الباحث الدكتور ادريس رويبة
ناقش الباحث صباح يوم الاثنين 8 فبراير 2021م بجامعة المولى إسماعيل كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، في موضوع: “أصول البيان بين الإمام الشافعي والإمام الشاطبي: التأسيس والتجديد”، ضمن وحدة تفسير الخطاب الشرعي: قضايا ومناهج، وقد تكونت لجنة المناقشة من السادة الأساتذة:
ـ د.فؤاد محداد مشرفا ومقررا
ـ د.فؤاد بوقجيج عضوا
ـ د.عمر جدية عضوا
ـ د.باسيدي لمراني علوي عضوا
ـ د.محمد الأنصاري عضوا
وبعد مناقشة علمية مثمرة، نال الباحث شهادة الدكتوراه في الآداب شعبة الدراسات الإسلامية بميزة مشرف جدا مع التوصية بالطبع، والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات.
ملخص البحث:
الحمد لله الذي أنزل الكتاب ولم يجعل له عوجا، واستودعه أصولاً هاديةً إلى المقاصد الربّانية، وقواعدَ كاشفةً للهدايات القرآنية، والصلاة والسلام على من أوكل إليه ربه مهمة بيان كتابه، فقال سبحانه:﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون﴾([1])، فكان البيان منه r قولاً وفعلاً وتقريراً، والرضى عن الصحابة الكرام الذين تشربوا المنهج النبوي في تلقي آي القرآن فقها وتنزيلا، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم، وتبرَّك بصحبة صحبتهم لخير الورى، وعلى من استنّ بسنتهم واستقام على نهجهم إلى يوم الدين.
وبعد: فإن العلوم الشرعية إنما نشأت ابتداء من الوحي، تحقيقا لمقصد البيان في الكتاب والسنة، وهو ما يعكس وحدتها الموضوعية تبعا لوحدة الأصل والمصدر، ويفسر تكاملها المنهجي تبعا لوحدة الغاية والمقصد. لذلك؛ كان بيان القرآن الكريم أولى القبلتين للعلوم الشرعية جميعها لخدمته، فهما لمقاصده، وتنزيلا لهداياته، وقد كانت تلك العلوم في نشأتها الأولى، متصلة غير منفصلة، يأخذ بعضها بحجز بعض، تحقيقا لمقصد البيان في الوحيين.
ولما كان كتاب الرسالة للإمام الشافعي أول التواليف التي خضعت لمنهج التأصيل في التصنيف، ولمنطق الجمع في التقعيد للعلوم الشرعية الخادمة لبيان الوحي، حق لنا أن نبحث في جوانب التأسيس للعلم الضابط للقرآن الكريم، عند الإمام الشافعي، باستقراء ما تضمنته “رسالة” الإمام الشافعي، من أصول وقواعد وضوابط، تروم ضبط الفهم والبيان لمعاني القرآن، من خلال تثوير النظر في مباحث كتاب “الرسالة”، واستصحاب الظروف العلمية والفكرية والاجتماعية التي أسهمت في إنتاجها، في أفق إثبات أن التأسيس المنهجي لأصول بيان الخطاب القرآني، إنما تخلق من رحم مباحثها، بما اكتنزته من جوامع الأصول وكليات القواعد الضابطة لفهم نصوص الوحي.
وفي محاولة لإثبات عناية من جاء بعد الإمام الشافعي، بالتجديد لعلم أصول البيان، فقد عمدتُ إلى دراسة أصول البيان عند واحد من أهل العلم المنظّرين للعلوم الشرعية الإمام أبي إسحاق الشاطبي في كتابه “الموافقات”، الذي يمثل بحقّ مرحلة التجديد المقاصدي والابتكار المنهجي في التعامل مع نصوص الكتاب والسنة، من خلال استقراء الأصول المرجعية والقواعد المؤسسة لمنهج البيان القرآني لديه، فهما وتنزيلا.
من هنا جاء هذا البحث ليمثل وجها من وجوه المراجعة العلمية للوضع التاريخي لعلم أصول البيان، وهي مراجعة تشمل المصطلح الواصف للعلم المقصود بالدراسة، وهو مصطلح: “أصول البيان”، للاستعاضة به عن المصطلح الشائع بين الدارسين؛ مصطلح “أصول التفسير”، كما تشمل المراجعة مجال الدراسة: كتاب “الرسالة” للإمام الشافعي، وكتاب “الموافقات” للإمام الشاطبي.
الأول: من خلال مراجعة مباحثه، وتوسيع النظر فيما اكتنزته من أصول مرجعية، وقواعد منهجية، وضوابط حاكمة، بما يسعف في إثبات صلاحيتها لتكون أركانا مؤسسة لصرح العلم الضابط لبيان معاني القرآن كل القرآن، وهو “علم أصول البيان”.
والثاني: ببعث مقاصد تأليف الإمام الشاطبي لكتابه “الموافقات”، وتجديد النظر في المسائل العلمية التي بنى عليها نظرية البيان لمقاصد الكتاب والسنة.
من هنا، جاء هذا البحث جامعا في الدراسة بين الإمام الشافعي والإمام الشاطبي؛ ليرصد جوانب التأسيس والتأصيل في “الرسالة”، ومعالم التجديد والتقصيد في “الموافقات”، للعلم الذي يعنى ببيان معاني القرآن الكريم، وقد اخترت له عنوان: أصول البيان بين الإمام الشافعي والإمام الشاطبي: التأسيس والتجديد
إشكالية البحث:
يحاول البحث إثبات أن “علم أصول التفسير” كان قائم الذات بمنهج واضح الأصول، محكم القواعد والضوابط، بَيِّن المصطلحات، في الموروث العلمي لحذاق العلم المتقدمين، لا حديث التناول بين الدارسين المحدثين، أو مجرد مباحث ومسائل متناثرة هنا وهناك بين مقدمات التفاسير، وفي ثنايا تفسيرهم لآي القرآن.
وفي أفق الإجابة عن هذا الإشكال العلمي، بسطت الأسئلة الآتية:
ـ هل كان المنهج الذي اختطّه الإمام الشافعي في “الرسالة”، مجرد مدخل إلى فهم النصوص الفقهية خاصة، أم كان منهجا لحل مشكلة البيان في الوحيين؟
ـ ألا يسعفنا النظر في مقصد تأليف “الرسالة” في إثبات النشأة الأولى لعلم أصول البيان؟
ـ ألا نجد في مضمون رسالة عبد الرحمن بن مهدي ما يطالبنا بتوسيع النظر في وظيفة الأصول والقواعد والضوابط التي اكتنزتها “رسالة” الإمام الشافعي، ما يجعلها أول المصنفات المؤصلة للعلم الضابط لبيان القرآن؟
ـ ألم يكن المشروع العلمي الذي أودعه الإمام الشاطبي في “الموافقات”، بعثا ل”نظرية البيان” كما أسس لها الإمام الشافعي في “الرسالة”؟
هل يسعفنا النظر في مقصد تأليف “الموافقات”، في تأكيد تأصيل الإمام الشاطبي لعلم أصول البيان وتقصيده، إلى جانب العلوم الأخرى؟
وتأسيساً على ما سبق، فإن هذه الدراسة تروم تحقيق المقاصد العلمية الآتية:
1ـ تأكيد العمق التاريخي لوجود علم أصول البيان بإثبات أن تأسيس أصول البيان بالمعنى العلمي المنهجي، إنما تم على يد الإمام الشافعي -رحمه الله- بتأليفه لكتاب “الرسالة”.
2ـ إثبات أن علم أصول البيان قد وضع المتقدمون من العلماء أصوله وقواعده، بها استحقّ أن يكون علما قائم الذات، وأنه اليوم، بحاجة إلى بعث أصوله واستكشاف قواعده، وتَبَيُّن ضوابطه.
3ـ رصد جانب التأصيل والتقعيد “للعلم الضابط لبيان القرآن الكريم” عند الإمام الشافعي الذي بقي مغيّبا طيلة قرون مضت، خضوعا لفكرة تأصلت وتجذرت، مفادها أن “رسالة” الإمام الشافعي قد وضعت أساسا في أصول الفقه، وهي فكرة لا تجد شرعيتها ضمن السياق التاريخي لظهور “الرسالة”، زمن نشأة العلوم وتأسيسها، والطبيعة الاستيعابية التي ميّزت كتاب “الرسالة”، فعلوم الشريعة لما تعرف بَعْدُ-على عهد الإمام الشافعي- الاستقلال عن بعضها البعض، بما يجعل دعوى اعتبار “الرسالة” حكرا على علم أصول الفقه، دعوى واهية لا تأوي إلى ركن شديد، ولا يعضدها أصل عتيد.
4ـ توسيع النظر في رسالة الإمام الشافعي ببعث المقصد من تأليفها، وهو مقصد البيان لأصول فهم الخطاب القرآني.
5ـ رصد أهم الأصول المرجعية والقواعد المنهجية والضوابط العلمية التي اعتمدها الإمام الشاطبي في الفهم والبيان لكتاب الله تعالى؛ تأكيدا للامتداد في التأصيل لبيان معاني القرآن بين الشافعي والشاطبي، ذلك الامتداد الذي يفسره تشابه ظروف البدء والتأسيس التي واكبت زمن الشافعي مع ظروف البعث والتجديد التي أظلت عهد الشاطبي، وهو ما أسهم في ركوبهما نفس المركب في التأصيل للقضايا الكلية الجامعة بينهما، وأضفى طابع المشروعية على هذه الدراسة.
6ـ بث روح التكامل المنهجي بين العلوم الشرعية، لإيجاد نسق معرفي قِوامُه الوحدة والتناسق، نموذجه في ذلك وحدة الوحي ومحورية القرآن، وتفتق العلوم والمعارف الإسلامية عنه خادمة له فهما وبيانا، ونبذ فكرة التفاضلية بين العلوم الشرعية، تلك الفكرة التي تؤسس لخلفية المصادرة العلمية لبعض العلوم دون بعض، مع أن نشأة وتطور وترعرع هاته العلوم، إنما كان في كنف القرآن والسنة لخدمتهما أصالة.
وصف لأهم قضايا البحث:
لقد اقتضت طبيعة البحث أن تنتظم قضاياه الرئيسة في بابين اثنين مصدّرين بمقدمة وتمهيد، ومشفوعين بخاتمة تضمنت أهم الخلاصات والنتائج العلمية.
أما المقدمة، فتناولت فيها أهمية موضوع البحث، والدواعي العلمية التي حفزت اختياري له، ثم الإشكال العلمي المزمع دراسته، والدراسات السابقة، وأهداف البحث، علاوة على المنهج العلمي المعتمد في هذه الدراسة.
وأما الفصل التمهيدي، فأفردته للكلمات المفتاحية الناظمة للعنوان بيانا وتعريفا ورصدا لعلاقة علم أصول البيان بعلم أصول الفقه رصدا تاريخيا وتأصيلا مرجعيا، ووسمته ب”أصول البيان: المفهوم والسياق التاريخي”.
أما الباب الأول فسميته:”أصول البيان الكلية بين تأسيس الشافعي وتجديد الشاطبي“، بسطت فيه معالم الـتأسيس لأصول البيان الكلية عند الإمام الشافعي، وجوانب التجديد في هذه الأصول عند الإمام الشاطبي، ويتألف جِيدُ هذا الباب من خمسة فصول:
فالأول من هذه الفصول وسمته ب“بيان القرآن بالقرآن”، ويتكون من ثلاثة مباحث: عقدت الأول منها لتعريف “بيان القرآن بالقرآن” وأهميته في البيان، وقاربت في الثاني تأصيل كل من الشافعي والشاطبي لبيان القرآن بالقرآن، بينما خصصت الثالث لعرض القواعد والضوابط المتفرعة عن هذا الأصل.
وأما ثانيها، ف“بيان القرآن بالسنة”، وهو في ثلاثة مباحث: قصدت في الأول منها إلى تعريف “بيان القرآن بالسنة” وحجيته في البيان، واختص الثاني منها برصد معالم التأصيل لعلاقة السنة بالقرآن عند الشافعي والشاطبي، وتضمن ثالث المباحث أهم ما وقفت عليه من القواعد والضوابط التي اكتنزتها “الرسالة” و”الموافقات”.
وأما ثالث الفصول ف“بيان القرآن بالإجماع” الذي انتظم ثلاثة مباحث: خصصت الأول منها لتعريف “بيان القرآن بالإجماع” وسلطته في البيان، ورصدت في المبحث الثاني حقيقة الإجماع وسياقه التداولي ووظيفته البيانية عند الإمام الشافعي، كما تناولت في هذا المبحث منهج الإمام الشاطبي في الاستدلال بأصل الإجماع لبيان معاني القرآن، ليحتضن المبحث الثالث قواعد بيان القرآن بالإجماع وضوابطه.
وأما الفصل الرابع، فهو “بيان القرآن بلسان العرب”، بسطت في أول مباحثه، مفهوم بيان القرآن بلسان العرب وركنيته في البيان، وقصدت في المبحث الثاني إلى كشف معالم التأصيل لبيان القرآن بلسان العرب عند الإمام الشافعي بدءا من التأسيس لمعهود العرب، وكيف آل هذا المفهوم عند الإمام الشاطبي، مع رصد النظائر الواصلة والفروق الفاصلة بين الإمامين، وخصصت المبحث الأخير من هذا الفصل لأهم القواعد والضوابط المتعلقة بلسان العرب في “الرسالة” والموافقات”.
وأما الفصل الخامس، ف“بيان القرآن بالرأي والاجتهاد”، وهو في أربعة مباحث: اختص أولها بتعريف بيان القرآن بالرأي وضرورته، وقصد ثانيها إلى مقاربة جهود الشافعي والشاطبي في ضبط تفسير القرآن بالرأي، واحتضن ثالث المباحث أهم القواعد والضوابط التي استبطنتها “الرسالة” و”الموافقات”، بينما تمحض المبحث الرابع لذكر الشروط العلمية والمنهجية التي يجب توافرها في المفسر كما نص عليها الإمامان الشافعي والشاطبي.
وأما الباب الثاني فاخترت له عنوان: “أصول البيان الجزئية بين تأسيس الشافعي وتجديد الشاطبي“، ويتألف جِيدُهُ من خمسة فصول: وسمت الأول منها بعنوان: “السياق وسلطته في بيان معاني القرآن”، وهو في ثلاثة مباحث: بسطت في أولها: مفهوم السياق وأهميته في بيان معاني القرآن، وقاربت في ثانيها معالم تأسيس الإمام الشافعي لأصلية البيان بالسياق، وجوانب تجديد الإمام الشاطبي لوظيفة السياق، وخصصت ثالث المباحث لعرض أهم القواعد المتعلقة بالسياق.
وأما الفصل الثاني، ف“أسباب النزول وأثرها في بيان معاني القرآن”، وقد انتظم ثلاثة مباحث: خصصت الأول منها لتعريف بيان القرآن بسبب النزول وأهميته، ورصدت في المبحث الثاني الإشارات التي قد تسعف في تأكيد وعي الإمام الشافعي المتقدم بأهمية العلم بسبب النزول، وتشكل النواة المؤسسة لضرورة اعتبار هذا الأصل في كشف معاني القرآن، ثم بينت احتفاء الإمام الشاطبي بسبب النزول، ونبهت إلى منهجه في تأكيد البعد الوظيفي والمقاصدي للبيان بهذا الأصل، بينما احتضن ثالث المباحث أهم القواعد المتفرعة عن هذا الأصل خاصة في كتاب “الموافقات”.
وأما الفصل الثالث، فوسمته ب”آثار السلف وسلطتها في بيان معاني القرآن”، وهو يضم تحت جناحيه مباحث ثلاثة، قصد أوّلها إلى تعريف بيان القرآن بآثار السلف وأهميته، وتمحض ثانيها لمقاربة جهود الإمامين الشافعي والشاطبي في التأصيل لبيان القرآن بآثار السلف تأكيدا منهما للبعد العملي للبيان، بينما رصد ثالثها أهم القواعد والضوابط المتفرعة عن هذا الأصل.
وأما رابع الفصول، فاخترت له عنوان: “النظر المقاصدي وحاكميته في بيان معاني القرآن”، انتظم ثلاثة مباحث: تناولت في أولها مفهوم النظر المقاصدي وحاكميته في بيان معاني القرآن وترجيح أولاها، وقاربت في ثانيها جهود الإمام الشافعي في التأسيس لأصول البيان مستصحبا النظر المقاصدي فهما وتنزيلا، وآثار الإمام الشاطبي في السعي إلى تقصيد البيان بما يعكس سبقه للتأصيل لما يصطلح عليه اليوم ب”التفسير المقاصدي”، وجعلت ثالث المباحث لعرض أهم ما وقفت عليه من قواعد تتعلق بأصل النظر المقاصدي.
وأما آخر فصول هذا الباب، فوسمته ب“النظر الكلي وأثره في بيان معاني القرآن”، وهو في ثلاثة مباحث: عقدت أولها لتحديد المراد بالنظر الكلي وأهميته في بيان معاني القرآن، ومحضت ثانيها لمقاربة موقع النظر الكلي في البيان عند الشافعي، وكيف آل هذا الأصل عند الإمام الشاطبي، أما ثالث المباحث، فتضمن أهم القواعد المتفرعة عن هذا الأصل.
وأما الخاتمة، فقد ضمنتها أهم ما اهتديت إليه من نتائج هذه الدراسة، ثم ذيلت البحث بفهرس للآيات والأحاديث والآثار، والمصادر والمراجع.
أهم الخلاصات والنتائج:
إذا كانت قيمة أي بحث إنما تظهر فيما اهتدى إليه من نتائج يمكن أن تكون دافعة لمسيرة العلم المبحوث فيه، فإني أزعم أن من الثمرات اليانعة لهذه الدراسة ما يلي:
أولا: أن مصطلح “البيان” سواء في دلالاته القرآنية، أو في اصطلاح العلماء، هو المصطلح الأنسب أكثر من غيره، لعلم غايته الكشف عن معاني القرآن واستنباط أحكامه وفهم مقاصده والعمل بهداياته، كونه أوسع المفاهيم وأكثرها إعمالا في القرآن بصيغه المتعددة، وكون إعماله في القرآن يأتي في الغالب مقترنا بأحد مقاصد القرآن كما بينتُ ذلك في الفصل التمهيدي لهذا البحث.
ثانيا: أن الإمام الشافعي قد حاز قصب السبق في التأسيس لأصول البيان بوضع اللبنات الأولى لهذا العلم، فكشف عن أصوله، وتناول ما يتعلق بها من قضايا وقواعد كلية يفصلها تارة، ويجملها تارة أخرى في “رسالته التأسيسية” لأصول العلوم الشرعية الخادمة للبيان القرآني.
ثالثا: أن الإمام الشاطبي قد عمد في كتابه “الموافقات”، إلى تقصيد قضايا البيان ومباحثه، فألبسها لبوسا مقاصديا بما يجعلها تنسجم وحقيقة البيان ومقتضياته كما بيّنها القرآن، وبما يفرضه واجب الوقت في زمانه رحمه الله، وهو في كل ذلك يضع نصب عينه البيان كما كان في العهد النبوي، وكما هو مأثور عن سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم من الأئمة العدول المهتدين.
رابعا: أن من مقاصد تأليف الإمام الشاطبي لكتابه “الموافقات”، وضع أصول وقواعد وضوابط، بها توزن العلوم والأعمال، وفي ضوئها يعرف حجم الموافقة منها لمقاصد الكتاب والسنة، ومقدارُ المخالفة.
خامسا: أن الإمام الشاطبي يمثل امتدادا للإمام الشافعي في التأصيل لكثير من القضايا الكلية التي تعدُّ قوام نظرية البيان، نحو الموقف من أصلية القرآن في البيان، ومن بيان السنة للقرآن، ومن تقرير لسلطة اللسان في البيان وغيرها.
سادسا: أن الإمام الشافعي قد سبق إلى ضبط مفهوم الإجماع وتحديد موقعه من عملية البيان؛ لئلا يصبح دليل الإجماع دعوى كل من لم تسعفه الأدلة لإثبات الرأي المجانب للحق.
سابعا: أن المراد بالاستحسان في كتاب “الرسالة”؛ ما كان من قبيل التفسير بالرأي المذموم، وهو ما يصطلح عليه عند العلماء ب”الاستحسان العقلي”، أما “الاستحسان الشرعي” فقد أقره الإمام الشافعي كغيره من أهل العلم.
ثامنا: أن الإمام الشاطبي قد نبه على مسالك أخرى يمكن أن تكون أكثر وفاء ببيان مراد الله من كلامه، بل جعل هذه المسالك حاكما مرجحا تكون الفيصل عند تعذر الجمع، وأهمها: النظر الكلي، والنظر المقاصدي، وآثار السلف…، فكان ذلك من آثار الشاطبي التجديدية لأصول بيان القرآن.
تاسعا: أن الإمام الشاطبي قد عوّل في البيان لمعاني القرآن ومقاصده على أعمال السلف وأحوالهم، ولم يقتصر على أقوالهم، وهو ما يجعلنا نسِمُ هذا المأخذ بـ“أصول البيان العملية”.
عاشرا: أن أصول البيان التي أعملها كل من الإمام الشافعي والإمام الشاطبي في التعامل مع القرآن فهما وتنزيلا، تنتظم أصولا نقلية هي: القرآن والسنة والإجماع، ولسان العرب، وأسباب النزول. وأصولا عقلية هي: السياق، والرأي، والنظر المقاصدي، وأصولا عملية تتجسد في آثار السلف، وأصولا استقرائية تتجلى في النظر الكلي للأدلة.
وختاما، فإني لأرجو الله عز وجلّ أن لا يُظَنَّ بي أني ممّن بلغت به الجرأة إلى منازعة العلماء الكبار والأئمة الأكابر حين زعمت أن لا مناص من نقد بعض المفاهيم وإخضاعها للتمحيص، وتجديد النظر فيها وبحثها ضمن السياق التاريخي الذي وردت فيه، فإن النقد والاستدراك والإضافة هو السنةُ التي تواضع عليها العلماء، وما أنا إلا طُوَيْلِب علم أراد أن يقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة، فلا أدري بعد ذلك أَفُكَّت الرقبة؟، وحسبي أنني حاولت حلحلة بعض المفاهيم التي تواترت عن قضايا علمية ومسائل كلية عسى أن تعود إلى أصل فطرتها ووظيفتها البيانية، فيتسع مجال إعمالها بما لا يقدح فيما كان منها قبْلُ، استثمارا لمقصدية العلوم الشرعية مجسدة في خدمة القرآن بيانا وإفهاما، واستحضارا لحقيقة التداخل الموضوعي والتكامل المنهجي بين العلوم الخادمة للقرآن عامة، وبين علمي أصول الفقه وأصول التفسير خاصة.
سبحانك لا علم لنا إلّا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) النحل: جزء الآية 44.
زر الذهاب إلى الأعلى