[6] – منال ابو الحسن “علم الاجتماع الإعلامي اساسيات وتطبيقات” دار النشر للجامعات طبعة 2009 ص 257-258
[7] – دادلي اندرو “نظريات الفيلم الكبرى “ترجمة جرجس فؤاد الراشدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة 1987 ص 9.
[8] بيير بورديو “التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول “، ترجمة درويش الحلوجي، دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية، الطبعة الأولى 2004 ص49.
[9] الطالبة الباحثة منى احمد المصري “الكتاب والأدباء الأردنيون والإشباعات المتحققة له من وسائل الإعلام التقليدية والرقمية “رسالة ماجستير كلية الإعلام جامعة الشرق الاوسط 2010 ص14-15
[10] نسرين عجيب “الثورة الافتراضية دروس لحل التواصل الاجتماعي في الثورات” ص 48-49
[11] ا. هربرت شيللر “المتلاعبون بالعقول” ترجمة عبد السلام رضوان سلسلة عالم المعرفة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت عدد243 مارس   1999 ص16
[12] R.Daft et R.Lengel,M.kalika «  théorie de la richesse des médias:le choix d’un médias ou mille feuilles »
-Bryce peake  , »Media Anthropology:Meaning ,EMBODIMENT, INFRASTRUCTURE ,And Activism,  university of Maryland ,Baltimore country [13]
[14]-Abu-Lughod,lila.Dramas of Nationhood:the poltics of Televisin in Europe.( chicago press,2004)
Bryce peake  , »Media Anthropology:Meaning ,EMBODIMENT, INFRASTRUCTURE ,And Activism,  university of Maryland ,Baltimore country -[15]
[16] بيير بورديو “التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول “ترجمة درويش الحلوجي در كنعان للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية الطبعة الاولى 2004 ص140
[17]  -Jonathan Bignell « Post Modern culture,published in agrment with Edinburgh ,university press lid 22,George square,First published in India,2007,publshed by A Akcer books.p.2-21
[18] مركز الحرب الناعمة للدراسات ” الحرب الناعمة الاسس النظرية والتطبيقية “بيروت-لبنان الطبعة الاولى 2014
المراجع باللغة العربية
1ـ هربرت ا.شيللر “المتلاعبون بالعقول”، ترجمة عبد السلام رضوان، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت عدد 243 مارس 1999.
2ـ دادلي اندرو “نظريات الفيلم الكبرى “، ترجمة جرجس فؤاد الراشدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب طبعة 1987.
3ـ بيير بورديو “التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول”، ترجمة درويش الحلوجي، دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية، الطبعة الأولى 2004.
4ـ الطالبة الباحثة منى أحمد المصري “الكتاب والأدباء الاردنيون والإشباعات المتحققة له من وسائل الإعلام التقليدية والرقمية”، رسالة ماجستير كلية الإعلام جامعة الشرق الأوسط 2010.
5ـ نسرين عجيب “الثورة الافتراضية دروس لحل التواصل الاجتماعي في الثورات”.
6ـ مركز الحرب الناعمة للدراسات، (الحرب الناعمة، الأسس النظرية والتطبيقية)، بيروت-لبنان الطبعة الأولى 2014.
7ـ فرانك كليش، “ثورة الأنفوميديا: الوسائط المعلوماتية وكيف تغير عالمنا وحياتنا؟”، ترجمة حسام الدين زكريا، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب-الكويت عدد 253.
8ـ منال ابو الحسن “علم الاجتماع الإعلامي أساسيات وتطبيقات”، دار النشر للجامعات، طبعة 2009.
المراجع باللغة الانجليزية
 1 – Bryce peake, Media Anthropology: Meaning EMBODIMENT, INFRASTRUCTURE ,And Activism, university of  Maryland ,Baltimore country
2ـ Abu-Lughod,lila.Dramas of Nationhood: the poltics of Televisin in Europe.( chicago press,2004).
3ـ Bryce peake , »Media Anthropology: Meaning ,EMBODIMENT, INFRASTRUCTURE ,And Activism, university of Maryland ,Baltimore country
4ـ jonathan Bignell « Post Modern culture,published in agrment with Edinburgh ,university press lid 22,George square, First published in India, 2007,publshed by A Akcer books
5ـ Granzberg.F (1991), Indegnus médium:  Fanstian contrat or global village ? cultural Anthropology,6,1: 92-112
6ـ Bryce peake  , »Media Anthropology: Meaning EMBODIMENT, INFRASTRUCTURE ,And Activism,  university of Maryland ,Baltimore country
7ـ Terence Turner, the kayapa vedeo project:  A progress Report unpublished Manuscript (Turner1990),1-
المراجع باللغة الفرنسية
R.Daft et R.Lengel,M.kalika «  théorie de la richesse des médias:  le choix d’un médias ou mille feuilles » –

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى