امتحان الإنسان في الظن بالرحمان

 الباحث عبد الصمد السكراتي.
      لقد قامت الأدلة المتظافرة، على أن هذه الحياة الدنيا دار اختبار وامتحان، للإنسان المستخلف فيها ليمارس اختياره على أساس الإيمان بالله أو الإعراض عنه، وقد فطره الله تعالى على السعي دوما بحثا عن تحصيل الملذات والابتعاد عن الآلام، وتحقيق هدوء النفس واطمئنانها، والتخلص من القلق والخوف، والعيش في هناء وسعادة، وهذا لا يكون إلا بممارسة الإيمان بالله العظيم، وبصفاته العلى وأسمائه الحسنى، واليقين الجازم في اتصاف الله بالكمالات المطلقة، وعلى رأسها القدرة والرحمة والإحسان.. والتنزه عن كل عيب وسوء، ونقيصة تتناقض وكمال ألوهيته، وتمام إنعامه على خلقه، بما ارتضاه من نظام كوني، وشرع منزل هدى ورحمة للعالمين.
      وإذا صح القول بأن مدار نظام الله الاستخلافي للإنسان في الأرض على قانون الابتلاء بالشر والخير معا فإن ذلك يظل على الدوام مثار ظنون بالله تعالى قد تسوء وقد تحسن بحسب رسوخ الاعتقاد في كون كل خير فهو من الله وكل شر فهو من نفس الإنسان، وفق ما قرره الله في القرآن؛ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79].
       فالذي يمكن من النجاح في امتحانات الابتلاء العسيرة هو التزام حسن الظن بالله في كل آن، وعند كل سراء أو ضراء، كما بين الله في قرآنه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [البقرة: 155 – 157]، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 1، 2]، فإحسان الظن بالله من أقوى الأسباب لإحسان العمل، والثبات حال الابتلاء بالمكاره والمحن، والعيش باطمئنان القلب والظفر براحة البال.
       فالإنسان المستخلف عندما يختار السير في طريق الإيمان بالله، وتقديره حق قدره، والاعتقاد في جلاله وجماله وكماله، فإنه حتما يمتحن في إيمانه، بما يعترضه على امتداد الحياة وخوض غمار أوضاعها المتقلبة، من فتن وابتلاءات قد يضطرب بها اعتقاده ويفسد إيمانه، إذا تسرب سوء الظن بالله إلى قلبه، فأهمله حتى تزايد وترسخ، ولم يدافعه بما يلزم من المجاهدة والتذرع بالصبر، والإكثار من سؤال الله اللطف فيما جرت به المقادير، والتماس الثبات بمراجعة حقائق الدين الاعتقادية وعلى رأسها الرضى بالقدر، وتصحيحها على ضوء ما يتعاقب من المحاب والمكاره، الناجمة عن الابتلاء خيره وشره.
      فالاستخلاف إذا هو الأصل الأصيل من الدين، الذي في إطار طبيعته ومقتضياته، تتأكد أهمية حسن الظن بالله، بحيث يمكننا فهم حقيقته وخطورته في حياة الإنسان، ومن ثم امتلاك القدرة على ممارسته على الوجه الصحيح، المحقق لسعادة الدنيا والآخرة، فإذا أحسن الشخص الظن بربه ولزمه، حافظ على إيمانه بالله تعالى، وإذا أساء الظن به اختل اعتقاده في الله، وجره ذلك للكفر الصراح، لأنه قد تصور له نفسه المفتونة بالبلاء، بأن الله خلق الحياة عبثا، وأنه لا يقدر على التحكم فيها وتدبيرها، وفق ما يخليها من الآلام والشرور والمعاناة، التي تملأ حياة بعض الناس شقاء وتعاسة، وأنه ترك حياة الناس عرضة لمتغيراتها العبثية، تفعل بهم ما لا يقبلونه دون غاية أو مغزى واضحين، مما يعد أمرا مستحيلا في حق الله الخالق العليم.
     وإذا أساء المرء الظن بخالقه أساء العمل، وتراجعت قدرته على فعل الصالحات والمبادرة إلى الخيرات، قال الطبري بسنده إلى الحسن (تلا الحسن: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[1]. فقال: إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم، فأما المؤمن فأحسن بالله الظن، فأحسن العمل، وأما الكافر والمنافق، فأساءا الظن فأساءا العمل) كما أن سوء الظن بالله عز وجل سبب في استحقاق لعنة الله وغضبه وعذابه، قال تعالى:(وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا[2].
       فإحسان الظن بالله عز وجل، أساس مكين في الفهم والتفكير والاعتقاد، يعصم القلب من الارتياب في كمال الله وعظيم شأنه، ويصون النفس من الجزع والضيق بأقدار الله المؤلمة، ويحمي العقل من التأويلات الواهمة والمجحفة في حق المولى سبحانه، ويجعل الإيمان قائما على أسس سليمة صحيحة، تجعل الإنسان يدرك حقيقته وحقيقة ربه، وحقيقة المهمة الاستخلافية المنوطة به.
     فمن يختار إساءة الظن بالله، تمتد أمام ناظريه ما تصوره النفس بأنها دلائل حاكمة به ومؤكدة له، ويغيب عنه تبين بأن ذلك من تسويلات النفس الناجمة عن توجه قبلي وموقف سابق، ولو أنها طلبت دلائل إحسان الظن لبدت لها متاحة ومتوافرة.
     فالله عز وجل ما خلق شيئا إلا لمصلحة، وما قال شيئا وما فعل شيئا إلا لحكمة بالغة أرادها، فخلقه ليس عبثا وإنما مقصودا لغاية عظيمة، فإساءة الظن بالخالق الرحمان الرحيم فرع عن الفشل في الابتلاء، الشيء الذي يتطلب منا الحذر الشديد حتى لا يغلب علينا هذا النوع من الظن، فكلام الله عز وجل وتدبيره يحتمل فهمهما الخطأ والصواب والإساءة والإحسان، لاندراجهما في إطار نظام الابتلاء الشامل لكل تفاصيل الحياة ودقائقها، حتى يميز الله الخبيث من الطيب، ويعرف من له رغبة في الاستمرار في حسن الظن به، ممن سينقلب على عقبيه فيسوء ظنه بالله.
    كما لا يمكن نفي سوء الظن بالله عن النفس المؤمنة مطلقا، بل هو وارد عليها عند الابتلاء بالنعم والنقم على حد سواء، وهو ما ذكر الله به المؤمنين في غزوة الأحزاب، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 9 – 11].
    فالمكلف مدعو على الدوام لمدافعة ظن السوء ومنع هيمنته على تصوره لحقيقة الله، والانتقال إلى معانقة إحسان الظن بالله، فور استشعار أي شوائب تعكر صفوه، وتهدد استمراره ورسوخه.
    وهذا ما لا يتأتى إلا بإساءة الظن بالنفس، وبصحة علمها وتصورها للحقائق، واعتقادها الخاطئ بإحرازها الحقيقة الكاملة والمعرفة الصحيحة، التي لا يتطرق إليها خلل أو نقصان، ثم إساءة الظن أيضا بجدية النفس في طلب الهداية والاستعداد لالتزامها في جميع الأحوال، وأنها أمارة بالسوء خداعة ومكارة عدوة شرسة للإنسان تكيد له أكثر من الشيطان.
     ويلزم كذلك معرفة الله معرفة حقة، وفهم الدين فهما صحيحا دقيقا، لا يشوبه نقص ولا تحريف، ولا شذوذ ولا انحراف، ثم فهم معاني وأسماء الله الحسنى وإدراك صفاته على نحو سليم، والإلمام بكل ما يحيط بتلك الأسماء والصفات، والاطلاع التام على مقدار حكمة الله، وقدرته في خلق الخلق وإيجادهم، واعتقاد إحسانه في العطاء والمنع، وفيما يصيب به العبد من مصائب وابتلاءات وهموم، وملازمة اجتناب المنكرات والمعاصي والآثام، والتوبة من كل ما اقترف من ذنوب وخطايا، ثم الإقبال على الله بحسن العمل والعطاء والطمع في جنانه، وأن يدرك المسلم أن خزائن السماوات والأرض بيد الله وحده، وأنه المتصرف الوحيد فيها، وهو الذي يتفضل بها على من أراد من عباده، ويمنعها عمن يشاء اختبارا لكلا الطرفين، وأن كل نقص أوعيب أو وضع مختل، سواء كان بسبب بين من الإنسان، أو بعيدا عن تدخله ومعاكسا لرغبته، فيلزم ألا يجر إلى ما يحمل على إساءة الظن بالله، أو يخدش في إحكام نظامه، ودقة تدبيره لكل أمور كونه.
     فإحسان الظن بالله عز وجل، يعيننا على إحسان فهم وتحليل مجموعة من الإشكالات الحياتية والعقلية، والاقتدار على تجاوزها ومن ذلك: إشكالية ابتلاء الإنسان بما يؤلم ويحزن ويخالف رغبات النفس وأهواءها، ويقطع مألوفاتها وعوائدها المحببة إليها.
    فكل ذلك غالبا ما يبدو للنفس، كما لو أن الله يريد فقط إيلامها، وقطع ملذاتها دون مسوغ واضح ولا دليل مقنع، ثم تأتي إشكالية اقتران الخير بالشر والصلاح بالفساد، وتداخل دلائل الحق والرشد بدلائل الباطل والزيغ.
     فاطراد سنة التضاد والازدواجية في الحياة الدنيا، مما يوقع في إساءة فهم حكمة الله في نظامه الكوني، وإساءة الظن بعلمه بمصالح الخلق وقيامه على رعايتها، وصون الحياة من العبثية وانعدام المعنى، الباديين للنظر الساذج والتفكير السطحي، كما قد تزداد صعوبات الإيمان بالغيب، في ظل الافتتان بعالم الشهادة وجاذبيته الشديدة على النفس. وعجز العقل المطبق عن استيعاب كل أبعاد عظمة الله وكماله وتفرده في ذاته وصفاته وأفعاله وحكمته.
     فمثلا قد يصعب على العقل البرهنة على أن الله خالق غير مخلوق، إذا لم يكن مستعدا للتسليم بأنه سبحانه وتعالى أزلي لا بداية له ولا نهاية، وأنه ليس كمثله شيء، فلا تصح تسويته بخلقه من أي وجه. فكل الاعتقادات الغيبية محاطة بتعقيدات جمة، لا مخرج منها إلا بالتسليم التام، واليقين الإيماني بتفرد الله في ذاته وصفاته وكل شؤونه، وليس ذلك مما يتأتى بالاستدلال العقلي وحده ابتداء، وإنما انتهاء وتسليما وإذعانا، وأكثر من كل ذلك وإحسانا للظن بالله، مما يجعل الإيمان بالغيب اختيارا حرا وليس مفروضا على النفس بسلطان دليل نقلي أو عقلي، لا بد لها من الخضوع الاضطراري إليه وقد سلبها حرية القرار والاختيار.
    ومما يغنمه محسن الظن بالله، أن اليأس من رحمة الله، والضيق بتدبيره وحكمه، والشك في علمه وقدرته وحكمته، لا يجد شيء من ذلك في الغالب الأعم سبيلا إلى قلبه، وينعم بالرضا والطمأنينة القلبية والفكرية، ويحظى باستجابة الدعوة ومغفرة الذنوب، وغير ذلك من عطاء الله الوفير، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ” والذي لا إله غيره ما أعطي عبد مؤمن شيئا خيرا من حسن الظن بالله عز وجل، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله عز وجل الظن إلا أعطاه الله عز وجل ظنه ذلك بأن الخير في يده”[3]. وقال جابر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: “لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل”[4]. كما يتمكن من فهم حقيقة الابتلاءات وكيفية الاستفادة منها، ويأمن الخوف من المستقبل.
     وكمثال على هذه الابتلاءات، التي تتطلب منا أن نضبط فهم حقيقتها وكيفية الاستفادة منها، ونحسن الظن بالله عند نزولها، ونثق في تدبيره الحكيم لما يجري في كونه، هي وباء كورونا الذي يشهده العالم بأسره هذه السنة، والذي خلف عدة خسائر في النفوس والاقتصاد.
     فالابتلاء بما ظاهره المحنة، من أهم الحالات التي يجب أن نواجهها بإحسان الظن بالله، فنتطلع إلى كونه منحة من منح الله الحكيم الرحيم لا محنة فحسب، لكي نقوى على تحمل آلامه ومكارهه، ونحول دون استبداد الجزع بالنفس، والدفع بها إلى الوقوع في إساءة الظن بالله، والشك في بالغ حكمته، فلو أننا نلوذ بالثقة في الله عند نزول المصائب، لحولنا الدواهي إلى حال من الرضى بالله والاطمئنان إلى لطف قضائه، وإبصار تجليات حكمته وحسن تدبيره، إذ سرعان ما تضمحل المعاناة وتعود الحياة إلى سيرها المعتاد، فيغمر النفس الابتهاج بالثبات والتجمل بالصبر والسكينة، وقد ظفرت بحفظ إيمانها من الاهتزاز والاضطراب، وغنمت ثواب الصابرين والمحتسبين، والموقنين في سعة فضل الله ومحكم نظامه الابتلائي، المهيمن على حياة جميع الآدميين.
      فالثلاثة الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك، لم يكشف عنهم ما ألم بهم من كرب وضيق إلا بعدما أحسنوا الظن بربهم، قال تعالى: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )[5]. وتأمل في قوله: (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ) فلما أحسنوا الظن بالله كتب لهم التوبة وتحدث عنهم في القرآن.
     ومن آداب الابتلاء، أن يتيقن المبتلى أن الذي ابتلاه هو الله العدل الرحيم وليس غيره، وأن يدرك بأن سببه قد يكون ما اقترفته يداه، وكسبته نفسه من ذنب وانحراف، ليعذبه الله به ويؤدبه ويكفر عنه سيئاته، أو لينبهه على بداية زيغه عن الصواب، أو ليكرمه ويحسن إليه ويزكي نفسه ويرتقي بإيمانه.
      وقد يساق البلاء إليه كما إلى غيره من الخلق، امتحانا لهم وله ليعلم مدى إيمانه وصبره ورضاه على ما أصابه من الابتلاء، وكي يسمع الله دعاءه في جوف الليل، وليراه متذللا له سبحانه، يرجوه ولا يرجو غيره، ويدعوه ولا يدعو سواه، دعاء المضطر الضارع المنكسر، الواثق بفرج الله وإحسانه لعباده.
     وليرى الله هل سيصبر على ما أصابه، ويرضى بحكم الخالق المدبر الحكيم ويحسن الظن به؟ أم أنه سيميل إلى ما يصوره له عقله، وتمليه عليه نفسه من الارتياب، في تدبير الله الحكيم لأمر المكلفين من خلقه، فيزل عن سواء الإيمان ويسقط في الاختبار؟
     ومعلوم أن المؤمن الحق، يستفيد مما يعترضه من محن ونوائب ومكاره، رسوخ الاعتقاد بالطابع الابتلائي للحياة الدنيا، والاستيعاب السديد لمراد الله من امتحان خلقه بالشر والخير، سواء بما يحصل له شخصيا منها، أو ما يحصل لغيره من الناس أقارب وأباعد. كما يتأكد بأن الابتلاء من أنفع الوسائل في تزكية نفسه، وزيادة إيمانه بالله ويقينه في لقائه، والصبر على المكاره والشكر على النعم.
     ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)[6]. فما أروع حسن الظن بالله حين يوقن المؤمن أن بعد الكسر جبرا، وأن بعد العسر يسرا، وأن بعد التعب راحة، وبعد الدمع بسمة، وبعد المرض شفاء، وبعد الدنيا جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
قال الشاعر:
قل للذي ملأ التشاؤم قلبه     ومضى يضيق حولنا الآفاق
سر السعادة حسن ظنك بالذي     خلق الحياة وقسم الأرزاق
     وختاما يمكن القول بأن حسن الظن بالله من العبادات القلبية، التي لا يمكن أن يكتمل إيمان العبد إلا بها، لأنها من مرتكزات التوحيد وواجباته، الشيء الذي يدعونا إلى زيادة إحسان الظن بالله تعالى، حتى نرتقي في مدارج السالكين للطريق المستقيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – فصلت الآية: 23.
[2] – الفتح الآية: 6.
[3] – رواه ابن أبي الدنيا في حسن الظن.
[4] – رواه مسلم.
[5] – التوبة الآية: 117-118.
[6] – رواه مسلم.

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى