بناء الإنسان في القرآن والسنة

عبد السلام محمد الأحمر ناقش بتاريخ 14 صفر 1418 موافق 19 يونيو 1997 رسالة دبلوم الدراسات العليا “شهادة الماجستير”، في الدراسات الإسلامية تخصص الفكر والحضارة بجامعة محمد الخامس بالرباط في موضوع “بناء الإنسان في القرآن والسنة”، تحت إشراف الأستاذ الدكتور فاروق حمادة ونال هذه الشهادة بميزة حسن جدا.
تقديم:
      إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة، ونصح الأمة وكشف الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، ونحن على ذلك من الشاهدين وبه مومنون ومصدقون، وعلى نهج إرشاداته سائرون.
     أما بعد، فإن الإنسان أعز شيء، ومن أجل ما خلقه الله تعالى وكرم في هذه الحياة، وقد تعهده سبحانه وتعالى بالعناية والرعاية، ووضع له أسس المناهج السديدة، التي إن عمل بها أفلح ونجح، وإن تنكبها خاب وخسر، وقد أصبح الإنسان اليوم ممزقا حائرا وتائها ثائرا، لبعده عن مناهج الوحي الخالدة الرامية لتكريم الإنسان وإسعاده بتحمله أمانة الاستخلاف عن الله في الأرض.
      ولقد اخترت البحث في هذا الموضوع، تذكيرا وتبصيرا لكل مصلح غيور، ووضعت لنفسي شرطين حاولت الالتزام بهما فيه، حتى يكون عملا نافعا ومقبولا إن شاء الله:
أولهما: أن تكون فكرته أصيلة في الدين، معلومة في شرعته، مقررة في مصدريه كتاب الله العظيم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، استجلابا للسداد واحترازا من غلبة الهوى، الذي لا يسلم منه أحد، إلا نبي معصوم.
ثانيهما: أن يكون مرتبطا بقضايا المسلمين الفردية والجماعية، وأن يستهدف التفاعل مع هموم الأمة وانشغالاتهم الكبرى، والمساهمة حسب الوسع في بلورة بعض الحلول لمشكلات قائمة.
      فكان اختيار هذا الموضوع “بناء الإنسان في القرآن والسنة” تحقيقا للشرطين المذكورين، وفيما ياتي توضيح ذلك:
أ ــ فالمقصود ببناء الإنسان، تربيته وتكوينه وإعداده، ليكون إنسانا سويا، عابدا لله عن إرادة واختيار، عارفا بواجباته، مقتدرا على أدائها بإتقان وإحسان، وهذا مقصد ديني عام، تسعى لتحقيقه العقيدة والعبادات والأخلاق، وجميع أحكام الشريعة المختلفة.
ب ــ إن مشكل الأمة الإسلامية الرئيسي ــ وهي الوارثة لكتاب الله المحفوظ وسنة نبيه الهادية ــ يكمن في افتقاد الإنسان الذي يتمثل الإسلام، ويحيا على نهجه الصحيح؛ فمضمون الوحي السماوي لا يفعل في واقع الأرض، إلا عندما يوجد الإنسان الذي يؤمن به، ويتحرك على هديه في مناحي الحياة؛ وكل محاولة للنهوض بالأمة من جديد، لا تولي بناء الإنسان على نهج الإسلام العناية اللازمة، ستكون عرضة للفشل والانتكاس لا محالة، وهذا ما قرره الله سبحانه في القرآن الكريم (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الرعد 11).
      إن الناظر في المناهج التغييرية، التي أنتجها الفكر الإسلامي المعاصر، يتبين أنها تصرف غالب جهدها إلى التماس أسباب الإصلاح والتغيير المختلفة، دون إيلاء إعداد الإنسان العناية اللازمة، باعتباره موضوع الإصلاح الأساس، وركيزته الأولى.
      وأرى أن هذا الخلل الشائع في معظم الاتجاهات الفكرية المعاصرة، وحتى داخل الثقافة الإسلامية، يجب أن يستنفر الأقلام ويحفز الهمم للقيام بواجب النصح والبيان.
      ولقد اخترت صيغة بناء الإنسان بدل تربية الإنسان، لما في كلمة بناء من إيحاء وتنبيه، على ضرورة تقديم بناء الإنسان قبل أي بناء أو إنجاز، إذ عليه يقوم كل بناء وبه يكون صلاحه أو فساده.
ج ـ ولقد ربطت بناء الإنسان بالمصدرين الرئيسيين للإسلام القرآن والسنة، إيمانا بأن الوحي هو أساس المنهج الأقوم لبناء الإنسان القوي الأمين، الصالح في نفسه المصلح لغيره.
      وكل فكر في هذا المجال، لا يستنير بنور الوحي، ولا يهتدي بهدي الشرع، يكون بادي العوج شديد الاضطراب.
      هذا وقد واجهتني في بحث هذا الموضوع، صعوبات ناجمة عن اتساع مجاله، إذ ما من تكليف من تكاليف الشرع، أو حكم من أحكامه، إلا ويسهم بطريق مباشر أو غير مباشر، في بناء الإنسان وتربيته التربية الإسلامية الشاملة، لكن بعد تفكير طويل اهتديت إلى افتراض أن المسئولية هي الأساس العام لبناء الإنسان في القرآن والسنة، واعتمدت في ذلك على عدة تحريات واستقراءات واعتبارات، أذكر منها على سبيل المثال:
1ـ إن المسئولية هي أهم ما يميز الإنسان عن باقي المخلوقات عدا الجن. قال تعالى: (انا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان إنه كان ظلوما جهولا) (الأحزاب 72).
      وابتلاء الإنسان بحمل الأمانة وممارسة المسئولية، هو الغاية من خلق الإنسان، والدنيا والآخرة، ومن بعث الرسل، وإنزال الكتب. فما من أمر أو نهي يرد في الشرع إلا وهو جزء من المسئولية العظمى التي اختص الله بها الجنس البشري.
      ومن ثم فإن أسمى غاية يمكن أن يسعى إليها بناء الإنسان، وتنضبط لها وسائله ومناهجه، هي إعداد الانسان إعدادا كاملا، للقيام بالمسئوليات الشرعية الملقات على عاتقه في هذه الحياة الدنيا.
      ثم إن الإحساس بالمسئولية بين يدي الله تعالى، هو أصل الإقدام على فعل الطاعات والمسارعة في الخيرات، والإحجام عن اقتراف الآثام والمنكرات.
      فإذا خلت النفس الإنسانية من الشعور بالمسئولية وما يلازمه من رغبة في الثواب، ورهبة من العقاب، تقاعست عن أداء الواجبات وتراخت في اتقاء الممنوعات، فصارت بذلك أبعد عن الخير وأقرب إلى الشر.
      فليس إذن كالمسئولية الشرعية منهج تربوي أقدر على جعل الإنسان يراقب نفسه ويحاسبها، ويحملها على الارتقاء في درجات الكمال الإنساني، بكل ما يتضمنه من صلاح ذاتي وإصلاح في الأرض.
2ــ والكلام عن المسئولية أساسا لبناء الإنسان بعد ذلك، تمليه أوضاع الأمة الراهنة، حيث أصبح تضييع الأمانة والإخلال بالواجب سمة بارزة، بل قاعدة عامة، لا يكاد يشذ عنها إلا القليل من الناس. وغدا الفرد المسلم الحريص على دينه، يعاني عنتا كبيرا وحرجا شديدا، وهو يواجه تيار التسيب والوهن وانحسار الضمير، وما ينتج عن هذه الحالة من انتشار الرذائل، وطغيان الفساد والانحلال الأخلاقي، بحيث تقوى أسباب الانحراف والغواية داخل المجتمع، وتتدنى أو تنعدم عوامل الاستقامة والصلاح. فلا ينفع نفس إلا استشعارها للمسئولية التي لا تسقط عنها في مثل هذه الظروف الصعبة.
      بل إن المسئولية تقتضي في هذه الحالة، ليس فقط أن يكتفي الفرد المسلم بالتزام الشرع في خاصة نفسه، وإنما أن يعمل على إصلاح المجتمع برمته.
3ــ ومن جهة أخرى، فإن البحث في موضوع المسئولية وبناء الإنسان، يتجه إلى المساهمة في رفع التحدي الذي تمثله الحضارة الغربية حاليا بالنسبة للفكر الإسلامي، الذي عجز في القرون الأخيرة عن إخراج الإنسان المسئول والفعال، الذي يستطيع أن يضاهي الإنسان الغربي في مجال الإبداع والإنتاج وعمارة الأرض.
       ومما يزيد في حدة هذا التحدي الأمور الآتية:
أولا: إن الدين الإسلامي يشتمل في عقيدته وعبادته وأخلاقه وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الأبرار، على كل المقومات اللازمة لبناء الإنسان المتفاني في أداء المسئوليات بتلقائية واقتدار لا مثيل لهما.
      فإذا كان القيام بالواجب في الحضارة الغربية ضرورة لاغنى عنها، لتحقيق الرقي المادي الدنيوي، وضمان الرخاء والاستقرار الاجتماعي، فإنه في الإسلام دين وعبادة، ومنهج شامل للسعادة الفردية والجماعية، في الدنيا الفانية والآخرة الباقية.
ثانيا: إن الأمة الإسلامية اليوم مقارنة بغيرها من الملل أمة متدينة، تقيم الصلاة، وتصوم رمضان، وتحج إلى بيت الله الحرام، وتتلوا كتاب الله، وتدرس سنة نبيه عليه الصلاة والسلام، لكنها في ذات الوقت تعاني من فقدان الإحساس بالمسئولية وتدهور القيم والأخلاق.
      فالأمة الإسلامية في حاجة إلى تجديد تدينها، واسترجاع حيويته في النفوس، ورفع فاعليته إلى ما يناسب مقام الشهادة على الأمم، وإقامة الحجة في العالمين. إنها في حاجة إلى تخليص الدين تصورا وممارسة، مما شابه من دخن الفهم وخالطه من انحراف السلوك.
4ــ إن الإنسان المسلم في العقود الأخيرة قد وضع قدميه على طريق العودة إلى الإسلام، دينا قيما ومنهجا ربانيا كاملا، يدفعه في هذا الاتجاه إحساس عميق بالمسئولية، تجاه خالقه ونفسه وأمته، ومظهر ذلك هذه الصحوة المباركة، التي عمت أرجاء العالم وأنعشت في النفوس الأمل بقرب استئناف الحياة الإسلامية الكريمة.
       والمتتبع لمسار الصحوة، وما تعرفه من نجاح وإخفاق أحيانا، يدرك أن أهم عمل يواجهها، هو بناء الإنسان، الذي يتحمل أمانة إعادة بناء الأمة الإسلامية، على أسس الإسلام وبوسائله. ولما كانت هذه المهمة مسؤولية عظيمة، وامتدادا لأمانة الاستخلاف في الأرض، وتحتاج ممن يتصدى للقيام بها، أن يكون قويا أمينا، فإنه لا مناص من اعتماد المسئولية إحساسا وممارسة، عند وضع برامج ومناهج بناء الإنسان الذي يعول عليه في المهام الجسام، والإنجازات الحضارية الخالدة.
       هذه صورة عن مقاصد هذا الموضوع وبعض أبعاده، فإن أدركت فيه الصواب فذلك من فضل الله وتوفيقه، وإن زللت في شيء منه فحسبي أنني طلبت الحق وسعيت إليه قدر الاستطاعة، والحمد لله رب العاملين.

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى